مجلة الرسالة/العدد 407/أومن بالإنسان!
→ من آثام الربيع! | مجلة الرسالة - العدد 407 أومن بالإنسان! [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 21 - 04 - 1941 |
7 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
(أكره أن أضايق القراء ببحث مطول في مجلة، ولكن رغبة
الأستاذ الكبير الزيات، وفيض الخاطر في هذا الموضوع
الخطير، حببا إلي أن أعود إليه)
إنسان غير مفهوم - أوربا المعمرة المدمرة - نكسة - خديعة
ذهبت إلى جهنم! - نغمات وترتيلات جديدة - تناقض بين
حياة الأرواح وحياة الأجسام - من الطبيب؟ - قانون طبيعي
ينتقم لنفسه
الغربي إنسان غير مفهوم! فقد كفر الأوربيون بالحياة في هذه الحرب بعد أن جنوا بها جنوناً في وقت السلم. وهم لا يذكرون السلم في هذه الحرب كما لم يذكروا الحرب في فترة السلم
لم يتخذوا من قانوني الحياة والموت حداً وسطاً يقيمون عليه حياتهم وما استخلفوا عليه من حياة الآخرين، فيعيشوا على كفتي ميزان معتدلين آخذين حظاً صالحاً يعدل السلام ويعدل الحرب
هم فجروا في فترة السلم: فتشهوا وكفروا وعبدوا الهوى واحتقروا الضعيف وشرهوا للمال وغصبوه من أفواه الآخرين بالحديد والنار، وخانوا أمانة الاستخلاف على الأرض، وتنازعوا على الطعام الكثير كما يتنازع الأطفال!
وهم فجروا في هذه الحرب، فلم يرعوا حرمات الحياة الإنسانية التي قدستها الأجيال: فصبوا العذاب على الأطفال والنساء والمستضعفين والمرضى وسكان المعاهد والمعابد المسالمين، وحرقوا الأقوات والأرزاق والمأوى. . . فحياتهم لا تحتمل ولا تستحق العمل بعد هذه الحرب إذا أصروا على أن يلجئوا لحرب أخرى بهذه الكيفية النكراء التي تدمر عمروا وعمر الناس. . .
من يصدق أن أوربا البانية العالمة المعمرة المخترعة العابدة للحياة، الساعية الجاهدة في سبيل الكشف والمال والاختراع، الباحثة المنقبة عن خبايا الأرض وركازها، الرائدة الكاشفة عن مجاهلها، المبشرة بالمثل العليا بين الأجناس المتخلفة، القاضية على تجارة الرقيق، الحاملة للتجارات والمعلومات، الواصلة بين أقطاب الأرض صلة اللاسلكي والراديو والتلفزيون، المرسلة (المبشرين) لتحرير الناس من الوثنية، الدارسة للأنواع والأجناس. . . هي هذه المخربة المدمرة الباطشة بطش النمور والأسود، القاسية على النساء والأطفال والضعفاء، المفتنة في رسائل الآلام، الهدامة للدور، المحيلة عمار المدن إلى خراب القبور؟!
الأجسام العاجية الجميلة تذوب وتصهر وتسحق عظامها وجماجمها تحت أثقال الحديد والجلاميد. . .!
الوجوه المشرقة البيضاء ذات العيون الزرقاء والشعور الذهبية ذهبت قرابين تأكلها النار باختيارها
مسكينة! طافت في جميع بقاع الأرض تجمع الذهب الأصفر والذهب الأسود والحديد، ثم أوقدت على الجميع في النار واحترقت معه!
جمعت في أنانية وجشع واعتزاز واعتزام. . . لا لتملأ البطون الفارغة، وتكسو الأجسام العارية، وتعين أبناء الحياة على نوائب الحياة، ولكن لتملأ أفواه المدافع وبطون المقابر. . .!
خلاصة الإنسانية العاملة المجاهدة المتاجرة المخربة العالمة. تحترق الآن على مشهد من الزنوج والإسكيمو!
الحياة تتحطم بأيدي بنائها ومقيمي صروحها العالية وجامعي مواد بنائها من لحومهم وعظامهم ودمائهم وذهبهم وحديدُهم ونور عيونهم في المعامل والمعاهد!
الغادة اللعوب الفاتنة ذات المساحيق والأصباغ والعطور والأزهار واللؤلؤ والديباج (والمونوكير) تتكشف عن العجوز الشوهاء الدرداء المريضة الرسحاء العجفاء ساكنة الكهوف والمغارات، الضاربة على الدف لشن الغارات! الأم العاقلة العالمة تصيبها جنة وجهالة فتأكل بناتها وبنيها!
لندن وبرلين عليهما الخراب والدمار صباً فيباد ما فيهما من مراكز نمو الحياة وعلب أسرارها (وقماقم) أجنتها وولائدها. . .!
والإنسانية الجاهلة الغافلة المقيمة بالأكواخ في القارة السوداء وأواسط التبت ترى هذه الإنسانية العالمة المدبرة الجميلة تشن الغارة على الحياة بالزلازل والبراكين والصواعق الصناعية. . . فتحمد الله على الحياة في الغابات مع الأسود والقرود التي لا تلتقم منها إلا أفراداً!
الحياة تصاب بنكسة حادة يا أطباء الحياة. . . فهل من دواء لها فيما صنعتم من العقاقير والأقرباذين؟!
كنا أوشكنا أن نعبد الدنيا ممثلة في لندن وباريس وبرلين، وننسى نهاية رحلتنا في هذه الدنيا غرباء عابري سبيل، لا تملك المكث ولا البقاء، ونخضع لقوانين الزوال والفناء، ويدور الفلك بنا دورات حتمية تشب الطفل وتشيب الصغير وتفني الكبير وتلقي بنا إلى العالم المجهول. . .
وكنا أوشكنا أن نظن تلك الأجسام الأوربية القوية الجميلة الرقيقة الرشيقة الذكية هي الإنسان المقصود بالحياة. وأما من عداها (فحيوانات بشرية) - كما تعبر الهتلرية - ومخلوقات تكميلية خادمة لها تعيش على هامشها وتسير في خدمتها، وقبح اعتقادنا في أنفسنا تبعاً لذلك حتى تركنا لها الأرض طوعاً وكرهاً وخلينا لها مكاننا من الدنيا. . .
وكنا اعتقدنا أن عناوين النظم الأوربية ثابتة لا تتزلزل، ونظمها البارعة عزيزة على أصحابها، وأن الإنسان الأوربي مقدس لدى نفسه وأممه، فلا تحطيم لدنياه ولا نسف لنظم حياته ولا تمثيل به ولا سحق ولا نثر لأشلائه. . .
وكنا أوشكنا أن نرى العالم المادي الدقيق الذي صار التنويع فيه والتشكيل والتلوين والدقة والتركيب كأنه دنيا أخرى من مخلوقات الحديد والصلب والخشب وسائر المواد الجامدة منفصلة عن روح الحياة في الإنسان فأخذنا نعيش بها عيشة آلية صخابة بدون وعي ووداعة وإحساس من الروح ويقظة للمصير المحتوم!
ولكن هذه الحرب أخلفت تلك الظنون الخاطئة، وصححت أفهامنا الفاسدة، وكشفت عن أبصارنا غطاء التمويه وسحر التخييل، فإذا بنا نعود وإذا بالأوربيين أنفسهم يعودون معنا إلى المعاني الأزلية الخالدة التي بزغت من قلوب أنبيائنا واستنزلوها من السماء بالإخلاص والبكاء لرب الحياة الذي وضع الإنسان فيها موضعه بين الأهوال والألغاز والأسرار. . .
وإذا المثل العليا تعود ذكراها إلى الألسنة والأقلام يرددها الساسة وسماسرة المال! ويخطبون فيها خطابة الأنبياء والمرسلين بين عباد الأوثان بالبيان الساحر والحجج الأخاذة، والإذاعة العريضة الواسعة
وإذا الترتيلات بالحق والسلام والعدالة تنبعث من جميع بقاع الأرض وتنطلق بها حناجر الناس جميعاً، وتزيد كل أمة في طنبورها نغمة
وإذا بالنظم الأوربية الظالمة الجائرة المتحجرة تذوب وتنماع تحت حرارة أنفاس الدعاة إلى السلام والحق والعدالة، وتحت نيران هذه الحرب التي انتقمت شر نقمة من طغيان السياسة والرأسمالية والدعوات الهدامة
وإذا بالروح الإنسانية الوديعة الرحيمة المؤمنة بالله وبالإنسانية تعود في جو مخضب بالدماء، مندي بالدموع، مطرز بالآلام، إلى القلوب المهجورة القاسية الكافرة، كما يعود طير شارد تائه إلى عشه المهجور، ومكان حنينه وأشواقه، فيراه خرباً منثور الأعواد، عبثت به الرياح، وعششت فيه العناكب. . . فما يزال يضم عوداً إلى عود، وورقة إلى ورقة، ويرفرف عليه بجناحيه حتى يطرد عنه أنفاس السوء وأوساخ الحشرات، ثم يعمره بالرحمة والحب والحنين. . .
لقد بنى الغربيون حياتهم على مناعة الأجسام وحدها من أمراضها، ولم يبحثوا عن وسائل مناعة الأرواح من آفاتها. فأخذوا الحياة من جانبها الضعيف وتركوا الجانب الآخر، وقوانين الطبيعة لا ترحم من يخالفها ولا تحابيه، بل تدافع عن وجودها وتهدم من يحاول هدمها
فمن يدع ثغرة في بناء الحياة من غير سدها أوشك أن يدخل منها إلى البناء ما يأتي عليه من القواعد، ويجعله خاوياً على عروشه
وكان جديراً بالإنسان الأوربي الذي يعرف حجم الميكروب الصغير وخطورة آثاره، فيحترس منه ويقيم الأرصاد والجواسيس خشية اقتحامه عليه ثغرة من ثغرات جسمه. . .
أن يعرف أن للحياة الروحية جراثيمها الفتاكة فيجاهد لكفاحها وقتلها كما يفعل بأخواتها جراثيم الأجسام، حتى تسلم جميع قواعد بناء الحياة من أسباب الانهيار
ولكنه لم يعرف بعد الجراثيم الروحية، ولا يزال روحه يعيش في عصر التطبيب بالخرافات، كما كان يعيش في عصر الخرافات في طب الأجسام. . .
ولا يزال يسخر بأطباء الأرواح وعلاجاتهم كما كان يسخر بأطباء الأجسام حين يفاجئونه بكشف جديد لمرض قديم
فإلى أن يؤمن بما يصنع له طب الأرواح ويعمل به سيظل شقياً بتلك الأمراض التي هي اشد فتكا من الطاعون والسل والجدري وغيرها من الأمراض التي تهدم الإنسان وحده، ولا تهدم معه تاريخه ومبادئه ومبانيه وأمواله. . . فمن أعراض أمراض الروح تلك القنابل والصواعق والحرائق التي تترك المدن التي صبت فيها جداول المدنية والعلوم والتقت فيها الحضارات وثمار الجهود المشتركة خراباً ودماراً كأن لم تغن بالأمس
ولكن ينبغي له قبل ذلك أن يخرج من بين أطباء الأرواح أولئك الدجالين المشعوذين والأغبياء المحدودين الذين قد يقتلون النفوس بالعلاج الخاطئ، أو يغلقونها دون رحمة الله أو يصيبونها بعاهات، أو يعالجونها بالخرافات والشعوذة وأسباب الضلال، كما فعل بأشياعهم الذين كانوا يندسون بين أطباء الأجسام من قبل. . . حتى يستقيم علاجه على أيدي الأخصائيين الذين خلقهم الله لقيادة النفوس بالسلوك والمعاملة والبيان الواضح والفكر المضيء المنير. . .
أولئك الأوصياء لا يلزم أن تكون منهم في الأمم كثرة. بل ينبغي أن يكونوا قلة؛ حتى لا تصيبهم مصائب الزحام على الأرزاق والوظائف. . .
ويجب إلا يرتفعوا إلى المناصب بالوساطات والشفاعات و (الشهادات) بل بأنفسهم وما فيهم من خلق الوصاية الرشيدة والسياسة الحكيمة، والقدرة على إدراك الداء في كل نفس، ووصف العلاج
وينبغي أن يدقق في اختيارهم غاية التدقيق. وينبغي أن تكون وسائل العلاج هي ما صلح من مواريث القديم، وأصلح الآراء في علم النفس الحديث. . . أي ينبغي أن يكون علم النفس هو أساس التربية الروحية والدعوة إليها كما صار علم وظائف الأعضاء وعلم الأغذية أساس الطب الجسدي الحديث
وعلم النفس أوشك أن يكون من الدقة والصحة بحيث يستطيع أن يضع الإنسان في المخابير والمسابير ويقيس كل ما فيه بأرقام لا تخطئ!
إن قوانين الروح قد غضبت وانتقمت لنفسها شر نقمة من الإنسان الذي لم يقم لها بعد وزناً. وأنه لجهل وصفه إلا يفطن الإنسان الأوربي بعد إلى أن يحمي نفسه من غضبها ونقمتها كما يحتمي من غضب قوانين صحة الأجسام
أنه يحشى أن يمد يده في النار لئلا تحرق، أو يلقي نفسه في الماء لئلا يغرق، أو يقف في طريق قاطرة لئلا يسحق. . . ولكنه يرضى لنفسه أن يبخل فيسرق، وإن يطمع فيكره، وإن يستبد فيحارب؛ وإن يخل موازين العدل فتفسد حياته بفساد حياة الآخرين، وإن يترك الناس إخوانه جاهلين مرضى الأجسام والنفوس فيحرضوه ويشقوا حياته بشقائهم. . .
كلمة يجب أن تعلم وتكرر دائماً أمام الدولة وأمام الفرد وهي:
إن الدولة كائن عضوي واحد كالجسم الواحد ذي الروح الواحد. . . فإذا سمحت لشيء منه ولو كان ظفراً أو منبت شعرة أو خطرة نفس أن يدخله الفساد، فسيلحق الجسم كله - وأنت خلية فيه - آثار ذلك الفساد وآلامه
فأحذر أن يمرض أخوك أو خادمك حتى لا تنتقل عدواه إليك. . . واشترك في إطفاء الحريق في بيت جارك قبل أن تمتد النار إلى دارك!
عبد المنعم خلاف