الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 410/ما خلفته أثينا ورومة

مجلة الرسالة/العدد 410/ما خلفته أثينا ورومة

مجلة الرسالة - العدد 410
ما خلفته أثينا ورومة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 12 - 05 - 1941


أهل رومةَ الأولون قومٌ بناهم الله بنية وثيقة، فنشأوا عظامَ التجاليد أشداء العضل أقوياء العصب، يعطون البهيمية من نفوسهم، أكثر مما يعطون الإنسانية من قلوبهم. ووثاقة البنية وسورة الهوى تحركان في المرء شهوة الغلب وحب الأثرة؛ فبغى الرومان على الناس بحدة القلب وبأس الحديد، فملكوا أمم البحر المتوسط ملك الرقيق، واستعانوا على تدبير هذا الملك العظيم بالسيف واللسان والقانون، فتهيأت لهم بذلك مَلَكة أصيلة في الحرب والخطابة والتشريع، وحرمتهم جِبلتهم فنون النفس الرفيعة فكانوا في الأدب والفلسفة والفن حَميلةً على الإغريق. فلما أذن الله لدولتهم أن تدول سلّط عليهم الترف والفسوق فتدفقوا في اللهو و (الأرجي) حتى ترهل من لحومهم ما اكتنز، وهش من عظامهم ما صلب، وانسرق من قواهم ما اشتد، وذهب بذهاب سلطانهم ما شرعوا من قوانين وسنوا من نظم وألقوا من خطب؛ وأصبحوا لا يد تطول ولا لسان يقول، ولا فكرة تجول؛ ثم بادوا ولم يتركوا لأخلافهم على تعاقب القرون إلا ما يُعقبه السلطان الزائل من الغرور والتبجح والفيْش، وإلا ما يورثه اللهو الباطل من الغناء والموسيقى والرقص

وأهل أثينا الأقدمون قوم صاغهم الله صيغة حسنة، فكانوا مثلاً للكمال الممكن في الإنسان الأعلى. سمت فيهم ملكات العقل والقلب واللسان والجسم سمواً لا شبيه له في شعوب الأرض، فأبدعوا في نواحي الفكر والشعور والبيان ما ربأوا به أن يكون من صنع الإنس فنسبوه إلى أرباب من خلق أنفسهم. ثم تعاقبت على المدن الإغريقية أطوار الحياة العقلية للجنس البشري تامة غير مُخدَجة: فمن الغناء الفردي في المعابد إلى التمثيل الجماعي في المسارح، ومن الحياة الأبوية إلى الحياة النيابية، ومن شعبذة الكاهن إلى فلسفة أرسطو؛ ولم يبد في سائر الأمم إلا ظواهر لبعض هذه الأطوار تقل أو تكثر على قدر نصيبها من كمال الخلق، ثم تضعف أو تقوى على نسبة حظها من محاكاة الإغريق. فكأنما هذه البقعة وأهلها لِما جمعوا من شتيت المزايا صورة مصغرة لأمم العالم، ونسخة لتاريخ الإنسان

فلما أصابهم داء الأمم فني مُلكهم في ملكوت الرومان، ولكنهم انبثوا في عقول الناس وحضارات الأمم وثقافات الشعوب، فكراً لا يأفن، وفناً لا يبلى، وأدباً لا يقدُم، وفلسفة لا تبطل، ونظاماً لا يفسد، وعلماً لا يذهب؛ فكان الفكر اليوناني أساساً قائماً لكل حضارة، ولقاحاً مثمراً لكل ثق ذلك أثره في الناس عن طريق الاقتباس؛ أما أثره في أعقاب بركليس والإسكندر فمن طريق الوراثة المتحدرة في الدماء حاملة مجد السلطان والغلَب، وعظمة الفكر والروح، وعزة الملك والقيادة، ومزية الإبداع والخَلق، وفضيلة الجمال والحق، وسمو الإيمان والعقيدة؛ فكان يونان اليوم كيونان الأمس مثلاً مضروباً في شهامة النفس وشجاعة القلب وحمية الأنف وصدق الوطنية والضرب في الأرض من أفق إلى أفق

أولئك أعقاب رومة يتمثلون في الطاغية (موسو)؛ وهؤلاء أخلاف أثينا يتمثلون في الرئيس ماتكساس. هناك الرأس الخواء، والقلب الهواء، والصلف البغيض، والغرور العريض، واللسان الطائش. وهناك العمل الصامت، والقول الثابت، والدماء التي تفور بمزايا الجنس، والقلوب التي تنبض بحب الوطن. ويشاء الله عزت حكمته أن يخرج العبرة للناس في هذه الكوارث الموئسة من تراث وتراث وجيل وجيل، فسلط نُعَرةَ نيرون على أنف الدتشي فوقف على ماسورة مدفع ضخم، ثم رفع أنفه إلى السماء، وبسط يده في الفضاء، وأرسل أمره الأرعن إلى عديده وحديده أن يخترقا حدود اليونان وهم في إغفاءة الفجر ينعمون تحت الكلل بأواخر الأحلام السعيدة. فسالت من البانيا فِرق الجيش الإيطالي بسياراته المصفحة، ودباباته المسلحة، وطائراته الموقرة بالقذائف والرصاص؛ وعلى رأس الطليعة المزهوة قائد جهم الوجه، كثيف اللحية، غليظ الألواح، يحمل إلى الجيش اليوناني المضطرب الهالع شرط الهدنة وصك الأمان!

يا سخَر القدَر ممن زعم أنه يصرِّفه! ويا عار (سيزار) ممن ادعى أنه يخلفه! ما باله يرمي فترميه أبابيل من طيور العذاب، ويهجم فتصده حصون من سواعد الشباب، ويصيح بأبطال الألب فلا يجيبه إلا صناديد الأولمب بالهجوم الجارف والضرب الدِّراك والقصف المزلزل، فذوو القمصان السود كالأرانب يتوارون في أخاديد الأرض، ويلوذون بجلاميد الصخر؛ فإذا أعجلهم الفزع عن التماس النجاة ألقوا السلاح صاغرين واستأسروا!

حينئذ تصبب الزعيم الشحيم عرقاً لا ندري أمن الكلال هو أم من الخجل، فأقسم ليحشدن الإمبراطورية كلها أمام الجيش اليوناني الصغير الفقير الذي يقاتل الطائرات بالحجارة، وينازل الدبابات بالسلاح الأبيض، ويزوده بالميرة والذخيرة النساء والشيوخ والأيفاع في شعاف الجبال وبطون الأودية، فكانت أفواج الجيش تذوب أمامه ذوبان الشمع، وأمواج الحديد تنكسر دونه تكسر الهشيم، والأكياس الحازمون من قواد الفاشية وجنودها يتقهقرون حتى ارتدوا عن اليونان، وكادوا يجلون عن ألبانيا، لولا أن استغاث الدتشى بالفوهرر، فكانت الفاجعة التي لا ينصل عارها من تاريخ الألمان أبد الدهر!

أرأيت؟! هذه هي الفئة القليلة التي يصيح في دمائها وأعصابها تاريخ أثينا بأسره. وتاريخ أثينا ليس كتاريخ روما مسارحَ دراسة لصراع الثيران، وآثاراً عافية من مغامرات الفرسان، وأسفاراً ميتة من شرائع جوستنيان؛ وإنما هو ومضات الضمير التي لا تخبو، وآيات العقل التي لا تموت

وتلك هي الفئة الكثيرة التي تنتفخ بالهواء كالفقاقيع، وتعيش بغير مثل كالجراد، وتحارب بغير إيمان كالمرتزقة. لذلك تراهم يستأثرون بجانب الهزيمة في هذه الحرب، ويؤثرون وسائل الحقارة في هذه الجريمة. وإذا كان في انتصار اليونان وانكسار الطليان عبرة، فهي للعرب الذين يتميزون على الإغريق بوراثة القرآن الخالد الذي لا يتبدل، واكتساب الإيمان الصادق الذي لا يحول!

أحمد حسن الزيات