مجلة الرسالة/العدد 405/من وراء المنظار
→ الغناء والموسيقى وحالهما في مصر والغرب | مجلة الرسالة - العدد 405 من وراء المنظار [[مؤلف:|]] |
لذكرى المولد النبوي ← |
بتاريخ: 07 - 04 - 1941 |
قطط وكلاب وناس!
منظر كم تمنيت بعده أن لم تقع عليه عيناي! ومع ذلك فقد لبثت دقائق كثيرة أحملق فيه وأطيل النظر، كأنما وقعت منه على فرجة تبتهج لها النفس!
في شاعر كبير من شوارع هذه المدينة العظيمة: - القاهرة عين أفريقية وملتقى الحضارتين الشرقية والغربية - وقعت على مقربة من صندوق القمامة، فإذا بي أرى في ناحية قططاً ثلاثة، وفي ناحية أُخرى كلبين، وعلى قيد خطوة من هذه المخلوقات بنتين وصبيين وعجوز
وقفت أنظر. . . فيا لشناعة ما رأيت من منظر، ويا لهول ما جاشت به نفسي عن المعاني تلقاءه! وأني أعيذك أيها القارئ أن تستكثر على استشعار الهول فيما رأيت، وأن ترده إلى استغراق في العاطفة يلحق بالضعف؛ وإلا رميتك أنا بالقسوة، وعندي أن القسوة هنا - على أي حال - إنما هي شر مما تزعم من ضعف.
راحت هذه المخلوقات الآدمي منها وغير الآدمي تنبش القمامة فتمد الكلاب والقطط أرجلها الأمامية ويمد الآدميون أكفهم حتى لتكاد تلتقي تلك الأرجل وهاتيك الأيدي كأن لا فرق بينها في شيء.
وجعلت أنقل البصر من القطط إلى الكلاب ومن هذه إلى البنتين والغلامين والعجوز وأول ما برز لي من المعاني هو صورة من تنازع البقاء في هذه الدنيا لاحت بين أفراد كل فريق من جهة، ثم بين كل فريق وفريق من جهة أُخرى.
كانت القطط تقوس ظهورها وتنفش شعورها وتخطف العظام إحداها من الأُخرى، فإذا أرادت أن تخطف شيئاً من الكلبين دارت معركة قصيرة بين الفريقين، فإذا زجر الصبيان الكلبين والقطط في حذر وخوف، جرت القطط فتربصت على خطوتين لتعود بعد لحظة، واستعلن الشر في وجهي الكلبين، فتركهما الزاجرون من الآدميين ومضى كل إلى ما كان فيه من عمل. وكان يفرح هؤلاء التعساء من الآدميين إذا دارت المعركة بين الكلبين والقطط واستمرت لحظة طويلة، فيكبون إذ ذاك في عجلة ونشاط في التقاط ما تنكشف عنه القمامة من بقايا العظام ولقيمات الخبز وقشور الفاكهة وما إليها قبل أن يعود فيشاركهم في التقاطها أفراد الفريقين الآخرين.
وكان كل من الصبيين والبنتين والعجوز يزحم الآخر ويسابقه في نبش كومة جديدة من الكناسة فإذا عثر أحدهم على لقمة كبيرة نوعاً لاح في وجهه مثل ما يلوح في وجه الباحث عن الذهب في أرض الذهب إذا التمع في عينيه عرق من المعدن النفيس؛ ويقذف الصبي باللقمة في حجره وقد زادها قيمة عنده أنها خلصت له من قرنائه ومن القطط الثلاثة ومن الكلبين.
ومرت بي أثناء ذلك بعض السيارات الفخمة تحمل أنماطاً من سراة القوم، ومن هؤلاء من لاحظت أن عيونهم رأت ما رأت عيناي إلى جوار صندوق القمامة، ولكني لم أتبين في وجه من هاتيك الوجوه الناعمة الراضية أية اختلاجة من أسف أو من رثاء. أجل لم أتبين في هؤلاء السادة (عبيطاً) مثلي يرى في ذلك المنظر ما يستوقف بصره. وإذ ذاك ازداد رثائي ضعفين على أولئك التعساء الذين يشاركون الكلاب والقطط في نبش الكناسة وليس يملك مثلي لهؤلاء إلا العطف والرثاء.
ألا ليت أولئك السادة انتبهوا ففطنوا إلى أن هؤلاء الذين نزلوا إلى مستوى الكلاب ينتمون إليهم في (آدميتهم) وانهم في هذا الوضع يشينون الجنس كله. قم ألا ليت أولئك السادة تذكروا أن القليل مما ينعقون في شهواتهم كفيل بأن يقضي على أمثال هذه المناظر إن كان يهمهم القضاء على تلك المناظر. . .
آه. . . ليت أولئك السادة حين تقع أعينهم على بنيهم وبناتهم إذ يلقونهم فرحين بما يتقلبون فيه من نعمة، يذكرون انهم رأوا بنين وبنات من تعساء الإنسانية تلتقي أيديهم الهزيلة بأرجل الكلاب والقطط في نبش صندوق القمامة.
الخفيف