مجلة الرسالة/العدد 410/خواطر في الموسيقى والناس
→ ألقاب الشرف والتعظيم | مجلة الرسالة - العدد 410 خواطر في الموسيقى والناس [[مؤلف:|]] |
بين الأدب والتاريخ ← |
بتاريخ: 12 - 05 - 1941 |
في الإنسانية خير
ما دام فيها أمثال (شتروس)
للأستاذ سيد قطب
منذ لحظات كنت أستمع إلى أفراح الإنسانية العذبة في موسيقى (شتروس) في أحد الأفلام الشهيرة. لست أدري كم مرة شاهدت هذا الفيلم؛ ولكنني أدري أنني انسقت لمشاهدته كالمسحور، كلما قرأت عن عرضه في إحدى الدور.
وفي لحظة من لحظات الشك التي تساور النفس هذه الأيام في ضمير الإنسانية وطبيعتها؛ وفي غمرة من غمرات اليأس أن يكون في الفطرة البشرية خير أو تطلع؛ وفي فترة من فترات الخمود الروحي والجسمي، رانت على النفس فيها غشاوة، وحطت على الجسم فيها أثقال، ذهبت منساقاً إلى استماع هذه الألحان
وإن هي إلا لحظات، ونغمات، ورقصات، حتى أحسست بالخفة الناشطة في نفسي وجسمي؛ وبالرجاء المشعشع والاطمئنان المصفى، والأمل المحلق، والإنسانية الطليقة، والفرح السعيد.
قلت في نفسي: إن الإنسانية التي وسع ضميرها كل هذه الأفراح النقية وكل هذه الغبطة البريئة، والتي ذخرت طبيعتها هذا الفيض الإنساني المرح، وتلك الطلاقة الروحية المرفرفة في ألحان (شتروس) ورقصاته، لا يمكن أن تخلو من الخير، وأن تتهم بالإقفار من الحب، مهما نغل فيها اليوم من أحقاد وأضغان
هذا الفرح الملعلع في أجواز النفس وأجواز السماء؛ وتلك الطلاقة التي لا ظل فيها لقيد من قيود الأرض والغريزة؛ وذلك التحليق النابض بالحياة الحلوة البريئة؛ هذا كله لا يكون إلا أن يكون في البشرية خير مذخور، ورجاء منظور، وقبس من نور. وإلا أن يكون لها في السماء أمل، وفي الفراديس مكان، لا يتاح لغير الإنسان
وذكرت في هذه الساعة من يتحدثون عن (الفكر والسلطة) ومن يتحدثون عن (منفعة) الفنون المجردة. أولئك الذين يرفعون مرتبة التنفيذ فوق مرتبة التوجيه، وهؤلاء الذ يريدون أن يروا في (الإنسان) إلا معدته.
قلت: أين هي السلطة الكائنة على وجه هذه الأرض التي تستطيع أن تصنع من الخير ما تصنعه هذه الحان؟ بل أين هي النبوة التي تستطيع أن ترتفع بالفطرة إلى أعلى من هذا المكان! ثم أية (منفعة) في هذه الدنيا الفانية أنفس من هذه السعادة التي تقرب وتقرب، حتى لها نغمة في الآذان وحركة في الأبدان
لن يستطيع ذو سلطان يعتمد على السلطان، مهما سما فكره، وطابت نفسه، أن يصنع مثل هذا الخير، وأن يطلق النفوس من غرائزها وقيودها، فرحة سعيدة راضية، لا تخطر الخطيئة لها ببال، ولا يهجس الشر لها في الضمير؛ وهي محلقة في هذا الأوج، مرفرفة في هذه الآفاق، خالصة من وحي الفناء ولذع الشقاء.
ولن يستطيع أكبر المخترعين والمهندسين والعالمين أن يزجي إلى الإنسانية باختراعاته وآلاته ونظرياته هذه السعادة التي تحسها وهي تستمع لمثل هذه الأنغام. وإذا لم تكن غاية الجهاد في الحياة هذه السعادة العالية وتلك الغبطة الراضية، فما عساها تكون؟
جالت في نفسي هذه الخواطر ثم استعرضت لخيالي صورة المجزرة البشرية في هذه الأيام، وصورة الحقد الوخيم، والضغن الذميم الذي يؤرثها، وصورة الغرائز المتسفلة التي تهيجها الدكتاتورية وتملقها في طبائع الأفراد والشعب، وصورة الذلة المشتعلة التي تثير الإعجاب في بعض النفوس ببطش الباطشين وغدر الغادرين. . .
فقلت: كيف اضطغنت البشرية هذا الحقد الحيواني كله، ووسعت معه ذلك الفرح الإنساني كله؟ ثم ذكرت قول العقاد: ثقلة في الحياة لم ينج طبع من عراقيلها ولم يخل عرف
وذكرت أن الإنسانية - كما يقول تاريخ الحياة - لا تزال طفلة تحبو في مدارج الزمن والارتقاء، وأن الحياة كلها لم تتجاوز الفجر الأول؛ فهي ما تزال تعيش حتى اليوم على نبات الأرض وحيواته، كما يعيش الطفل الرضيع على لبن أمه؛ ولن تبلغ هذه الحياة طور الصبا حتى تتطلع إلى غذاء تصنعه وتخلقه غير الغذاء الذي تجمعه وتؤلفه، كما يصنع الطفل بعد الفطام سواء
فينبغي ألا نستعجل الزمن، وألا نخدع بأبناء الحياة السابقين أولئك الفنانين الذين نضجوا قبل الأوان، وسبقوا خطوات الإنسانية بمراحل وأزمان، فتلك بواكير الروض، وطلائع الثمار. والغد كفيل بالجني والقطاف!. . .
وما كنت أملك إلا توغل نفسي هكذا في الرجاء، وألا تتطلع إلى الأجواز والآفاق، وأنغام (شتروس) تتخلل دمي فترقرقه مزاجاً صافياً، وتلمس روحي فتطلقها ترفرف في السماء، وتخلصني من ثقلة الأرض ووكسة الغريزة، فأتطلع إلى هناك. . . إلى حيث الإنسان المرموق في آمال الوجود
وتشاء المصادفات الساخرة العجيبة أن أخرج من هذا العالم الوضئ الإشراق، فيطرق سمعي - على غير إرادة - صوت المذياع وينقل إلىَّ بعض الحشرجات البائسة التي يسمونها في مصر أغنيات جديدة!
يا للشيطان! بل أظلم الشيطان، فما تستطيع طبيعته أن تهبط إلى هذه المناقع والقيعان وأن تدبر لي تلك المفاجأة في هذا الأوان!
رباه!
أيمكن أن يكون واضعو هذه الهنبشات والحشرجات ومستمعوها من أبناء آدم الذي نعرفه، وأن يكون (شتروس) ومستمعوه من أبنائه كذلك في آن؟
محال. فما تلك إلا دويبات وجنادب وهوام، وأشياء أخرى مما يرتكس في المناقع والقيعان. وإلا فما كانوا يطيقون مجرد الصبر على هذا الغُثاء؛ وفي متناولهم تلك الموائد الربانية الشهية وذلك الغذاء السماوي المريء!
(حلوان)
سيد قطب