مجلة الرسالة/العدد 407/الكتب
→ أومن بالإنسان! | مجلة الرسالة - العدد 407 الكتب [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 21 - 04 - 1941 |
وحي المطبعة
كتب جديدة
للأستاذ سيد قطب
دائرة المعارف الإسلامية - علم اللغة - ضحكات إبليس -
أسبوعان مع علي ماهر في السودان
لست أدري لم يغمرني شعور بالنشوة كلما أخرجت المطبعة العربية كتاباً جديداً، وبخاصة في هذه الأيام التي يرتفع فيها ثمن الورق وتكاليف الطباعة بينما تنصرف الأذهان عن الكتب وعن الدراسة إلى الأخبار اليومية والى ضجيج الحرب وويلاتها
بل أنا أدري سبب هذه النشوة وهو الشعور بأن الأمة العربية حية نامية لأنها تقرأ، والقراءة هي الدليل الذي لا يخطئ على الحيوية والتطلع إلى آفاق جديدة ومستقبل خير من الحاضر. فإذا كانت لا تزال تقرأ، أي لا تزال تحيا وتتطلع في هذا الجو الخانق الذي يشغل الذهن والقلب عن كل شيء، والذي يبث اليأس والقنوط من الإنسانية ومن المعرفة والثقافة جميعاً، فهذا دليل لا ينقض على أن في هذه الأمة ذخيرة وإن فيها أملاً
وسبب آخر وهو شعوري ببطولة المؤلفين الذين يؤلفون ويطبعون وينشرون فيضطلعون بمهمات ثلاث لا يضطلع أمثالهم في أوربا وأمريكا إلا بواحدة منها مع عظم الفرق بين البيئة والظروف التي تحيط بهؤلاء وهؤلاء
ولعل هذه البطولة تتجلى حين نعلم أن عدد الناطقين باللغة العربية في جميع أنحاء العالم يبلغون حوالي الأربعين مليوناً، نسبة المتعلمين فيهم لا تزيد على خمسة في المائة (2. 000. 000)، ونسبة المثقفين في هؤلاء المتعلمين لا تزيد على عشرين في المائة (400. 000) ونسبة القارئين في هؤلاء المثقفين لا تزيد على 25 في المائة (100. 000) مقسمين بحسب ميولهم وثقافتهم على أنواع التأليف المختلفة، فأقصى ما يطمع فيه مؤلف أن يقرأ كتابه عشرة آلاف في جميع أقطار العالم، وهو رقم نظري يهبط عند التطبيق العملي إلى النصف بينما عدد الناطقين باللغة الإنكليزية مثلاً يبلغ نحو مائة وثمانين مليوناً نسبة المتعلمين منهم تبلغ نحو 80 في المائة، ونسبة المثقفين في هؤلاء المتعلمين لا تنقص عن 50 في المائة، ونسبة القارئين من هؤلاء المثقفين لا تنقص عن 50 في المائة. فعدد من يطمع المؤلفون في قراءتهم للكتب لا يقل عن 36 مليوناً من القراء موزعين بطبيعة الحال على حسب مذاهب التأليف ورغبة كل فريق في نوع معين منه بحيث يخص كل مؤلف نحو مليون قد يهبط عند التطبيق العملي إلى نصف مليون
وهذه الموازنة تبين مقدار بطولة المؤلفين بلغة العرب وضآلة الجزاء الذي ينتظرونه على مجهودهم بالقياس إلى زملائهم الإنجليز أو الفرنسيين. ومع هذا فالمشهورون منهم محسودون
جالت في نفسي هذه الخواطر وأنا أتلقى المؤلفات الأربعة التي وردت في عنوان هذا المقال، فرددت قول القائل: (فليسعد النطق إن لم تسعد الحال!)
دائرة المعارف الإسلامية:
منذ سنوات خلت ران اليأس على كثير من نفوس الشبان المتخرجين في الجامعة وسواها، لأن أبواب العمل قد سدت في وجوههم، وارتفعت الأصوات بالشكوى، لأن المثقفين لا يجدون ما ينفقون فيه ثقافتهم ونشاطهم
وفي ظلام ذلك اليأس وضجة هذه الشكوى كان جماعة من لشبان يأوون إلى حجرة مفردة في عمارة كبيرة وضعت عليها (لافتة صغيرة) باسم (لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية)، ومن حولهم غرف كثيرة لأعمال كثيرة ليس بينها وبينهم صلة في سمت ولا اتجاه!
وفي هذه الحجرة المنعزلة لم يأذنوا لظلام اليأس الذي يغشى حياة الشبان، ولا لضجة الشكوى التي يتعزون بها في هذا الظلام، أن يطرقا بابهم، ولا أن يعكرا عليهم لذة العمل الذي اتجهوا إليه في عزيمة وصبر وسكون
عرفت في ذلك الحين بعض أعضاء اللجنة، وشاهدت خطواتهم الأولى في عملهم المرتقب؛ ثم مرت السنون وانقضت الأيام، وتعاقبت أحوال وظروف على هؤلاء الشبان وعلى مصر والعالم، ولكنهم لم يقفوا يوماً ما عن عملهم المختار؛ وإذا بي أجد لدي في هذا العام المجلد الرابع من مجهودهم الضخم وعددين من المجلد الخامس، وإذا مصر والعالم الغربي كله ينتفع بمجهود هذه الجماعة الصغيرة العاملة في صمت العلماء وتواضعهم، وإذا المسلمون يعرفون من (دائرة المعارف الإسلامية) أكثر مما عرفوه من الكتب الإسلامية العربية، لأن الدائرة تركز ما حوته تلك الكتب وتشير إلى مراجعه، ثم تناقشه وتدلي بالآراء المختلفة فيه، وتزيد عليه ما كتبه كثير من المستشرقين عن الشؤون الإسلامية، وتعليقات من كبار المسلمين الأحياء على كتابة المستشرقين؛ وإذا الدائرة بعد هذا كله مرجع ثمين من مراجع الإسلام وبلاد الإسلام، ودليل مرشد إلى المراجع الكثيرة في مؤلفات المسلمين وغير المسلمين
ولست أدري كم قارئاً عربياً أقبل حتى اليوم على قراءة (دائرة المعارف الإسلامية)، ولكنني أدري أن كل مثقف عربي في حاجة لأن يقرأها ليجد فيها كثيراً جداً مما لا يعثر عليه إلا متفرقاً في مؤلفات عربية ضخمة، ومما لا يعثر عليه في الكتب العربية على الإطلاق، وليس هذا بالمغنم اليسير
علم اللغة
الدكتور علي عبد الواحد وافي مؤلف هذا الكتاب شاب تخرج في (دار العلوم)، ثم درس في فرنسا حتى حصل على الليسانس والدكتوراه في الآداب من جامعة باريس، والآن هو أستاذ بكلية الآداب
وليس هذا كل ما يذكر للمؤلف، فكثيرون تخرجوا في (دار العلوم)، وكثيرون درسوا في أوربا، ولكن قليلين هم الذين انتفعوا بدراستهم وثقافتهم كما انتفع الدكتور علي عبد الواحد وكتاب (علم اللغة) مثل لهذا الانتفاع الناضج المكين
قرأت هذا الكتاب، فإذا هو الأول من نوعه في اللغة العربية، وإذا الجهد العلمي والدراسة والاطلاع على الكتب العربية والإفرنجية في موضوعه واضحة أشد الوضوح، وإذا الرغبة في الكمال متجلية فيه كل التجلي، فلم يكن هناك جهد يجب بذله في الإتقان لم يبذله المؤلف بوفرة وسخاء
والكتاب مقسم إلى ثمانية فصول بعد المقدمة والتمهيد هي: نشأة اللغة الإنسانية وتطورها، لغة الطفل ومراحلها ومبلغ تمثيلها لنشأة اللغة الإنسانية وتطورها، فصائل اللغات وخواص كل فصيلة منها وما بينها من صلات، صراع اللغات، تفرع اللغة الواحدة إلى لهجات ولغات، تطور اللغة وارتقاؤها، أصوات اللغة، حياتها وتطورها، الدلالة وتطورها
وبعض هذه الفصول نشر في (الرسالة)، ولعل الذين اطلعوا على ما نشر ثار في نفوسهم ما ثار في نفسي من الشوق لأن يقرءوا المؤلف كاملاً متسلسلاً متناسقاً. فلقد كان كثير من الأفكار عن اللغة متقطعاً مشوشاً، حتى جاء هذا البحث فنظمه ورتبه وكساه الثوب العلمي، وصور اللغة كائناً حيا حياة حقيقية واضحة الملامح، تخضع لقوانين ثابتة، لا للمصادفات والأهواء.
وفي هذا الكتاب درست خصائص اللغة التي تدل عليها عنوانات الفصول، ودرست خصائص المؤلف في آن واحد!
فالوضوح والدقة والعناية بالشواهد والأمثلة ودراسة كل ما يتعلق بالموضوع وغربلته ومناقشة الآراء المختلفة والاستقلال في الرأي بعد هذه المناقشة، واستخدام كل شوارد المعلومات المتعلقة بالفكرة. . . كل هذه الخصائص تلمحها في الكتاب وتلمحها في صاحبه على السواء.
وقد طالعت بلذة وشغف الأمثلة التي أوردها المؤلف من دراسته لتطور اللغة عند (ابنته عفاف) وأعجبت بانتباهه وصبره على ملاحظتها فتلك بعض سمات العلماء، وأخشى أن يكون تطور اللغة عند هذه الطفلة متأثراً بمصاحبتها لأبيها أكثر من مصاحبتها لأمها، وإن يكون في هذا التطور شيء من البعد عن الطريق المألوف للأطفال الذين يتأثرون بأمهاتهم أكثر من آبائهم؛ فإن طريقة المرأة في الحديث وقاموسها اللفظي ونوع معاملتها وتدريبها لطفلها غير طريقة الرجل في هذا جميعه.
وشيء وددت لو خلا منه الكتاب، فقد عني الدكتور بإثبات المصطلحات الإفرنجية مرة بالحروف اللاتينية ومرة بالحروف العربية مع ذكر ترجمتها. وتلك دقة مشكورة، ولكنها تشوش ذهن القارئ العربي الذي لا يعرف لغة أجنبية، والذي يعرف على السواء. وكان يكفي كتابة المصطلحات بالحروف اللاتينية مع إثبات ترجمتها العربية فالقارئ العربي الذي يعرف لغة أجنبية لا يحتاج لكتابة الاصطلاح الإفرنجي بحروف عربية ولا ينتفع به والذي لا يعرف لغة لا تجديه صورة الاصطلاح بالحروف العربية شيئاً وحسبه ترجمة وذلك مأخذ شكلي صغير. أما الكتاب كله فتحفة للمكتبة العربية جدير بأن يفتح للنقد اللغوي والأدبي مجالاً جديداً في مطالعات القراء.
ضحكات إبليس
هي قصص قصيرة كل منها ضحكة خفية أو غمزة متوارية تبدو فيها (العفرتة) التي تهيئ للعنوان العام!
وقد أصدر مؤلف هذه المجموعة الأستاذ صلاح الدين ذهني مجموعة قبلها باسم (رئيس التحرير) وقصة طويلة اسمها الدرجة الثامنة، وهذه هي محاولته الثالثة
تضم هذه المجموعة أربع عشرة قصة قصيرة؛ والقصة القصيرة أصعب وأدق من القصة الطويلة التي تتسع للترسل والعرض والتحليل، كما أن القصة أصعب على العموم من الرواية، لأنها تستغني عن الوقائع الروائية، فلابد أن تستعيض عنها بعناصر أساسية في صلبها تعوض هذا النقص، وتلذ للقارئ لذاذة العنصر الروائي الجذاب
ومؤلف هذه المجموعة قد خطا خطوات تستحق الالتفات في مجموعته الجديدة، ففيها خمس قصص على الأقل تعد ناضجة كاملة وهي نسبة كبيرة جداً في فن ناشئ في اللغة العربية لم يتعد حتى اليوم حدود المحاولات، وهذه القصص هي: مانكان، وقريتنا النموذجية، وكلاب وناس، والعفريت، والتوبة
والقصص الثلاث الأولى اجتماعية تلمس ثلاث جوانب في حياتنا الاجتماعية المصرية تصور أولاها (كاريكتيرا) صادقاً لكثيرين من المشتغلين بالمسائل السياسية، الذين لا تتعدى وسائل نجاحهم في هذه المسائل أن يكون كل منهم (مانكان) دمية لا رأي لها ولا عقيدة إلا شرح آراء الآخرين ومناصرتها والتقلب على أشكالها، وتصور الثانية (كاريكتيرا) حقيقياً لتفكيرنا في إصلاح الريف ذلك التفكير الذي يجنح للترف والرفاهية والظواهر ويغفل المشاكل الحقيقية ولا يحاول الاتصال بعقلية الريف الصميمة. وتصور الثالثة (كاريكتيرا) مؤلماً لتفاوت الحياة بين قوم وقوم في مصر، حيث يموت الناس في سبيل الكلاب المدللة المحبوبة عند الأسياد المترفين!
والقصتان الأخيرتان إنسانيتان ملونتان باللون المصري، اختار لأولاهما شخصية (وكيل المحامي) في الحي البلدي، فأبدع في تصويرهما معاً إبداعاً ذكرني بالقصص الروسي البسيط العميق. واختار للثانية شخصية (الزوج المقامر)، الهاجر للبيت والزوجة حين يستيقظ ضميره؛ وقد استوحى فيها قصة (مفلسة نيم) للكاتب الفرنسي (أندريه ديماس)، وبالفعل جاء أفقها أوسع من آفاق القصص الأخرى.
وفي القصص الباقية محاولات تنبئ عن تبلور وشيك، وتركز مرقوب
أسبوعان مع علي ماهر في السودان
مؤلف هذا الكتاب الأستاذ (محمد حسنين مخلوف) شاب اشتغل بالصحافة حيناً من الزمن فانطبع تفكيره بالطابع الصحفي. وفي كتابه يبدو هذا الطابع واضحاً: العناية بالأخبار والدراسة السريعة المختصرة المفيدة للحوادث والمظاهر، والسرد الممتع الجذاب. . .
وتبدو في هذا الكتاب (روح الدعاية)، ولكن هذا لا يؤثر في شخصية الكتاب، ولا يحجب ما فيه من لذة موضوعية وفائدة محققة، فلست أنكر أن السودان كان قبل قراءتي لهذا الكتاب شيئاً غامضاً مجرداً من التعاطف الحي بينه وبين نفسي. كان فكرة سياسية في خاطري كل ما يجمعني به هو أنه شطر وادي النيل الذي يحتم علي الإخلاص الوطني والكبرياء القومي أن أستمسك به، وأدعو للاستمساك به. . .
ولكن السودان قد استحال في نفسي بعد قراءة هذا الكتاب كائناً حياً يعاطفني وأعاطفه، وقد شعرت بحقيقة الأواصر الدموية والعاطفية والعقلية والاقتصادية والسياسية التي تربط شطري الوادي، وتعيد وقائع التاريخ الجامدة قصة حياة نابضة
وكل مصري في حاجة إلى الاطلاع على هذا الكتاب؛ وإن وزارة المعارف لتحسن صنعاً لو جعلته في متناول أيدي مدرسيها وطلابها، إذا شاءت أن يحس الجميع إحساساً حياً قوياً بحقيقة العلاقة بين مصر والسودان، وشاءت أن تمد القومية المصرية بجرعات منبهة، وإن تحيل مصر والسودان فكرة واضحة في هن الناشئة. وهذا ما يجب أن يكون.
(حلوان)
سيد قطب