مجلة الرسالة/العدد 410/من مدهشات العلم الهندسي والصناعة الحربية
→ بين الأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 410 من مدهشات العلم الهندسي والصناعة الحربية [[مؤلف:|]] |
في مهرجان التاج ← |
بتاريخ: 12 - 05 - 1941 |
المدافع الثقيلة
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
لاشك في أن مدفع برتا الذي ظهر في أواخر سني حرب 14 - 18 من مدهشات العلم والصناعة. أراد الألمان به أن يعزّزوا هجومهم في جبهة باريس بعدما طال وقوفهم أمام استحكامات الحلفاء في الخط الأخير في الميدان الغربي. وهذا المدفع الضخم العظيم كان من تصميم ووضع البروفسور المهندس راوزنبرجر من حوالي عالم 1909 وأخرجته إلى حيز الوجود مصانع كروب في مدينة إيسن بإقليم الرور الصناعي
وأسطوانة هذا المدفع (الماسورة) من الصلب الكهربائي أي الصلب المصهور في أفران كهربائية ويضاف إلى المعدن المصهور السائل بعض عينات من معادن كالمنجنيز وغيره تزيد في صلابة السبيكة وشدة مراسها ومقاومتها للظروف العظيمة واحتمال الحرارات العالية الناجمة من انفجار وخروج المقذوفات. وتصنع كذلك بعض أجزاء المدافع الأخرى التي عليها ضغوط أو رضوض أو ارتكازات هائلة من نفس المعدن النفيس السابق ذكره؛ وأمر هذا المعدن من اختيار خاماته إلى صهره إلى حرارته إلى إضافات معدنية أخرى إلى صبه إلى تبريده من الأسرار الصناعية التي يُحرص على تكتمها
وكان لشدة انفجاره عند بدء تجربته في تهديد استحكامات الخلفاء دوي مفزع وقعقعة شديدة وصلصلة مصمة وصفير حاد نافذ صارخ، أخذ كل ذلك بألباب الجنود أول الأمر وأفزعهم وأزهق منهم الأنفاس، وأدخل الارتباك في صفوفهم والذعر بينهم، وتناقلته الألسن بالتهويل. أما آثار التخريب الحقيقية من وقوع القذائف على الأهداف فلم تكن مما يناسب هذه الأصوات المدويَّة، وإن كانت لبعد المرمى تصيب التحصينات الخلفية الأقل استعدادا. وأخذت قيادة الحلفاء بهذا الأمر على غرة فاستعدت له وأصلحت من آثار وقعه في نفوس الجنود
ونظراً لبعد المرمى الذي يبلغ عشرات الكيلو مترات لا يمكن ضبط وتحديد الهدف، وعدم سقوط كل قذيفة تالية على سابقتها. وتتعذر الرؤية، وقد تسوء وقد تخطئ، ولابد من ستر المدفع وإخفاء موقعه؛ وهو يشغل مساحة كبيرة ويعلو في الهواء، فأمر تعميته وتغط العمليات العسكرية التي حوله ليست أمراً سهلاً؛ وهي اليوم من الفنون الحربية. وهو لا يشتغل دواماً برمي قذائفه بل لابد من راحة طويلة بعد كل سويعات، ولابد من راحة أطول بعد كل عملية، إذ الحرارة الشديدة لا يمكن تلطيفها بسرعة، وهي تقوِّس من استقامة الاسطوانة. وكذلك التآكل المعدني في سطح الاسطوانة الداخلي نتيجة احتكاك وانزلاق المقذوفات وخروجها حلزونية، وللترفيه كذلك والتخفيف النفساني عن الجنود القائمين بأمره
وسمي (برتا) باسم بنت أو أخت كروب الكبرى. وأنتظر الألمان من وراء استعماله مفاجأة للعدو وأثار تخريب وتمهيد نفساني؛ ولكن برغم سقوط بعض القذائف في باريس ودويّها في ضواحيها، فلم يتأت لهم جني ثمرة مغرية من غرسه. وكانوا يودون نصبه في كاليه ليضربوا منها الساحل الإنجليزي عند دوفر عبْر بحر المانش ولم يدركوا هذه الأمنية كذلك. وإذا ما علمنا أن الألمان عند أول استعمال هذا المدفع أعوزتهم بعض أمور نقص في البناء والتصميم والتركيب والحساب والخبرة وضيق الوقت والعجلة في الصنع وحرج الموقف الحربي، فيمكن القول أجمالاً بأن تجربته تمخضت عن فشل في الخارج والداخل. وإذا ما قدرنا ثمن أجزاء المدفع الباهظة ومعادنه النفيسة وثمن تشغيله وتضخم النقد وما علق الألمان عليه من آمال، أدركنا قيمة سقوط هذا المبتدع المخرب العظيم، وانتهت الحرب بانتهاء سنة 1918 على الوجه الذي نعلم جميعاً
غير أن الألمان أخذوا من الفشل درساً وعبرة، ولم تعجزهم تضييق شرائط الهدنة والصلح، حتى ولا سقوط النقد بعد الحرب والاضطراب السياسي، عن متابعة التحسين ومداومة الإبداع والاستحداث سراً، فأكملوا النقص وأصلحوا الأخطاء وصححوا المعايير الحسابية والأوزان الهندسية والنظريات العلمية والتراكيب المعدنية؛ وظهر مدفع برتا الثقيل من جديد في مخابئ كاليه على الساحل الفرنسي المحتل يطل بفوهته على البحر ويرنو إلى الشاطئ الإنجليزي، يقذف عليه الحمم ويصب النار والدمار تدله الطائرات بالاتصال اللاسلكي، وكذلك السفن الصغيرة السريعة على مواقع الأهداف وعلى سرعة واتجاه القافلات البحرية
إلا أن الإنجليز من جانبهم كالوا للألمان صاعاً بصاع وقذيفة بقذيفة وطلقة مدوية بطلقة داوية، فبهت الألمان وأدهشتهم المدفعية الإنجليزية الثقيلة. ولابد من الانتظار حتى تنتهي هذه الحرب لنقول أي المحاربين كان لسلاحه أحسن استعمالاً وأدق تصويباً، وأي مدفعية أحق بالذكر والخلود في سجل مخربات حرب 1939
ويعقب كل طلقة تمزق في الهواء وتخلخل فيه واضطراب، ويمتد أثر هذه الخلخلة المدمرة والضغوط الهوائية إلى وديان واسعة، وينتشر أثرها المخرب إلى أبعاد مترامية. وعند أول استعمال هذا المدفع قضى على رجاله وطوح بهم، فكانوا بعد ذلك يطلقونه بالاتصال الكهربائي بعد شحنه وهم محتمون بالخنادق الأرضية والغرف المحصنة. وحدث أن كان جنديان من جنود مراقبة الحلفاء واقفين على شجرة مرتفعة يرقبان حركات العدو، أن هويا على رأسيهما من حالق إثر طلقة تمزق بعدها الهواء وأندفع بقوة عاتية
ومع أن تكاليف هذا المدفع الثقيل باهظة وتشغيله يكلف الأموال الطائلة فإن أثره المخرب لا يوائم هذه المصاريف. إنما يقصد به زعزعة الروح المعنوية وانتشار الذعر والهلع والدهشة الانتفاض والإحراج والفوضى وبلبلة الأفكار والتهويل، وهذه كلها تتطلب ثمناً ولا يقل أثرها في الحرب عن أثر التخريب والتدمير. ويقصد كذلك دك الحصون القوية وأجزاء الجيش المحصنة داخل الأسوار وتحت الأقبية. وحدث في الحرب الماضية أن وقف المغيرون الألمان أمام بعض الحصون البلجيكية التاريخية كنامور وليبج عاجزين عن سحق مقاومتها وتركوا أمر ذلك أخيراً لأعمال هذه المدافع. وحدث مثل هذا في هذه الحرب. ولما تابع الألمان زحفهم لتطويق جيوش الحلفاء في سهول الفلاندر قامت المدفعية الثقيلة في البوارج بتغطية الانسحاب وتعجيز الألمان عن اللحاق بالمنسحبين. وكانت تقع القذيفة على الدبابة الهائلة فتنثر أشلاءها وتصبحها فتاتاً. ولما قاومت فارسوفيا ورفضت التسليم طوقها الألمان بالمدافع الثقيلة فدكوا ربوعها وروعوا أهليها
ويحتاج المدفع الثقيل الواحد إلى 12 عربة نقل من عربات السكة الحديد، وإلى 5 عربات ذات بناء خاص لنقل الاسطوانة وغيرها من الأدوات الهامة، وهو يزن 88. 750 كيلو جراماً (ثمانية وثمانون طناً وثلاثة أرباع الطن). وتزن اسطوانته وحدها التي يبلغ قطرها الداخلي 42 سنتيمتر أو 17 بوصة 7500 كيلوجرام (سبعة أطنان ونصف). ويزن الترباس 1250 كيلو جراماً (طناً وربع الطن). وتزن كمية الخرطوش المتفجرة ثمانين كيلو جراماً، وهى من المفرقعات ذات القيمة العالية والضغط الهائل؛ وتشغل غازاتها وأبخرتها إثر الاحتراق والتسامي من حالة الصلابة إلى الغازّية حيزاً كبيراً جداً. ويندفع لسان اللهب بعد الطلقة ويسير عشرين متراً، كما ترتد الاسطوانة عقب كل انفجار مائة وستين سنتيمتراً إلى الوراء رغم صدِّها وفرملتها بأسطوانة تحوطها مليئة بالجليسرين والهواء المضغوط. وترتفع القذيفة (الدَّانة بالوصف العسكري) في الهواء إلى ستة آلاف متر؛ ويحتاج المدفع الثقيل إلى 135 جندي لإدارته وتشغيله. والمدفع مصفّح من الأمام بدرع متينة لحماية جنود النيشان وضبط آلات الرصد. وتكلف الطلقة الواحدة ما يقرب من ألف جنيه. وتزن القذيفة تسعمائة كيلو جرام
وتتطلب هذه المدافع أسساً قوية تتحمل الضغوط والرضوض والأثقال. فالأرضية منها تُبنى لها حصيرة من الأسمنت المسلح أو ظهر الحديد المصبوب في قوالب. تربط هذه القوالب ببعضها ويحوطها سِياج من الحديد يضمها إلى بعضها، وهي بهذا الوضع يمكن نقل أساساتها. أما المدافع الثقيلة في البوارج البحرية فهي من الأعمال الهندسية الجبارة. وتحمل بعض وحدات الأسطول الإنجليزي من هذا المدفع ما سعة قطر فوهته 14 بوصة من الداخل. وهي مثبتة على ظهور السفن ذات السطوح المدرعة، وروعي فيها الإقلال من الوزن قدر المستطاع لضمان حرية في التوجيه والدوران أكبر، وزوايا الارتفاع والانخفاض
وما دمنا قد ذكرنا بعض ما قامت به المدافع الثقيل الأرضية من أعمال في هذه الحرب فلنعرض كذلك لبعض ما قامت به المدافع البحرية الثقيلة ولننوه بعملها الشاق ليل نهار في الانسحاب الناجح من أوربا بعد تسليم الجيش البلجيكي ولندلل على البسالة في بحار الشمال قبالة الساحل النرويجي. كما برهنت المدفعية البحرية الثقيلة في الأسطول الإنجليزي على تقاليد عظيمة وهندسة عالية وفن راق في مياه البلطيق والبِلت والاسكاجراك وفي البحر الأبيض مواجهة الساحل الليبي وفي البحر الأدرياتيكي مكنت لهندستها وصيتها ذيوعاً وإحقاقاً من ضرب العدو الإيطالي في عقر بحره وفي وهران ودكار. وبعض أعمال البطولة البحرية والرماية المدفعية أكدتها روالبندى وجارفس بي وكوزاك وأشيل وأجاكس وسدني. والمدفعية الساحلية الثقيلة في جبل طارق ودكار وكاليه ودوفر وهي كلها آيات ناطقة بالمكنة الهندسية والمقدرة الصناعية والعقل الإنساني وصفحات عظيمة في التاريخ الهندسي في الجزء الخاص بالحرب
عبد اللطيف حسن الشامي