مجلة الرسالة/العدد 406/رد على رد
→ في جنة الدنيا دمشق | مجلة الرسالة - العدد 406 رد على رد [[مؤلف:|]] |
حول السنوسيين ← |
بتاريخ: 14 - 04 - 1941 |
وأد البنات عند العرب في الجاهلية
لدكتور علي عبد الواحد وافي
عقب الأستاذ عبد المتعال الصعيدي على مقال لي في وأد البنات عند العرب في الجاهلية بكلمة ترجع خلاصتها إلى النقط الآتية:
1 - يسألني من أين أتيت بالرأي الذي ذكرته في هذا المقال بصدد عقائد القبائل التي كانت تئد بناتها، والعوامل التي كانت تحملها على ذلك.
2 - يرى أن العرب في الجاهلية كانت تعتقد أن الله خالق كل شيء، بدليل قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم). فكيف يصح مع هذا ما ذكرته من أنهم كانوا ينسبون خلق الذكر لآلهتهم وخلق الإناث لله.
3 - يرى أن ليس المراد بالبنات في الآيات التي استشهدت بها الإناث من بني الإنسان، وإنما المراد بهن الملائكة.
4 - يرى أن آية النحل التي ذكرتها: (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون)، لا تدل على انهم كانوا ينسبون الذكور لآلهتهم، وإنما تدل على انهم كانوا ينسبونهم لأنفسهم.
5 - يرى أن وأد البنات لم يكن للسبب الذي ذكرته، بل كان بعضه للفقر، وبعضه لخوف الفقر، وبعضه لخوف السبي والعار، وإن لا مانع من أن يكون بعضه تنفيذاً لنذور كانوا ينذرونها. فقد كان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاماً لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب.
وردي على هذه المسائل يتلخص كذلك في النقط الخمس الآتية:
1 - لم آت بالرأي الذي ذكرته من كتاب، ولم أنقله عن أحد، بل هي نظرية لي استنبطتها استنباطاً من آيات الذكر الحكيم؛ وصرحت في مقالي أنه لم يسبقني بها أحد. فلا محل إذن لمطالبتي بالمرجع الذي رجعت إليه بصددها.
2 - لم يكن العرب في الجاهلية على دين واحد، بل كانوا فرقاً كثيرة يختلف بعضها عن بعض اختلافاُ كبيراً في العقائد والعبادات، فكان منهم من يعبد الله على مل إبراهيم، وكان من هؤلاء الرسول عليه الصلاة والسلام قبل بعثته وكثير من السابقين الأولين إلى الإسلام، وكان منهم اليهود، وهؤلاء كانوا ينتمون إلى عدة قبائل يسكن معظمها المدينة وضواحيها وشمال الحجاز (بنو قريظة، بنو النضير. . . الخ) وكان منهم المسيحيون، وهؤلاء كانوا فرقاً كثيرة تنتمي إلى مختلف مذاهب المسيحية المنتشرة في ذلك العصر، وكان منهم عبدة الكواكب، فكنانة كانت تدين للقمر وللدبران، وبنو لخم وجرهم كانوا يسجدون للمشتري، وبنو طبئ ألهوا سهيلا، وبنو قيس بن عبلان توجهوا للشعري اليمانية (وهم الذين قد سفه الله عقائدهم إذ يقول عز وجل: (وأنه هو رب الشعري). . . وهلم جراً، وكان منهم الدهريون الذين لا يؤمنون بإله وينسبون كل شيء للطبيعة: (أن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) وكان منهم الوثنيون عباد الأصنام، وهؤلاء كانوا فرقاً كثيرة تختلف كل فرقة منها عن غيرها اختلافاً كبيراً في نوع الأوثان، ونظرتها إليها، ومبلغ تقديسها لها، وعقيدتها في الله تعالى. ففريق من هؤلاء كان يعتقد بوجود الله وينسب إليه الخلق والأمر، وما كان يعبد الأصنام إلا لتشفع له عند الله وتقربه إليه. وفي هذا الفريق جاءت الآية التي أوردها الأستاذ وآيات أخرى كثيرة (ألا الله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)؛ (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله. . . الخ). وفريق من الوثنيين كان ينسب الخير لأصنامه والشر لله تعالى. فكان الله في نظرهم إليه الشر أو ما يشبه الشيطان في نظرنا، (تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً). ولذلك كانوا ينسبون إليه ما يكرهون. وفي هؤلاء يقول الله تعالى: (ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى) (النحل 62). والقبائل التي كانت تئد بناتها كانت من هذا الفريق، لأن الآية السابقة جاءت في سياق الحديث عمن كانوا يئدون البنات. وغنى عن البيان أن من ينسب لله ما يكرهه والدنيء من الأشياء لا يمكن أن يكون ممن يعتقدون أنه تعالى خالق كل شيء. فالآية التي أوردها الأستاذ عبد المتعال والآيات الأخرى التي من نوعها تتحدث عن فريق من العرب غير الفريق الذي نحن بصدد الكلام عنه.
3 - تفسير البنات بالملائكة لا يستقيم في معظم الآيات التي أوردتها في مقالي السابق. ففي قوله تعالى: (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين)؛ وقوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذن قسمة ضيزى)؛ وقوله: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنين). في هذه الآيات وما إليها لا يستقيم في نظري تفسير البنات بالملائكة، لأن الملائكة لا تقابل الذكور من بني آدم. فلا يصح أن يقال فيمن يقتصر على نسبة الملائكة لله معتقداً أنهم إناث: أنه يختص نفسه بالبنين من الآدميين دون بناتهم، كما تصرح هذه الآيات، وإنما يقال فيه أنه ينسب لنفسه النوعين من الآدميين - أي الذكور والإناث - وينسب لله الملائكة ويجعلهم من نوع الإناث لا غير.
على أن كثيراً من الآيات التي ذكرتها في المقال لسابق، قد جعلت وأدهم للبنات مترتباً على عقيدتهم هذه (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون، وإذا بشر أحدهم بالأنثى الخ) ولا يستقيم هذا إلا إذا كان الغرض من البنات الإناث من بني آدم لا الملائكة.
حقاً انهم كانوا يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم كانوا ينسبونهم لله ويعتقدون أنهم أولاده، كما يصرح بذلك كثير من الآيات؛ ولكن هذا لا يتعارض مع ما ذهبنا إليه من أنهم كانوا ينسبون البنات من بني آدم لله تعالى، بل يزيده تأييداً كما أشرت إلى ذلك في مقالي السابق. وذلك أن القسمة الضيزى التي أجروها في عالم الأرض ونسبوا فيها لله تعالى الإناث ولآلهتهم الذكور، قد أجروا مثلها في عالم السماء، فكانوا ينسبون لله تعالى من هذا العالم كل ما يعتقدون أنه من نوع الإناث. ومن أجل ذلك نسبوا إليه الملائكة لاعتقادهم انهم من هذا النوع. ولذلك جاءت عقيدتهم بصدد الملائكة في معظم الآيات التي أوردناها في المقال السابق مصاحبة لعقيدتهم بصدد الأولاد من الآدميين. وذلك يدل على انهما عقيدتان مرتبطة كلتاهما بالأخرى ومترتبة عليها: (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون؟ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون؟ (أفرايتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذن قسمة ضيزى. . . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى). فالقرآن في هذه الآيات يحدثنا عن حقيقتين لا عن حقيقة واحدة: إحداهما ما يعتقدونه بصدد الذكور والإناث من الآدميين؛ وثانيتهما ما يعتقدونه بصدد الملائكة.
4 - وأما نسبة الذكور لآلهتهم أو لأنفسهم فهذا لا يهم كثيراً في موضوعنا، ولا يؤثر شيئاً في النظرية التي أوردتها؛ لأن المهم أنهم كانوا ينسبون الإناث لله وانهم لذلك كانوا يئدونهن؛ وسواء لدينا بعد ذلك أن كانوا ينسبون الذكور لأنفسهم أو لألهتهم. على أن ما ذكرناه في المقال السابق بصدد الذكور تحتمله آية النحل، وخاصة لأن الضمير في الآية التي قبلها يرجع إلى الشركاء: (ويجعلون لما لا يعلمون (أي لآلهتهم التي لا علم لها لأنها جماد. آه البيضاوي) نصيباً مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون، ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون). فرجع الضمير في لهم إلى الشركاء المذكورين في الآية السابقة ليس محتملاً فحسب، بل أرجح كثيراً في نظري من رجعه إلى المشركين. لأن موضوع الحديث هو تقسيمهم المخلوقات بين الله وشركائهم لا بين الله وأنفسهم. ويزداد هذا المعنى تأييداً إذا ربطت هذه الآيات بآيات الأنعام: (وجعلوا لله مما ذراً من الحرث والأنعام نصيباً، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. . .). (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم. . .)
ويزاد هذا المعنى تأييداً كذلك إذا لاحظنا انهم ما كانوا ينسبون خلق شيء لأنفسهم، بل كان ذلك يتردد بين الله وآلهتهم.
5 - لا يمكن أن يكون سبب الوأد هو الفقر أو خوف الفقر؛ لأن هذا النظام لم يكون معمولاً به في الطبقات الفقيرة وحدها، بل كان عاماً عند الفقراء والأغنياء في العشائر التي أخذت به، ولو كان الفقر هو الدافع إليه للحق جميع الأولاد بدون تمييز بين الذكور والإناث. ولا يمكن أن يكون سببه خوف العار والسبي للأسباب التي ذكرتها بتفصيل في مقالي السابق. ولا يمكن أن يكون سببه نذوراً من نوع نذور عبد المطلب بن هاشم لأننا بصدد قبائل كانت تئد كل بنت تولدها لا بصدد حالات فردية كانت تنحر فيها بعض البنات وفاء لنذور سابقة.
علي عبد الواحد وافي