مجلة الرسالة/العدد 405/الغناء والموسيقى وحالهما في مصر والغرب
→ يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند | مجلة الرسالة - العدد 405 الغناء والموسيقى وحالهما في مصر والغرب [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 07 - 04 - 1941 |
للأستاذ محمد توحيد السلحدار بك
- 4 -
ثلاث الكليمات التي تقدم إيرادها هي بيان وجيز لملاحظات على الغناء والموسيقى في مصر والغرب، يلاحظها كثيرون منا، ولم يقصد بعرضها جميلة سوى لفت النظر إلى ضرورة الأخذ في إصلاح جدي يقوم من أود هذين الفنين وما يتعلق بهما عندنا. فإن استصوبها فنان محب لفنه، وأحس بقدرة على شيء من هذا الإصلاح وتهيأ له، فتوخاه ومهد سبيله، كان له فضل الابتداء والسبق في خدمة جليلة.
والذي يجمل بذوي الهمة من الفنانين هو قبل كل شيء، أن يحاولوا رفع ذلك الحب المريض من حضيض ذله الذليل، وإن يطبوه بأشعة البشاشة وروح الهشاشة لعلهم يزيلون عن قلبه تسعة وتسعين في المائة - على الأقل - من هذا الحزن الذي ران عليه، وينقذونه من طوفان دمعه السخين؛ والمجال، بعد هذا الإسعاف، واسع شاسع الأطراف: أفليس أمامهم حب الأصحاء، سعيده وشقيه؟ وسائر الأحاسيس والخوالج كنز لا يفنى. لهم أن يختاروا منه ما يسهل وصفه: كألوان العواطف الوطنية والعائلية، وكالحماسة والفرح وغيرهما؛ وفي الطبيعة جمال مشرق باسم يمرح الشباب أمامه في أحضانها ويلاعب ويداعب، ويتهكم ويغاضب، ويجالس ويؤانس، ويتراقص ويتعاشق، ويغني ويطرب في هناء وابتهاج. كل ذلك قد لا يتعذر على الفنان الحي تصويره بمنظوم شعره ومنثوره، أو بألحانه، أو غنائه، أو موسيقاه، إن هو أن اعتمد على بصيرته وبصره، واستهدى شعوره، وراد آفاق نفسه، وطلوع وحي قلبه محترساً من تقليد سواه.
وإذا حل أن يعبر للعامة عن أمثال هذه الموضوعات بالعامية فهل يحرم أن يعبر عنها بالفصحى للصفوة المثقفة، وبالفصيحة السهلة الواضحة للخاصة المتعلمة على أن يكون إلا تجاه بها إلى التعميم؟
والمأمول أن ترجح في الغناء كفة ما كان من النثر والنظم شعراً ما دام مجرد استعمال الكلمات التي ألفها الشعراء: كالقمر والزهر والفؤاد والوداد والنيل والنخيل، لا يرد غث الكلام وسفسافه شعراً. وإن بين الناثرين والناظمين شعراء بصراء، تشعر أغانيهم بقدرة تمكنهم من الإتيان بأغان تشرفها، لولا استقرار العادة على مراعاة التقاليد التي سلطها الجهل وضعف الطبع، ولولا طلبات الملحنين والمغنين الخاضعين لأذواق الجمهور الفسيدة.
أما الملحن، فالنصيحة الخالصة له أن يوطد العزم على نبذ العادة القديمة ومقاومة التقاليد السقيمة؛ وإن يتحاشى عن نية تقليد الشرقي والغربي على حد سوى، ولا سيما التقاليد الأعمى من اقتباس عبارة صوتية معينة - مثلاً - يعجبه أسلوبها فيقحمها في لحنه غافلاً عن مدلولها، أو من مد مخصوص، أو من تعمد التحزين الخارج عن الفن، ومما إلى هذه الأمثلة.
فإن كان صادق العزم، فسبيله أن يطب نفسه أولاً من الذلة والخور والخنوع، ويشفيها من داء الحزن العضال، ومن التفجيع المقيت والعويل الثقيل؛ وإن يحررها من بدعة التخنث والتكسر والتميع، ليخلص أولاً من كل هذه العلل الوبيلة التي مكنها منه استحسان العامة وأشباه العامة. ومما يعينه على النجاة النزهة الخلوبة، والرياضة البدنية، والمطالعات المنعشة، والصاحب المؤنس المفرح، وإجالة الخاطر في الموضوعات الملائمة للغرض، والإيحاء التلقائي.
والأجدى له في عمله هو أن يمعن في التفكير بادئ بدء في فحوى ما هو مقبل على تلحينه من الكلام، وإن ينظر ملياً في جمله وكلماته وحروفه، ليتبين الروح الذي أملاه، والموقف الذي يصف؛ ثم يتصور أنه هو في هذا الموقف، وأن ذلك الكلام كلامه؛ فإذا أرهف حسه، وأيقظ ملكاته، وهيأ نفسه وشعر بإيحائها وارتياحها إلى التلحين، أخذ في الترنم بالأغنية؛ ثم يكرر التغني حتى يجيء مدلول اللحن مطابقاً لمدلول الكلام المعبر عن الحال النفسية التي استعارها لنفسه هو من الموقف الموصوف بالأغنية؛ ثم يترك اللحن الذي وضعه أول وضع، ويرجع إليه مرة بعد مرة لتهذيبه وإحكامه على مقياس تلك المطابقة، لا ابتغاء جعله مشابهاً للحن آخر، أو مرضياً لذوق خاص؛ فيدع الصوت يعبر التعبير الطبيعي، ويطابق مقتضى المقام المدلول عليه بالكلام بما أنه قد تعمد اعتقاد وجوده هو في هذا المقام، واعتاد هذا الاعتقاد حتى استقر ما بفكره ونفسه في عقله الباطن.
وأما المغني، فسبيله أن يعمل في التدرب على غناء اللحن ما عمل صاحبه في إنشائه، بعد أن ينفي عن نفسه ما استطاع من ذلك الحزن المميت وتلك الذلة الساحقة، سواء أكانت تقليدية أم طبيعية؛ ولابد له من أمور منها:
أن يقضي مدة قبل مزاولة الغناء في تقوية صدره وتعميق نفسه ومده، وإلانة حباله الصوتية، والتمرن على التنفس في الغناء، حتى لا يقطع بقصر نفسه عبارة صوتية من لحن يغنيه، وحتى لا يظهر أنه يختمها ونفسه وشيك الانقطاع، لأن هذا يخدش أسلوب العبارة. ومن مقتضيات الإجادة أن يؤديها أحسن اداء، ويختمها قادراً بما في نفسه من بقية وافرة؛ ولذلك كله وأمثاله طرائق وتمرينات معروفة.
وإن يهجر الغناء إذا كان من ذوي الخنخنة، ولا يغني مزكوماً أو متخوماً، أو مخموراً
وأن يحرص في غنائه على نقاء صوته وصفائه، فلا يعرقل جريانه بمثل قلبه الياء من حرف النداء همزة لينطق آبدل يا، أو بما يشبه مأمأة، وتارة عواء، أو ما يشبه عند الوقف شهقة الحمال حين يلقي حمله، أو ما يماثل توجع المريض والجريح في تصويره ألم العاشق.
وألا يقطع صوته بالوقف إلا بالقدر الضروري لإحداث مزية، كتنبيه المستمع إلى معنى الكلمة التي يقع الوقف على آخرها
وألا يطيل غناءه مستعيناً بغناء الجوقة معه ولا يكرر ذلك كثيراً، وإذا غنى معها فلابد له من إظهار صوته على أصواتهم وأصوات معازفهم، لأن الناس إنما يريدون سماع صوته هو، وهذا غير الجوقة الغنائية؛ لكن لا ينبغي له أن يعلو بصوته إلى طبقة لا يبلغها بغير عناء، لأن أقله يعكر صفاء صوته ويزيل رواءه ويعيب غناءه وإن أطرب في الطبقة التي يقدر عليها. من أجل ذلك يجب عليه أن يتخير من الألحان والأغاني ما يلائم طبعه، وقوة صوته، ونوعه.
إن المتقدمين من أهل المدينة العربية ميزوا أصوات المغنين فقالوا مثلاً: أجش ومجلجل وكرواني؛ والغربيون يميزونها فيقولون مثلاً: باس وتينور وكونترالتو وسوبرانو؛ فلا يغني كل صوت إلا ما يلائمه من الألحان؛ وظننا أنه قد آن لنا أن نبدأ هذا التمييز مثل أصحاب الفن الصحيح.
يحسن بمن يزاول فن الإطراب أن يعتبر بهذه الملاحظات ويتحرز من الخطأ الفني ويتحاشى العيوب المشار إليها في هذه الكليمات وعن أمثالها، كعدم إخراج الحروف من مخارجها بالدقة، وعدم لفظ الكلمة واضحة. ومن الأصوات المسموعة في مصر ما يطرب ويمكن الافتنان فيه، وبين الملحنين والعازفين مهرة ليس يستحيل عليهم التفوق على أنفسهم، وإنما المعول كل المعول على فهم حقيقة الفن ومقاصده، بدل القناعة بوسائله.
ولسنا نقول إن المسلك الذي ننصح بسلوكه يغلب الوراثة وأثر البيئة واستقرار العادة، فيغير الحال في الساعة، لكنه مهما كان شأنه فهو مؤثر، وعامل من عوامل التطور؛ أو هو كالدواء الذي يوصف لذي علة لا برء منها، فقد لا يخلو من نفع للمعلول إذ الطبائع متفاوتة والشذوذ قد يوجد في بعضها، ولأسرار الطبيعة مفاجآت، ومحاولة الاهتداء خير من الاسترسال في الضلال، وكل ما يبلغ غاية، له بداية.
هذا وإن المقدمة الموسيقية تليها التقاسيم بالمعازف، فالليالي فالموال فالأدوار، نظام لا بأس به؛ على أن تقديسه والتزامه في كل حفلة لا يوجبها الفن كما يتوهمون، بل أن تحسينه واجب. ولم لا تقام حفلات كبيرة مخصوصة بالموسيقى وحدها وهي مطربة إذا جادت، وفي البلاد ألوف العازفين والمحبين لها؟ وفي الغرب قاعات مخصوصات بها مشهورات تكتظ من المستمعين. ولم يصغرون شأن البشرف والتوشيح في حفلاتهم فلا يغنون هذا كله ولا يعزفون ذاك بأجمعه؟ ولم لا يحاول أحد منهم أن ينشئ شيئاً يماثلهما، أو يبتكر أنواعاً أخر إن استطاع؟
إن موسيقانا لم تدرك شأو غيرها إذ عجزت حتى الآن عن التصوير وليس يعقل أن التصوير مستحيل في الموسيقى الشرقية؛ لأن الموسيقى الغربية مثلها، لها سلم ومقامات ونغمات، ولها الأقيسة الزمنية والإيقاع، ولها الأساليب الصوتية تعبر بها عن الأحاسيس تعبير الأساليب البيانية؛ والأحاسيس جميعاً موطنها النفس، وشأن النفس واحد في الإنسان أينما كان؛ والموسيقيان كاللغتين العربية والفرنسية، مثلاً، اللتين فيهما المجاز والتشبيه والاستعارة والكناية والمحسنات البديعية، وأوجه البلاغة، لوحدة المصادر البشرية من الفكر والمخيلة والمشاعر، بل بينهما أوجه شبه في النحو والصرف؛ وقد كانت موسيقى الغربيين ومعازفهم بسيطة، كموسيقانا ومعازفنا، فتناولوهما بالتحسين حتى ارتقيا إلى مرتبة التصوير الذي تفوقا به منذ عرفوا تركيب الأنغام في زمن معاً، أي في إيقاع واحد، وإخراج الصوت الآلي من طبقته الضيقة، أو من الجزء الضعيف في زمنه، وإنشاء الجملة الغنائية تسمع بعيد الجملة الأساسية في انسجام وئتلاف معها فأي شيء في الموسيقى الشرقية يمنع من تقليد هذا الفن؟ إذن لا يقول بأن التصوير مستحيل فيها إلا جهول كسول. والرأي للمشتغلين بالغناء والموسيقى عندنا أن يجدوا في ترقيتهما معتقدين أن الموسيقى ستبلغ، أو سوف تبلغ، مرتبة التصوير العالية؛ وإذا أتجه نظرهم إلى مظنة وسيلة للترقية فتعرفوها واستخدموها ارتقوا بفنهم درجة، وطمحت أبصارهم إلى ما فوقها.
ونحن، بحمد الله، عندنا الناي كالفلوت، والفانون كالبيانو (وقد استصنع بعضهم بيانو فيه ربع المقام (إياه) فصنع)، وطبلة كطبلة، والكمان، في وسع الموسيقيين أن يستعينوا الصناع على تحقيق أغراضهم بتحسين المعازف على الوجه الملائم لما يتفرسون من وسائل الإصلاح، أو باستحداث ما يعوزهم من الآلات بدل ادعاء الابتكار والتجديد والتفوق بلا حق.
فإذا نحن أردنا أن نخرج موسيقانا من حالها البدائية، أو طورها الأول الذي ما برحت عاربة فيه، فلابد من أن نأخذ في نسج ثوب موشى لها - ثوب التصوير، وهو غير التوافق بين الألحان وأصوات المغنين.
ومتى تيسر التصوير، وتميزت أصوات المغنين بحدود طبقاتها وألوانها، وتبينت نسبتها إلى المعازف، وبدأ التلحين بوحي النفس الحرة من التقليد، الطليقة من قيد القوالب، البريئة من السرقة، أمكن أن يرتقي الغناء المسرحي بمصاحبة الموسيقى، وأن يقدم أصحاب الفن وشعراء المسرحيات إلى الجمهور أوبريت قم أوبرا - كوميك، ثم أوبرا جيدة ليس شك في أنها تطربه وتعجبه وإن لم يستسغ ما قدم إليه حتى الآن بهذا العنوان من خليط مستغرب، ومسمى يتبرأ منه اسمه.
وليتهم على الأقل يزيدون المعازف إلى ثلاثة أضعاف العدد المعتاد لكل نوع منها في الجوقة، ريثما يهتدون إلى التصوير، فإن ذلك يقوى العزيف فيحسنه فيما نرى تحسيناً متواضعاً أفضل من لا شيء، لكنه لا يكون من الإصلاح المنشود.
ألا أن الجهل والاقتصار في الاشتغال بهذه الفنون على استرزاقها لا يوصلان إلى شيء مما ينبض بها؛ ونهضتها، يوم يتحقق، إنما يكون ثمرة التطور في ضوء العلم والثقافة؛ على أن الأمة تتقدم إذا قام كل جيل من أبنائها بما عليه من حمل أعبائها مسافة على طريق الفلاح؛ وكلما صح ذوقها، ورق ودق، يسمو مثلها الأعلى في الفن. فعلى محبي الغناء والموسيقى والتلحين، المشتغلين بالفن من شبابنا المعلم، أن يتعلموا ولو مبادئ ما في الغرب منه، وأن يكثروا من الإصغاء إلى تحف الموسيقى والغناء لأعاظم المغنين والموسيقيين الغربيين أينما وجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ هذا إلى قراء شيء من تاريخ الموسيقى وكلام نقادها في إحدى اللغات الأجنبية، وقراءة بعض المؤلفات العربية.
لكن ذلك وحده لا يسعف وليس يكفي الآن، بل العمل المنظم في هذا الزمن المستنير هو السبيل القصد إلى الغاية، وفي مصر معاهد أهلية وحكومية للموسيقى يجب عليها أن تلتفت إلى حقيقة حال هذه الفنون عندنا، والى ما يصلح من شأنها، فذلك خير لها من أن تظل على الأيام صوراً جوفاء خاوية لا تصلح إلا لتمكين الفن السقيم الضعيف والمحافظة عليه، ويجعل بالوزارة المختصة أن تعنى بهذا الأمر.
يجب أن يحمل أرقى هذه المعاهد وأقدرها أعباء النهوض بفنونها، وإن ينشئ لذلك قسماً مخصوصاً يهتم بها من الجهة الفنية النظرية، والعلمية الثقافية؛ وأن يقوم بشؤون القسم نخبة من أصحاب الفن المولعين به لا يعينهم لوظائفهم فيه سوى مؤهلاتهم الطبيعية والفنية والثقافية وقدرتهم على ما يندبون له نخبة ممن يطمحون إلى المنزلة الرفيعة والفضل في إحياء فنونهم وإنهاضها في الشرق يرأسهم أحقهم بهذه الرئاسة، ويجب أن يقتنى القسم مكتبة ينظمها التنظيم العلمي الحديث، ويجمع فيها المطبوعات الغربية والمؤلفات الشرقية المطبوعة والخطية؛ ويبحث في كل مكان عن النصوص الشرقية الدفينة والضائعة ولو مترجمة إلى بعض اللغات الأجنبية كاللاتينية واليونانية والفارسية، إذ قد يجد فيها ما يلقى ضوءاً على فنون المتقدمين فينير المنهج للمتأخرين؛ ويشترك في المجلات الفنية، ويسترشد عند الحاجة بعض المعاهد الغربية المختصة بهداية السائل إلى جميع الكتب أو الطبعات أو النصوص في أي موضوع يعينه. ويجعل القسم بعض رجاله صلة بين جهده النظري وجهد معهده في إنتاجه العملي. ويجب أن يقوم المعهد بنوع من الإرشاد والرقابة على سائر المعاهد، وبإرسال البعثات المختارة من الناجحين في الفنون الشرقية إلى المعاهد الغربية.
ولابد، أخيرا، من التنبيه إلى آفة الغلو في بذل الثناء لكل من هب ودب من المغنين والموسيقيين، وعلى ضرر نعته بأعظم النعوت، كأن الناعت يريد إظهار شاعريته هو وبراعته البيانية فلا ينجح ببعده عن الحقيقة. ذلك يضر حقاً ولو كان بحجة التشجيع أو تمجيد الأمة والوطن حتى لكأن البلاد تنبت النبغاء في كل فتر من أرضها والعباقرة في كل شبر؛ فإن مثل هذا الغلو في الثناء الكاذب يهزأ منه وليس من الحكمة ولا الوطنية في شيء، لأنه يغر فيعمى ويصم فيسبب الوقوف، بل التأخر بدل التقدم، وهو لا يصدر عن أهلية للتقدير، وإنما يكون في الغالب لأغراض بعيدة عن مصلحة الفن والأمة.
محمد توحيد السلحدار