مجلة الرسالة/العدد 410/ألقاب الشرف والتعظيم
→ مقال أوحاه قصف المدافع في ليلة قمراء | مجلة الرسالة - العدد 410 ألقاب الشرف والتعظيم [[مؤلف:|]] |
خواطر في الموسيقى والناس ← |
بتاريخ: 12 - 05 - 1941 |
عند العرب
للأب أنستاس ماري الكرملي
- 2 -
ونعود إلى الكلام على الباب فنقول: إن القلقشندي قال (صبح الأعشى 472: 5): (الباب بباءين موحدتين مفخمتين في اللفظ. وهو لقب على القائم بأمور دين النصارى الملكانية (أي الكاثوليك) بمدينة رومية. . . وأصله البابا بزيادة ألف في آخره، والكتاب يثبتونها في بعض المواضع ويحذفونها في بعض، وربما قيل فيه الباب ' بإبدال الألف هاء، وهي لفظة رومية (أي لاتينية) معناها أبو الآباء. . .) انتهى المطلوب من إيراده
وقال ابن رُستَه في كتابه الأعلاق النفيسة ص148 من طبعة الإفرنج: (مدينة الرومية وهي مدينة يدير أمرها ملك يقال له الباب)
وفي نزهة المشتاق للإدريسي ما هذا نصه (74): (وفي مدينة رومة قصر الملك المسمى البابة، وليس فوق البابة فوق في القدر والملوك دونه)
وجاء في تقويم البلدان لأبي الفداء في مادة رومية: (وهي مدينة مشهورة، ومقر خليفة النصارى المسمى الباب). وقال في أهل بيزة: (وليس لهم ملك؛ وإنما مرجعهم إلى الباب خليفة النصارى)
وذكر ابن الوردي في كتابه خريدة العجائب طبعة مصر سنة 1300 في ص58: (وبها قصر الملك المسمى البابا وهو قصر عظيم أجمع المسافرون على أنه لم يبن مثله على وجه الأرض)
وورد في رحلة ابن بطوطة ذكر البابة فقال (في436: 2 من طبعة باريس): (ويأتي إليها البابة (وهو يريد هنا نائب البابة الذي سماه أبو شامة في كتاب الروضتين في ص183 من طبعة باريس) مرة في السنة، وإذا كان على مسيرة أربع من البلد يخرج الملك إلى لقائه، ويترجل له، وعند دخوله المدينة يمشي بين يديه على قدميه، ويأتيه صباحاً ومساء للسلام عليه، طول مقامه في القسطنطينة حتى ينصرف). اهـ وابن خلدون تكلم مراراً على البابا، من ذلك ما ورد في مقدمته ونقلناه في صدر هذا البحث، ثم قال: (وأردوا أن يميزوا البطرك عن الأسقف في التعظيم فدعوه البابا، ومعناه أبو الآباء. وظهر هذا الاسم أول ظهوره بمصر، على ما زعم جرجيس بن العميد في تاريخه، ثم نقلوه إلى صاحب الكرسي الأعظم عندهم، وهو كرسي رومة، لأنه كرسي بطرس الرسول كما قدمناه، فلم يزل سمة عليه إلى الآن. . .)
وممن كرر أسم البابا مراراً المقريزي. فقد قال في كتابه المواعظ والاعتبار طبعة بولاق (في484: 2): (وكان بطرك الإسكندرية يقال له البابا. . . ومعناه أبو الآباء؛ ثم انتقل هذا الاسم عن كرسي الإسكندرية إلى كرسي رومية. من أجل أنه كرسي بطرس، رأس الحواريين، فصار بطرك رومية يقال له البابا، واستمر ذلك إلى زماننا الذي نحن فيه). انتهى
ونحن لا نريد أن نمعن أبعد من هذا في المدى لإيراد الشواهد على هذا الاسم، وأنه لاتيني، أي رومي أو روماني، ففيها مجزأة، لمن يتحرى الحق، ويرمي إليه.
فهذه سبع لغات في البابا، وهي: الباب، والباب. والبابة، والبابة، والبابَّ، والبابا، والبابا. وكل كاتب، حاول أن يؤدي اللفظ على ما ينطق به أصحابه، ولم يحاول واحد منهم أن ينقل معناها إلى العربية، بعكس ما يفعل اليوم بعض المتفصّحين والمتحذلقين من السوريين وأشباههم
وأما البطرك، فقد اختلفوا في تعريبهم إياه اختلافهم في الباب، والإنبراظور. قال في التاج في (ب ط ر ك): (البطرك، كِقمطر وجعفر، أهمله الجوهري. وقال الأصمعي: هو البطريق، وهو مقدم النصارى، وبه فسر قول الراعي يصف ثوراً وحشياً:
يعلو الظواهر فرداً لا أليف له ... مشى البطرك عليه ريط كتان
ويروى مشى النطول، وهو الذي يتنطّل في مشيتِهِ، أي يتبختر. قالهُ الأزهري، أو سيّد المجوس. قال الأزهري: وهو دخيل ليس بعرَبي) اهـ.
قلنا: البطرك: يوناني، وهو في هذا اللسان أو ومعناه الأب الأكبر أو الأب الديني
وقال في صبح الأعشى (473: 5): (البطرك: بباء موحدة مفتوحة، ثم طاء مهملة ساكنة، وبعدها راء مهملة مفتوحة، ثم كاف في الآخر. وهو لقب القائم بأمور دين النصرانية. . .
وأصله البطريرك، بزيادة ياء مثناة تحت مفتوحة، بعدها راء ساكنة، وهو لفظ رومي. . . ورأيت في ترسل العلاء ابن موصلايا، كاتب القائم بأمر الله العباسي في تقليد أنشأه: الفطرك بإبدال الباء الموحدة فاءً. . .)
وفي التنبيه والإشراف، للمسعودي في ص159 من طبعة الإفرنج: (وأخبار أصحاب الكراسيّ الذين هم البطاركة أحدهم بطريرك)؛ قال ناشره في الحاشية: (وكل مرة وردت البطريرك ذكره الثعالبي صاحب اللطائف باسم بطريرك)
وقال المسعودي نفسه في كتابه الآخر (مروج الذهب) (406: 3 من طبعة باريس): (وذلك أن مدينة إنطاكية بها كرسي البطريق المعظم عندهم)
وورد في تاج العروس في مادة بطرق: (. . . وقيل البطريق هو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم، وهو ذو منصب، وقد يقدم عندهم. قلت: (أي الشارح وهو السيد مرتضى) هو بالرومية بترك، قاله الجواليقي وغيره). انتهى
قال الأب أنستاس ماري الكرملي: وهذا وهم من السيد الشارح، لأن بترك هو تخفيف البطريرك، كما ذكره القلقشندي وأما البطريق فرومية أي لاتينية لا يونانية، وهي
معجم لاروس الوسيط: (أنشأ منصب البطريق قسطنطين وقلده خلفاؤه أشهر ضباطهم، ولما صارت دولة الغرب في أقصى دركاتها اتخذ بعض الرؤساء لقب البطريق وكان يقابل البرنس أو نائب الملك. ولما أعلن أُرستس بانبراطورية ابنه أوغسطس، كان لقبه يومئذ بطريقاً وآيتيوس الذي أذل أتّيلا وغلبه، كان لقبه بطريقاً يومئذ، وتلقب بلقب البطريق أيضاً كلوفيس ملك فرنسة، وكذلك ملوك برغونية. ولقب الملوك البرابرة بطارقة قواد جيوشهم. وكان قياصرة الروم يجودون به على لباب الوظائف العليا من مدنية وحربية، وبعد ذلك بكثير خلع البابوات هذا اللقب على ملوك الإفرنج لما استأنفوا التقاليد الانبراطورية، فكان ممن تلقب به: بيبن، وشرلمان، ودُعوا بطارقة رومة ا. هـ تعريباً
ويُرى من هذه النصوص المنقولة هنا، أن بعض الكتّاب لم يميزوا بين البطرك أو البطريرك، وبين البطريق. فصاحب الاسم الأول رجل ديني، وصاحب الاسم الثاني رجل مَدَني. واللفظ الأول يوناني الوضع، لاتينيُّهُ. على أن كِلاَ الاسمين مأخوذ من معنى الأب. فالأول يعني الأب الروحاني، والثاني الأب النبيل أو الشريف. لكن لابد من أن يُميَّز الواحد من الآخر حرصاً على المعنى، وتمسكاً بمدلولات الألفاظ الأصلية، لكي لا يقع التباس فيها
ويُرى من هذه النصوص أيضاً أن في البطريرك ثمانية أوجه معربة؛ وهي: البَطْرَك، والبِطَرْك، والبَتْرَك، والبطريك، والبطريرك، والفطرك، والفطريرك، والبطريق. فهل بعد هذا من ينكر هذه المفردات، ومعانيها ولغتها، وقد أيدناها بالشواهد والنقول الموثوق بها؟ وهل يستطيع المُتَبَلْتعُون السوريون، أن يضحكوا من كتّاب مصر، لأنهم يستعملون في مقالاتهم مثل سكرتير، بروفسور، ودكتور، وماجستير، وليسانسيه؛ وكلها ألقاب وضعها الغربيون كأنها أعلام ألقاب. ومن ثمّ لا حقّ للناطقين بالضاد أن يغيروها، ولا أن يترجموها بأي صورة كانت. وقد جمعنا من الألقاب الغربية التي عرَّبها العرب نحواً من مائتين وخمسين؛ ولم يفكروا يوماً بوضع مقابلات لها في لغتهم، لا بل أن بعضهم ظنها مُضَرِيَّة محضة، ولا صلة لها بغير لغتهم. وأنا أذكر هنا بعضاً منها مصداقاً لكلامي. من ذلك ما يتمم بَحْثي السابق:
6 - الدوفن
قال ابن مكرّم في تركيب (د ف ن) ما هذه عبارته بنصها: (ودَوْفَن: اسمٌ. قال ابن سيده: ولا أدري أرَجُلٌ أم موْضع. أنشد ابن الأعرابي:
وعلمت أني قد مُنيتُ بِنِئطِلٍ ... إذ قيل: كان من آل دَوْفَنُ قُمَّسُ
قال: فإن كان رجلاً، فعسى أن يكون أعجمياً فلم يصرفه، أو لعل الشاعر أحتاج إلى ترك صرفه، فلم يصرفه؛ فإنه رأيٌ لبعض النحويين. وإن كان عنَى قبيلة، أو امرأة، أو بقعة، فحكمه ألا ينصرف؛ وهذا بين واضح. اهـ
وقد نقل صاحب التاج عبارة اللسان من غير أن يشير إلى مأخذها مع أن النص واحد بلا أدنى تغيير، سوى أنه قال: قمَّسِ وهي قمس؛ وقال: إن كان عنى قبيلة والصواب وإن كان عنى قبيلة
وقال صاحب القاموس: ودوفن رجل وامرأة. وفي بعض النسخ: رجل أو امرأة
قلنا: فما معنى هذه اللفظة، ومن أي لغة هي؟ فعند الوقوف على الحقيقة، تضمحل الآراء المتضاربة، ويقبض على ناصية الحق فنتمسك بها
أما رأينا فهو أنها من الفرنسية على حد اللفظ العربي ومعناه. وكان أصل وضعه لقباً للثنيان الفرنسي أي للذي يكون دون السيد أو الملك في فرنسة؛ ثم غلب هذا اللقب على كثيرين من أولئك الأشراف، فصار بمنزلة العَلم لهم، وأول من لقب بذلك، كان في عهد كيك أحد قمامسة فينّة الفرنسية، المتوفى سنة 1142 للميلاد. وفي أوفرنية كان أحد القمامسة في عهد غليوم السابع. وكان لقب به لأول مرة سنة 1152؛ ثم أنقلب هذا اللقب فصار علماً لأولئك الرجالات، ومن أراد التفصيل فليراجع كتب التاريخ والمعاجم في مادة دَوْفن. وهناك دوفن أشتهر بدوفن أوفرنية وهو شاعر بروفنسي، من المائة أل 12 أو أل 13، واسمه الحقيقي روبر وكان دوفناً من سنة 1169 إلى سنة 1234
ودوفن أيضاً امرأة الدوفن، وبالفرنسية والأحسن أن يقال في العربية دَوْفَنة لكي لا تلتبس بالمذكر ودَوْفن أيضاً، والأحسن دَوْفِينَه عَلَم بقعة في فرنسة. فصحَّ بهذا التأويل أن (دوفن) كلمة أعجمية وإنها أتت بمعنى أسم رجل، وأسم امرأة، وأسم بقعة، ومما يؤيد أن الدوفن هو بالتأويل الذي ذكرناه أن الشاعر قال:
(كان من آل دوفن قمَّسُ)
والقُمَّس هو سابقاً، والذي نقل بعد ذلك إلى صورة كُنْت ومعلوم أن البيت الذي فيه دَوْفن، قد يكون فيه عدة قَمامِسة، إذا كان فيه عدة ذكور، غير البكر ونحن نذكر بعد هذا القمس ونبحث في مختلف لغاتِهِ
ومن الغريب أن المعاجم الإفرنجية، وبالعكس أي المعاجم العربية الإفرنجية. لم تذكر مقابلاً للفرنسية كما لم تذكر مقابلاً إفرنجياً للدَوْفَن. فمعجم بادجر الإنكليزي العربي، (وهو أساس جميع المعاجم الإنكليزية العربية ذكر مقابلاً لها في العربية (بكرُ ملك فرانسا) - وقال نجاري بك، في معجمه الفرنسي العربي: (بكري الأمير) وهو كلام لا معنى له. - ومعجم غسلين الفرنسي العربي ذكر المؤنث ولم يذكر المذكر فقال: (زوجة ولد سلطان فرنسة) وهذا غريب. - وقال الأب بلو في معجمه الفرنسي العربي: (ولي عهد ملوك فرنسا) - وأما صاحبنا الشهير إلياس بقطر فقد قابله بقوله: (ابن بكر سلطان فرنسا)
ولا تسألني عمن نقل (دوفن) إلى لغة أجنبية في المعاجم العربية الغربية، فإن أصحابها جميعهم أهملوها كأنها لم تكن، وفي كل ما ذكرناه من النقول، ما يبين لك قصور أرباب تلك الدواوين، وبذلك يظهر لك ما فيها من النقص والعجز، والحاجة إلى الإصلاح الأعظم (له صلة)
الأب أنستاس ماري الكرملي
من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية