مجلة الرسالة/العدد 400/أدين قتال هو؟
→ الدين مصدر المدينة الفاضلة | مجلة الرسالة - العدد 400 أدين قتال هو؟ [[مؤلف:|]] |
المنصور بن أبي عامر ← |
بتاريخ: 03 - 03 - 1941 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
من المطاعن التي وجهها أعداء الإسلام إليه أنه دين سيف وليس بدين إقناع: يريدون بذلك أنه لا يقنع الأمم التي دعيت إليه لولا الغزو والإكراه بقوة السلاح
ولتمحيص هذا القول الذي يقال ويعاد في كل زمان نقرر هنا بعض الحقائق التي يسلمها المنصف ولا ينكرها إلا المكابر، لنثبت أن الإسلام شأنه في استخدام القوة كشأن كل دين، وأنه ما كان لينتصر بالقوة لو لم يكن إلى جانب ذلك صالحاً للانتصار
(فالحقيقة الأولى) أن هذا المطعن لو صدق لوجب أن يصدق في بداية عهد الإسلام الذي دان فيه بهذا الدين كثير من العرب المشركين ولولاهم لما كان له جند وى حمل في سبيله سلاح
لكن الواقع أن الإسلام في بداية عهده كان هو المعتدَى عليه ولم يكن من قبله اعتداء على أحد، وظل كذلك حتى بعد تلبية الدعوة المحمدية واجتماع القوم حول النبي عليه السلام، فإنهم كانوا يقاتلون من قاتلهم ولا يزيدون على ذلك: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)
وكانوا يحاربون من لا يؤمن عهده ولا يتقي شره بالحلف والمسالمة: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون)
وقد صبر المسلمون على المشركين حتى أمروا أن يقاتلوهم كافة كما يقاتلون المسلمين كافة؛ فلم يكن منهم قط عدوان ولا إكراه
وحروب النبي عليه السلام كلها حروب دفاع، ولم تكن منها حروب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد الإيقان من نكث العهد والإصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش وحروبه مع اليهود أو مع الروم
(والحقيقة الثانية) أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع
ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف (سلطة) تقف في طريقه وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إ لأن السلطة تزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة، ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، بل كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي الأعقاب بعد الأسلاف، وكل حجتهم التي يذودون بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي الأعقاب بعد الأسلاف، وكل حجتهم التي يذودون بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا آباءهم عليها، وأن زوالها يزيل ما لهم من سطوة الحكم والجاه
وقصد النبي بالدعوة عظماء الأمم وملوكها وأمراءها لأنهم أصحاب (السلطة) التي تأبى العقائد الجديدة، وتبين بالتجربة أن السلطة هي التي كانت تحول دون الدعوة المحمدية وليست أفكار مفكرين ولا مذاهب حكماء، لأن امتناع المقاومة من هؤلاء العظماء والملوك كانت تمنع العوائق التي تصد الدعوة الإسلامية فيمتنع القتال
ومن التجارب التي دل عليها التاريخ الحديث كما دل التاريخ القديم أن السلطة لا غنى عنها لإنجاز وعود المصلحين ودعاة الانقلاب؛ ومن تلك التجارب تجربة فرنسا في القرن الماضي، وتجربة روسيا في القرن الحاضر، وتجربة مصطفى كمال في تركيا، وتجارب سائر الدعاة أمثاله في سائر البلاد
فمحاربة السلطة بالقوة غير محاربة الفكرة بالقوة، ولا بد من التمييز بين العملين لأنهما جد مختلفين
(والحقيقة الثالثة) أن الإسلام لم يحتكم إلى السيف قط إلا في الأحوال التي أجمعت شرائع الإنسان على تحكيم السيف فيها
فالدولة التي يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها ماذا تصنع إن لم تحتكم إلى السلاح؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم حيث جاء فيه: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين)
والدولة التي يحمل أناس من أبنائها السلاح على أناس آخرين من أبنائها بماذا تفض الخلاف بينهم إن لم تفضه بقوة السلطان؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم أيضاً حيث جاء فيه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله.
فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)
وفي كلتا الحالتين يكون السلاح آخر الحيل، وتكون نهاية الظلم والاعتداء نهاية الاعتماد على السلاح. ثم يأتي الصلح والتوفيق أو يأتي التفاهم بالرضى والاختيار.
(والحقيقة الرابعة) أن الأديان الكتابية بينها فروق موضعية لابد من ملاحظتها عند البحث في هذا الموضوع
فاليهودية كانت كما يدل اسمها أشبه بالعصبية المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة لجميع الناس، فكان أبناؤها يكرهون أن يشاركهم غيرهم فيها كما يكره أصحاب النسب الواحد أن يشاركهم غيرهم فيه، وكانوا من أجل هذا لا يحركون ألسنتهم، فضلاً عن امتشاق الحسام، لتعميم الدين اليهودي وإدخال الأمم الأجنبية فيه، ولا وجه إذن للمقارنة بين اليهودية والإسلام في هذا الاعتبار
أما المسيحية فهي عنيت (أولاً) بالآداب والأخلاق ولم تعن مثل هذه العناية بالمعاملات ونظام الحكومة
وهي قد ظهرت (ثانياً) في وطن تحكمه دولة أجنبية ذات حول وطول وليس للوطن الذي ظهرت فيه طاقة بمصادمة تلك الدولة في ميدان القتال
أما الإسلام فقد ظهر في وطن لا سيطرة للأجنبي عليه، وكان ظهوره لإصلاح المعيشة وتقويم المعاملات وتقرير الأمن والنظام، وإلا فلا معنى لظهوره بين العرب ثم فيما وراء الحدود العربية
فإذا اختلفت نشأته ونشأة المسيحية فذلك اختلاف موضعي طبيعي لا مناص منه ولا اختيار لأحد من الخلق فيه
وآية ذلك أن المسيحية صنعت صنع الإسلام حين قامت بين أهلها الدول والجيوش، وحين استقلت شعوبها عن الأجانب المتغلبين، وأربت حروب المذاهب فيما بين أبنائها على حروب صدر الإسلام مجتمعات. . .
(والحقيقة الخامسة) أن الإسلام شرع الجهاد، وأن النبي عليه السلام قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا عني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وجاء في القرآن الكريم: (فقاتلوا في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً)
وحدث فعلاً أن المسلمين فتحوا بلاداً غير بلاد العرب ولم يفتحوها ولم يكن يتأتى لهم فتحها بغير السلاح
لكن هذه الفتوح لم يتم شيء منها قبل استقرار الدولة للإسلام، فلا يمكن أن يقال إنها كانت هي وسيلة الإسلام للظهور وقد ظهر الإسلام قبلها وتمكن في أرضه واجتمعت له جنود تؤمن به وتقدم على الموت في سبيله
ثم إن هذه الفتوح كانت تفرضها سلامة الدولة إن لم تفرضها الدعوة إلى دينها
فلو قدرنا أن الخليفة المسلم لم يكن صاحب دين ينشره ويدعو إليه لوجب في ذلك العهد أن يأمن على بلاده من الفوضى التي شاعت في أرض فارس وفي أرض الروم، ووجب أن يكف الشر الذي يوشك أن ينقض عليه من كلتيهما، وأن يمنع عدوى الفساد أن تسرها منهما إلى حماه
هذا إلى أن الإسلام قد أجاز للأمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة، وهو أهون ما يطلبه غالب من مغلوب
(والحقيقة السادسة) أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسلامها وبعد إسلامها تدل على أن جانب الإسلام هو جانب الإقناع لمن أراد الإقناع
فقد أستقر السلام بين تلك الشعوب ولم يكن له قرار، وانتظمت بينها العلاقات ولم يكن بينها العلاقات ولم يكن لها نظام، واطمأن الناس على أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم وكانت جميعا مباحة لكل غاصب من ذوي الأمر والجاه
فإذا قيل أن المدعوين إلى الإسلام لم يقتنعوا بفضله سابقين، فلا ينفي هذا القول أنهم أقنعوا به متأخرين، وإن الإسلام مقنع لمن يختار ويحسن الاختيار إلى جانب قدرته على إكراه من يركب رأسه ويقف في طريق الإصلاح
ومن نظر إلى الإقناع العقلي تساوى لديه ما يستميلك إلى العقيدة بتوزيع الدواء والطعام، ومن يستميلك إليها بالخوف من الحاكم على فرض أن خوف الحاكم كان ذريعة من ذرائع نشر الإسلام فالشاهد الذي تطعمه وتكسوه ليقول قولك في إحدى القضايا، كالشاهد الذي ينظر إلى السوط في يديك فيقول ذلك القول: كلاهما لا يأخذ بإقناع الدليل ولا بنفاذ الحجة ولا يدفع عن عقيدته دفع العارف البصير
وصفوة ما تقدم أن الإسلام لم يوجب القتال إلا حيث أوجبته جميع الشرائع وسوغته جميع الحقوق، وأن الذين خاطبهم بالسيف قد خاطبتهم الأديان الأخرى بالسيف كذلك: إلا أن يحال بينها وبين انتضائه أو تبطل عند أبنائها الحاجة إلى دعوة الغرباء إلى أديانها، وان الإسلام عقيدة ونظام، فهو من حيث العقيدة قد نشأ وتأسس قبل أن تكون له قوة، وهو من حيث النظام شأنه كشأن كل نظام في اخذ الناس بالطاعة ومنعهم أن يخرجوا عليه
عباس محمود العقاد