مجلة الرسالة/العدد 41/في الأدب الفرنسي
→ نجوى يتيم | مجلة الرسالة - العدد 41 في الأدب الفرنسي [[مؤلف:|]] |
العلوم ← |
بتاريخ: 16 - 04 - 1934 |
زهرات من حديقة أبيقور
الحقيقة
هذه الحكمة اليونانية القائلة (أعرف نفسك بنفسك) هي لعمري طيش شديد وجهالة كبرى!! فلن نستطيع أبداً أن نعرف نفوسنا ولا نفوس غيرنا من البشر. وأنه لينبغي التيقن من ذلك والأيمان به، فأن خلق العالم أدنى صحة وأقل استحالة وأكثر إمكاناً من فهمه وعرفانه. لقد شك بها (هجل) بعض الشك، ومن القريب المحتمل أن يخدمنا العقل في يوم من الأيام بإبداع كون جديد، فأما الكشف عن مفهوم هذا الكون وتبين كنهه فذلك ما لا سبيل إليه، ولا قدره لأحد عليه. والأولى بنا أن نسئ استعمال العقل ونمعن في الجور وسوء التصرف به، بدلاً من أن نتخذه آلة لتحري الصواب ومعرفة الحقيقة. وحتى استخدامه للحكم والقضاء كما يتطلب العدل ويرتضيه الناس فأنه ضعيف ضئيل لا يجدي نفعاً كبيراً، وإنما يصلح العقل للتسلي بتلك الملاهي، وهي أكثر تعقيداً وغموضاً من الشطرنج، المسماة ميتافيزيك. علم الأخلاق. علم الجمال، ولعله جدير بالرضى والإعجاب حين يقتطف من هنا وهنالك قليلاً من النتوء أو بعضاً من الوضوح في الأشياء، ثم يتمتع بألوانها وأصباغها من غير أن يفسد تلك اللذة البريئة الخالصة بالتفكير الكلي الشاملوالاندفاع وراء الحكم والقضاء.
أدب الحياة
مادام معنى الجمال لا يدرك مستقلاً عن حدود الزمان والمكان فأني لا أشرع في استساغة آثار الفكر والتلذذ بمنتوجات العقل إلا حين أكشف عن وجه اتصالها بالحياة ولصوقها بها، وهذه الصلة هي التي تجذبني إليها وتأسرني عن قراءتها. فجرار هيارليك الضخمة حببت إلي (الإلياذة) كثيراً، وإذا كنت أتذوق (المهزلة الإلهية) وأسيغ حلاوتها جيداً، فلأني أعرف حياة فلورنسا، وأدرك الحال التي كانت عليها هذه المدينة في القرن الثالث عشر. أنا لست أفتش في الفنان إلا عن صورة الإنسان! وما عسى أن تكون القصيدة الجميلة الرائعة غير البقية الباقية من جثمان الشاعر؟ إليك هذا القول العميق يرسله جيتيه (الآثار التي تخلد دون غيرها هي آثار الظروف والأحوال) لكن الآثار الفنية لا يمكن أن تكون إلا آثار الظرو والأحوال لأنها إنما ترتبط جميعها بالمكان والزمان اللذين أبدعاها وكونا عناصرها. ولسنا نستطيع تفهمها ولا محبتها إذا كنا نجهل الزمن الذي أنشئت فيه والمكان والشروط الاجتماعية التي أحاطت تكوينها.
الحق إن البلاهة المتعاظمة الصلفة إنما تبرز في القول بالإنتاجالفني المستقل. فالثمن الذي يدفع غالياُ للمؤلفات الرفيعة العالية إنما هو ثمن العلاقات التي تربطها بالحياة. وأنا كلما تبينت هذه العلاقات وكشفت قوتها أشتد هيامي بالأثر الفني أستسيغه وأستمرئه.
القمار
يلعب المقامرون كما يحب العشاق ويسكر الشراب مرغمين مجبرين. يلينون لقوة رائعة لا تقاوم، ويستكينون للنوازع الجامحة العمياء! وفي الناس من وقف نفسه على القمار ونذرها للعب، على نحو من يقف نفسه على الهوى وينذرها للتصابي والغرام. ولست أدري الذي ابتدع قصة ذينك الملاحين المقامرين تذيبهما نيران اللهو، كاد الملاحان يغرقان ثم طوحا بجسميهما وسط المغامرات الخطيرة، ولم ينجهم من الموت المحتوم غير الطفرة إلى ظهر حوت، فما لبثا أن انتزعا من الجيوب الزهر والفنجان، ثم راحا يلعبان!
هذه القصة أصح من الحقيقة وأشد منها ثبوتاً، وكل مقامر مدنف إنما هو ملاح على طراز من ذكرنا. والواقع إن في القمار معنى من معاني الرهبة، يهز أعصاب الشجاع، ويثير في نفسه ألوان الاضطراب والقلق. فليس اختبار الحظ غبطة يسيرة معتدلة، وليس ارتشاف حياة طويلة عريضة ذات أشهر وسنين مليئة بالخوف والرجاء، بالألم والأمل - ليس ارتشافها في هنيهة من الزمن لذة ضعيفة هامدة لا تثمل، أذكر إني كنت دون العاشرة من عمري حين قرأ علينا المسيو غريبيني، أستاذ الصف التاسع، حديث الإنسان والجنية. وبالرغم من طول البعاد وتقادم العهد، فأني ما أزال أعيه وأتمثله كأنما هو حديث الأمس القريب: إن جنية ماكرة دفعت إلى طفل صغير خيطاً طويلاُ قد لف بانتظام حول نفسه ثم قالت له (هذا خيط عمرك فألمسه وحين تريد أن يمضي الزمن لتستشرف له وتحيا فيه فأشدد الخيط فأن الأيام والليالي سوف تمر أمام ناظريك وتكر متتابعة في إسراع أو بطء حسبما تشد الخيط في قوة أو فتور. وما دمت لا تجذب هذا الخيط فإنك تبقى من الوجود في الساعة التي أنت فيها) فأخذ الطفل الخيط الملفوف فجره قبل كل شئ ليفلت من طور الطفولة ويغدو رجلاً رشيداً، ثم جره ليتزوج ممن أحب، وما زال يجره حتى رأى أولاده تنمو، ونفسه تبلغ أسنى المراتب، وتنال المال الوفير والمجد الرفيع، ثم جره ليجتاز آلام الشيخوخة ويجتنب ثقل وطأتها وأمراضها. . وا أسفاه على هذا العود الأملد النظير! لقد عاش الطفل أربعة أشهر من بعدها ستة أيام على زيارة الجنية له.
لعمرك قل لي ما حد القمار إذا لم يكن الفن الذي يستبق أحداث الطبيعة العاقلة، ويشد تقلبات الأقدار المتئدة التي لا تبرز إلا في سنين وسنين! أليس القمار هذا الفن العجيب الذي يجمع في لمحة من الزمن مختلف الأهواء والميول المنتثرة بين حياة الناس البطيئة الراكدة؟ بلى! إنه سر الوجود ومعنى الحياة نتذوقها في مدى قليل من الثواني القصار، فهو يطاول القدر ويسايره جنب إلى جنب ولعله يشبه صراع يعقوب مع الملك، أو ميثاق الدكتور (فوست) مع الشيطان.
المال مادة القمار؛ ونقصد إنه العلة الضرورية المباشرة ومن يدري! لعل الورقة التي تستبطن، أو الكرة التي تتدحرج، تنفح المقامر اللاعب بالحدائق الجميلة، والحقول المزروعة، والأحراج الفخمة، والقصور المشيدة تشق السماء أبراجها الدقيقة. هذه الكرة المتدحرجة إنما تضم في اطوائها الأراضي الخصبة الواسعة، والدور العامرة تلمع مداخنها المنحوتة في مياه اللوار، إنما تضم كنوز الفن وعجائب الذوق، وجواهر غالية طريفة، ونفوساً كان يظن أن ليس إلى بيعها من سبيل. وعلى الجملة تضم مطارف الزينة والمجد، وشديد القوى ونافذ الأسلحة، ماذا أقول؟ إنها تضم شيئاً أثمن من هذا كله بكثير: تضم الأماني والأحلام، أفتريد بعد هذا ألاّ يلعب المقامرون وألاّ يلهو الهازلون. .؟؟ ولو أن القمار لا يبعث غير الآمال الكبار ولا يبدي إلا بسمة عينيه الخضراوين، لكان الميل إليه خفيفاً نحيفلاً، ولكنما أظافره مصنوعة من ماس، يروع، ويخلع البؤس إن شاء، والحياء حين يريد. . ومن هنا كان القمار إلهاً تقدم له فروض الطاعة ومراسيم العبادة:
يكمن الخطر في الأهواء الملحة العنيفة، أرأيت غبطة شديدة ليس يصحبها خمار أو يعقبها دوار، وإنما تسكر اللذة قد خالطها الفزع، وهل يخيف شئ في الوجود أكثر مما يخيف القمار؟ إذا أعطى أدهش، وإذا أخذ فتش. منطقه يباين منطقنا، فهو أصم وأبكم وأعمى، قادر على كل شئ كالإله، له عباده وقد يسوء الذين يحبونه لذاته لا لثوابه، وأكثر ما يعبدونه حين ينزل بهم عذاباً أليماً، وقد يعريهم مما يلبسون، فيعزون النقص إليهم دونه، ثم يقولون (لقد أخطأت كثيراً في لعبي)
وا رحمتاه لهم! يتهمون أنفسهم ثم لا يكفرون
حمص
محمد روحي فيصل