الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 411/مسألة الفقر

مجلة الرسالة/العدد 411/مسألة الفقر

بتاريخ: 19 - 05 - 1941


للأستاذ عباس محمود العقاد

سألني الأستاذ زكي مبارك عن رأيي في الخلاف القائم على مسألة الفقر بينه وبين الأساتذة: توفيق الحكيم، وسلامة موسى، وفكري أباضة، وبعض حضرات القراء

وخلاصة هذا الخلاف أن الدكتور زكي مبارك يرجح أن الفقر عقوبة مستحقة على شيء من القصور، وان مخالفيه يرجحون ان الفقر غلطة اجتماعية تصيب الناس من خلل في (المجتمع) أكثر من إصابتها أيام من تقصير في الجهود. وعندنا نحن أن الفقر داء كسائر الأدواء: يصيب المريض به من إهماله كما يصيبه من ضعفه الموروث، ويصيبه مع الحيطة إذا جرى مجرى الوباء الذي تنتشرعدواه، كما يصيبه مع ترك الحيطة في هذا الحال وفي غيرها من الأحوال

وليس في وسع أحد أن يزعم أن ميزان المجتمع سليم من الخلل في توزيع الأرزاق أو تقدير المكافآت على حسب الجهود. ففي كل أمة أغنياء لا يستحقون الغنى وفقراء لا يستحقون الفقر وإن تفاوت الخلل وتفاوت الجور وتفاوت السعي في الإصلاح.

ولست أنا ممن ينكرون فضل البراعة المالية، لأنها في الحقيقة براعة لازمة لتأسيس المرافق الاجتماعية والأخلاق القومية وتنظيم العلاقات، واستشارة الهمم، وتوزيع الأعمال التي لا يستبحر بغيرها عمران

وقد قلت منذ نحو عشرين سنة حين عرضت للبحث فيما يعاب من أخلاق المرأة خطأ وجهلاً بالبواعث النفسية:

(. . . أننا قد نرى للمرأة سبباً غير الأسباب التي تغري بحب المال وإعظام أصحابه: نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبار لاختبار قوة الرجل وحيلته، وأدعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار، واجتلاب الإعجاب والإكبار. فقد كان أغنى الرجال في القرون أقدرهم على الاستلاب وأجرئهم على الغارات وأحماهم أنفاً وأعزهم جاراً، فكان الغنى قرين الشجاعة والقوة والحمية، وعنواناً على شمائل الرجولة المحببة إلى النساء أو التي يجب أن تكون محببة إليهن. ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاق وتجثم الأخطار والتمرس بأهوال السفر وطول الاغتراب، وأقدرهم على ضبط النفس وحسن التدبير. فكان الغنى في هذا العصر قرين الشجاعة أيضاً وقوة الإرادة وعلو الهمة وصعوبة المراس. ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظراً وأوسعهم حيلة وأكيسهم خلفاً وأصلبهم على المثابرة وأجلدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس، فكان الغنى في هذا العصر: قرين الثبات والنشاط ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور؛ وهكذا تجد اكتساب المال الكثير في كل عصر دليلاً على فضل الرجل، وعلاقة توحي إلى نفس المرأة ما يعين غريزتها على اختيار أجدر الرجال بحبها وأصلح الآباء لأبنائها. فلا تثريب عليها أن تختبر مزايا الرجل بهذا المسبار السهل القريب، ولا لوم عليها أن تريد ثراء المال ولا تعدل به الفقر والفاقة. . .)

فنحن لا نبخس البراعة المالية حقها ولا نغض من نفعها في باب الخدمة الاجتماعية، ولا من دلالتها على الخلق والكفاءة العقلية، ولكننا مطالبون في هذا العصر الحديث بإنقاذ المجتمع من الخلل الشديد الذي ألم بموازين الاقتصاد ومعايير الأرزاق حتى اصبح اقتناء الثروات ميسراً للمحتال والدجال الذي لا يعطي الناس بديلاً نافعاً يساوي الربح الغزير الذي يتدفق عليه. ولعلنا نتلطف في الأمر حين نقول إنه لا يعطي الناس بديلاً نافعاً وهو في الواقع يضرهم بمقدار ما يستفيد منهم، ويحرمهم بمقدار ما يغدقون الرزق عليه طائعين أو كارهين

ومثل من هذه الأمثال أولئك السماسرة الآثمون الذين يتواطئون على إشاعة الأراجيف، وإقلاق الاسواق، واللعب بأثمان الإسناد والأوراق ليسرقوا في ساعات ما تنقضي الأعمار دون الوصول إليه بالسعي الحلال أو بالسرقة على طريقة اللصوص الأقدمين

ومثل آخر من هذه الأمثال تلك الصفقات التي تنعقد في الهواء بغير مبادلة صحيحة في البيع والشراء، وإنما هي استغلال لثقة الناس التي كسبها أولئك المستغلون بحكم مراكزهم الاجتماعية أو المالية لا بحكم الكفاءة والجهد وتثمير المال الحلال

وإذا ارتفعنا شيئاً فشيئاً من هذه الهوة الغائرة في قرارة الإجرام فقد نصل إلى الكفاءات القيمة التي تعطى الناس ما ينفعهم ويسرهم، ولكنها تتقاضاهم جزاءً لهم أضعاف حقهن وأضعاف ما يحتاجون إليه لموالاة النفع والسرور

فإخراج رواية على اللوحة البيضاء عمل قد ينفع العقول ويدخل السرور على القلوب، ولكن الدنيا تسرف جد الإسراف حين تشتري نفع الرواية وسرورها بمئات الألوف من الجنيهات وهي تضن بعشر معاشر هذا على المآثر الإنسانية التي يتصل بها نفع أقوام وبمرور أجيال

واقبح من هذا أن تكون الألوف المؤلفة نصيب الرواية الماجنة العقيمة ولا تحضي ببعض هذا النصيب أجود الروايات وأحفلها بالمعارف والمتع والعظات، أو يكون الجزاء الوافر حظ الممثل الذي لا يستحي ان يعرض رجولته للفضوليات من المتفرجات، ولا يكتب هذا الحظ لنوابغ الفن وأفذاذ الرجال

هناك خلل في الميزات لا نكران له ولا مناص من إصلاحه، لأن الغبن فيه غبن الأمم، والبلاء فيه بلاء الهمم، وليس غبن فقير يشكو الفاقة، أو بلاء ضعيف يطلب الرحمة والإنصاف

ولا نطمع أن يجيء اليوم الذي يتساوى فيه العمل والجزاء كل المساواة، ويبطل فيه الخلل بطلاناً يمنع الحيف ويحقق العدل في كل تقدير؛ فهذا مستحيل، ولعله غير محمود في عقباه، لأن الدوافع الحيوية إذا استقامت هذه الاستقامة خيف عليها أن تفقد الاندفاع الذميم على السواء

لكننا إذا استبعدنا الكمال المطلق فالنقص المطبق أولى منه بالإبعاد، وبين المثل الأعلى والمثل الأدنى خطوات لا تعيا بها قدرة الإنسان ولا يجمل به أن يقعد عنها مكتوف اليدين مقيد الرجلين، وحاجة مصر إلى الجهد في هذا الباب اعظم من حاجة بلاد كثيرات يعلو فيها صراخ لا يسمع له صدى في هذه البلاد

وقوام الإصلاح في مسألة الفقر على أن ما نرى أن نذكر الحقائق كلها ولا نكتفي بجانب واحد منها دون سائر جوانبها

أو الخير في هذه المسألة أن نقرن كل حقيقة جامحة بحقيقة كابحة تساويها وتكف من غربها

فأول الحقائق في مسألة الفقر أن حياة الإنسان كائناً ما كان أنفس من القوت والكساء ومطالب المعيشة، وأنه ما من مخلوق آدمي يعجز عن تقديم خدمة تكافئ ثمن قوته وكسائه ومطالب عيشه. فإذا هلك إنسان جوعاً أو عرياً ففي تقسيم الأعمال نقص يستدركه المصلحون والمتكلفون بسياسة الاجتماع وبإزاء هذه الحقيقة الظاهرة حقيقة أخرى لا تقل عنها ظهوراً وجدارة بطول العناية والتدبر، وهي أن الأمان كل الأمان، خطر على الهمم والأذهان. فإن كثيراً من الجهد النافع مبعثه طلب الأمان في المستقبل، وشعور النفس بالحاجة إليه في أخريات الحياة. فإذا اطمأن إليه كل حي من بداية حياته فترت حركته وغلب عليه حب الاستقرار، ومني العالم بخطر من جراء ذلك هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال وتوزيع بعض الأرزاق

وهناك حقيقة لا مراء فيها وهي أن المغامرين المقتحمين ينالون أحياناً فوق ما يستحقون من جزاء، ويأخذون أحياناً بعض ما يستحقه المحرومون الذين لا وزر عليهم في هذا الحرمان

أما الحقيقة التي بازائها فهي أن المغامرين المقتحمين ينكبون أحياناً في الأرواح فضلاً عن نكبتهم في الأرزاق والأموال، وأنهم لا ينطلقون مع طبائعهم القوية في عالم تشتد قيوده وتتساوى نتائجه ولا تتسع فيه الهوة بين الأمل العظيم في نجاح كبير وبين الإقدام العظيم على خيبة قامة للظهور، وأن خسارة العنصر المسالم الوديع

وهناك حقيقة من هذه الحقائق فحواها أن الغنى ليس بجريمة، وأن الفقر ليس بفضيلة، فلن يقول أحد به مسكة عقل أن الأغنياء، وأن الفقراء يستحقون الغنى لأنهم فقراء، وأن جاز أن يقال أن الإفراط في الغنى والإفراط في الفقر ظلمان محققان

أما الحقيقة التي بازائها فهي أن الأمر لا يرجع هنا إلى العدل والاستحقاق، ولكنه يرجع إلى صلاح المجتمع ولو نال فيه فريق فوق ما يكافئ عمله وجدواه. فكل عضو شاك يكلف الجسم بعض الأحيان فوق حقه وفوق نصيبه من العمل والجدوى؛ وبغير هذا العلاج لا تستقيم صحة الأجسام

وصحيح أن العالم مدين للعصاميين، وأن العصاميين لم يولدوا في الذروة العليا من طبقات الامة، ولكن ليس بصحيح أن طبقة الحضيض هي صاحبة الحصة الكبرى في إنجاب العصاميين؛ وإنما الصحيح أنهم ينشئون وسطاً بين الطبقة التي نهكتها رذائل الترف والغرور والطبقة التي نهكتها رذائل الهوان والمسكنة. ومعظم المصلحين الذين نفعوا الفقراء لم يكونوا من ضحايا الفقر المدقع والمنبت المنحدر البالغ في الانحدار، مما يؤيد رأي القائلين إن الفقر المدقع الذي يلازم أصحابه عقباً بعد عقب إنما هو قصور في الذهن والخلق يحلهم حيث يحل القاصرون المتخلفون أيا كان المجتمع الذي يعيشون فيه

وبعد هذه الحقائق جميعها تبقى لنا حقيقة لا يطول فيها جدل المنصفين، وهي أن الفقر آفة يجب أن تزول إذا استطعنا ان نزيلها، ويجب إلا يمنعنا عن أزالتها إلا مانع واحد لا نحفل بغيره: وهو عدم الاستطاعة، ولو كان الفقراء مستحقين لما هم فيه. فلن يبحث منصف عن المريض هل جلب المرض لنفسه بيده، أو سيق إلى المرض مكرهاً عليه، إذا كانت المسالة مسألة طب وشفاء مستطاع

عباس محمود العقاد