الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 400/المنصور بن أبي عامر

مجلة الرسالة/العدد 400/المنصور بن أبي عامر

مجلة الرسالة - العدد 400
المنصور بن أبي عامر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 03 - 03 - 1941


للدكتور عبد الوهاب عزام

(مفخرة من مفاخر التاريخ العربي، ومثل من الهمة الطامحة،

والنفس الهمامة، والعزم الذي لا يفل)

- 1 -

ينتسب إلى قبيلة معافر إحدى قبائل اليمن. دخل جده عبد الملك بن عامر الأندلسي في جند طارق بن زياد، وأقام بعد الفتح في الجزيرة الخضراء فكان له ولبنيه شأن؛ واتصل أبو عامر جد المنصور بالخلفاء في قرطبة، وعدت أسرة أبن عامر في أسر الوزراء. وكان أبو حفص والد المنصور متألهاً زاهداً، شغل بالحديث عن خدمة الخلفاء، ومات قافلاً من الحج فدفن بمدينة طرابلس. وأم المنصور من أسرة تميمية - أسرة بني برطال - ويقول القسطلي في المنصور:

تلاقت عليه من تميم ويعرب ... شموس تلالا في العلا وبدور

من الحميريين الذين أكفّهم ... سحائب تهمي بالندى وبحور

- 2 -

ونشأ محمد (المنصور) نجيباً، طماحاً، عظيم الهمة، كبير القلب. أثر عنه أيام طلبه العلم بقرطبة نوادر تنبئ باعتداده بنفسه واستشراقه للمعالي. يقول محمد بن أسحق التميمي:

كان محمد بن أبي عامر نازلاً عندي في حجرة فوق بيتي، فدخلت عليه في بعض الليالي في آخر الليل، فوجدته قاعدا على الحال التي تركته عليها أول الليل حين فصلت عنه؛ فقلت له: ما أراك نمت الليلة. قال: لا. قلت: فما أسهرك؟ قال: فكرة عجيبة. قلت: في ماذا كنت تفكر؟ قال: فكرت إذا أفضى إلى الأمر ومات محمد بن بشير القاضي، بمن أستبدله، ومن الذي يقوم مقامه؟ فجلت الأندلس كلها بخاطري، فلم أجد إلا رجلاً واحداً. فقلت: لعله محمد بن السليم. قال: هو والله، لشد ما اتفق خاطري وخاطرك)

وكذلك رشحته للمعالي نفسه العظيمة وآماله الكبيرة، والمرء حيث يضع نفسه

- 3 - صار محمد من أعوان قاضي قرطبة محمد بن السليم، ثم تقلب في القضاء، وجعل وكيلاً لعبد الرحمن ابن الخليفة المستنصر وأمه. ولما مات عبد الرحمن، جعل وكيلاً لأخيه هشام، ورتب له خمسة عشر ديناراً كل شهر

وعرف الخليفة قدر الرجل، فكان يندبه فيما يعضل من الأمور، ثم ولاه الشرطة الوسطى. ولم يأل ابن أبي عامر جهداً في التقرب من هشام وأمه صبح، وكانت ذات مكانة عند الخليفة

وعهد الخليفة إلى ابنه هشام فحرص أبن أبي عامر على أن يحتفظ لهشام بولاية العهد، ثم الخلافة بعد أبيه، على كثرة ما أجتهد الصقالبة في تولية المغيرة بن عبد الرحمن الناصر عم هشام

وتولى قيادة الجيش إلى غزوة نكص عنها كبراء الدولة، ورجع منها مظفرا فزاد هيبة ومكانة. ثم ولي شرطة قرطبة فسيطرت على المدينة هيبته وعدله. فأمن الأخيار وسكن الأشرار

يقول صاحب البيان المغرب:

(فضبط محمد المدينة ضبطاً أنسى أهل الحضرة من سلف من أفراد الكفاة وأولي السياسة، وقد كانوا قبله في بلاء عظيم يتحارسون الليل كله، ويكابدون من روعات طراقه ما لا يكابد أهل الثغور من العدو. فكشف الله عنهم بمحمد أبن أبي عامر وكفايته وتنزهه؛ فسد باب الشفاعات، وقمع أهل الفسق والدعارات، حتى أرتفع البأس وأمن الناس. وأمنت عادية المتجرمين من رجال السلطان حتى لقد عثر على ابن له فاستحضره في مجلس الشرطة وجله جلداً مبرحاً كان فيه حمامه. فانقطع الشر جملة)

ولما رجع من غزاته الثالثة ظافراً رفعه الخليفة إلى الوزارة وجعل راتبه ثمانين ديناراً وهو راتب الحجابة، ثم شارك أبا جعفر الحاجب ثم أستبد بالحجابة عام سبعة وستين وثلاثمائة؛ فقد بلغ أرفع مناصب الدولة

- 4 -

سيطر أبن أبي عامر سبعة وعشرين عاماً على الأندلس كلها فصرف أمورها في الحرب والسلم كما يشاء، ولم تجتمع أمور الأندلس في يد واحدة قادرة إلا يد عبد الرحمن الناصر ويد المنصور أبن أبي عامر. أما الناصر فقد ورث ملكا ثبته رأيه وعزمه ومضاؤه وإقدامه، وأما أبن أبي عامر فقد رفع إلى السلطان نفس طماحة وعزيمة ماضية وخلق مريم. ولم تكن هيبته في نفوس أعداء الأندلس دون هيبته في الأندلس، فقد أولع بالغزو وانتدب للجهاد فغزا خمسين غزوة في شمالي الأندلس، لم تنكس له راية، ولا بعدت عليه غاية، حتى بلغ (شنت ياقوب) في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، وما طمع أحد من المسلمين قبله أن تنال همته هذا المكان القصي. لقد صدق صاحب البيان حين قال: (ثم أنفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر: هل من مبارز؟ فلما لم يجده حمل الدهر على حكمه فانقاد له وساعده. فاستقام أمره منفرداً بمملكة لا سلف له فيها. ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما أنصرف عن موطن إلا قاهراً غالباً على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم؛ وإنها لخاصة ما أحسبه يشركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به، مع قوة سعده وتمكن جنوده، سعة جوده، وكثرة بذله؛ فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان)

- 5 -

وكان المنصور عادلاً شديداً في الحق لا تأخذه فيه محاباة ولا شفقة، ولا يعرف في إنفاذ الحق هوادة: (جاء إلى مجلسه رجل فناداه يا ناصر الحق لي مظلمة عند هذا الفتى - وأشار إلى أحد فتيانه - وقد دعوته إلى الحاكم فلم يأت. قال المنصور: اذكر مظلمتك، ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية. وقال للفتى: أنزل صاغراً وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك. وقال لصاحب الشرطة: خذ بيد هذا الظالم الفاسق وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم ينفذ

عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق)

ولما عاد الرجل المتظلم إلى المنصور يشكره قال له: (قد انتصفت أنت فاذهب لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممن تهاون بمنزلتي). وعاقب الفتى وعزله

ما ثبت سلطان هذا الرجل الطماح المتسلط المقدام إلا بهذا العماد من العدل والإنصاف وإيثار الحق على نفسه وخاصته

وكان له فصاد فاحتاج إليه يوماً فقيل له إنه في حبس القاضي لحيف كان منه على امرأته. فأمر المنصور بإخراجه مع رقيب من رقباء السجن ليفصده ثم يعود إلى محبسه. وشكا الرجل إلى المنصور ما ناله من القاضي فقال: (يا محمد أنه القاضي! وهو في عدله. ولو أخذني الحق ما أطقت الامتناع عنه. عد إلى محبسك أو أعترف بالحق فإنه هو الذي يطلقك)

فمن يسأل عن ملك العرب والمسلمين كيف ثبت هذه الحقب الطويلة على أعاصير الخطوب ففي هذا وأمثاله جواب

- 6 -

وكان على كثرة مشاغله ذا عناية بالأدب والعلم يجتمع العلماء والأدباء كل أسبوع ويتناظرون في حضرته، ويمدحه الشعراء

وكان رحمه الله دّيناً متألها ورعاً كتب بيده مصحفاً كان يحمله في أسفاره. وجمع ما علق بثيابه من غبار الحرب وأوصى أن يجعل في حنوطه إذا مات، كما فعل أمير العرب ابن حمدان من قبله: صنع من غبار الوقائع لبنة لتوضع في قبره تحت رأسه وأتخذ المنصور كفنه من مال موروث من أبيه ومن غزل بناته اتقاء للشبهة، وتورعا أن يكون في أكفانه مال يرتاب فيه.

- 7 -

توفى المنصور سنة ثلاث وسبعين وتسعين وثلاثماية غازياً بمدينة سالم في أقصى الثغور الأندلسية ففرح أعداؤه بموته وصوروا جنازته ولا تزال صور الجنازة في متاحف أوربة

رحم الله المنصور بن أبي عامر! إن في سيرته لقدوة حسنة لكل طامح يسمو بنفسه إلى الدرجات العلى في المنصب والدين والخلق.

رحم الله المنصور! إن في سيرته لحجة يوم نفاخر بتاريخ العرب والإسلام

عبد الوهاب عزام