مجلة الرسالة/العدد 400/العقيدة الإسلامية تكون البطولة
→ طارق بن زياد | مجلة الرسالة - العدد 400 العقيدة الإسلامية تكون البطولة [[مؤلف:|]] |
في الحروب ← |
بتاريخ: 03 - 03 - 1941 |
عمر المختار
للأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي
دخلت الهزيمة على الطليان من أقطار الصحراء، فأمعنوا في الفرار لا يتلبثون ولا يستأنون. . . لا ينتظرون عند المساء صباحاً، ولا عند الصباح مساءً، كأنما يغزوهم الرعب، ويقتلهم الخوف، من قبل أن تدهمهم الجيوش، ومن قبل أن يحاط بهم
كلما طلع نهار أو غسق ليل، تتابع الصور الشاحبة لتلك الهزيمة النكراء، وفي أعقابها ألمح صوراً مشرقة لأبطال (طرابلس) ومن بينها صورة فريدة تتألق أمام عيني في هالة من الجلال والتهيب، تلك هي صورة البطل المسلم الشهيد (عمر المختار) ومن عجب أن تتلاحق الصورتان: صورة الهزيمة النكراء، وصورة الشجاعة البلقاء!
هذه صورة للأفئدة الهواء، وتلك صورة للأحلام الرزان، وللنفوس الوثابة مطمئنة راضية مرضية
تباركت يا الله!! تجلت آيتك الكبرى في هذا البطل المسلم الصحراوي، فقد أفرغت عليه إيماناً من فرعه إلى قدمه، فإذا هو وقد خرج صورة مجسدة للعقيدة الإسلامية، يضرب للناس أروع الأمثال: من همامة نفس وقوة بأس، لا يحدث نفسه بالأدباء، ولا يفسد مروءته بعرض زائل، ولا ينتفض رجولته بقبول الهضيمة والهوان
في شوال من عام 1329هـ اندفعت القذائف (الطليانية) الغادرة، مصوبة إلى طرابلس وبرقة، فكانت مؤذنة بتوقد جذوة الإيمان في قلوب المجاهدين؛ ومن بينهم عمر المختار
ولم يكن لهم من العتاد ولا من الذخر ولا من الحشد ما اجتمع لأولئك الغادرين، ولكن كان لهم شأن واحد أغناهم عن كل أولئك الشئون. . . كان لهم أيمان، وكانت لهم عقيدة، ولم يكن لهم أهواء، ولا بهم نزوات. . . وحسبك هذا غناء أي غناء. . .! فلقد بقى عمر المختار يفل شوكة أعدائه، ويقلم أظفارهم، ويتخطفهم من حولهم، ويكسر سلطانهم، حتى كانت سنة خمسين وثلاثمائة وألف الهجرية!
اثنتان وعشرون سنة دأباً، وعمر لا تخضد شوكته، ولا تفل عزيمته، تتكسر الأحداث أمام يقينه وإيمانه وما خطبه بعد ذلك؟ - نضر الله وجهه - امتدت يد غادرة من وراء ظهره، فعبثت بحريته، ثم عبثت بحياته الدنيا، لكنها - الحق - قد أطلقت روحه إلى أعلى عليين، فإذا موته حياة، وإذ ذكره خلود، وإذا سيرته سناء. . .
ويا فرق ما بين ثبات الأعزاء، وبين فرار هؤلاء الأذلاء، وبضدها تتميز الأشياء
نشأ (عمر المختار) ببرقه، من أبوين مسلمين، لقناه العقيدة الإسلامية، وثقفاه بالقرآن الحكيم، ونشأه أبوه (المختار) في زاوية (الجغبوب) في البيئة السنوسية، تلك البيئة التي تلهم النفس فجورها وتقواها، وتفقهها أن قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها، ثم تبعث في الإنسان: حرية الإرادة وحرية الفكر، وسلامة الرأي وصفاء الطوية؛ وقلما ينحرف ربيب تلك البيئة عن الفطرة النقية: فطرة الله التي فطر الناس عليها
فلما بلغ (عمر) أشده واستوى، اكتملت فيه معاني الرجولة، وبرزت صورته صورة (للرجل الكامل المسلم)
اختاره - في صدر شبابه - (السيد المهدي السنوسي) ليرافقه في رحلة إلى السودان، وكانت فراسة السيد المهدي فراسة صادقة، فقد اجتمع حول (عمر) بالسودان رجال أولو بأس وأولو قوة، عرفوه بالحاسة الصادقة، وعرفهم بنور الله؛ ثم أحبوه وأكبروه وأعظموه
والسيد المهدي معنى بأمره، معجب بإيمانه، يرى أنه قد جمع - في برديه - ما تفرق من القبيل وتناثر في الرجال، فكان يقول: ليت لنا عشرة كعمر، إذن لفتحنا بهم كل قلب موصد، وأنرنا كل بصيرة مطموسة. .! ثم تركه في السودان يعلم الناس الرجولة الإسلامية
عقد الصلح الأبتر بين تركيا القديمة وبين الطليان سنة 1912م واشتعلت نيران الحرب في البلقان، واستقدمت الدولة (أنور) فسلم الآمر (لعزيز) المصري، وهم (عزيز) أن يدع القتال وأن يذهب إلى الحدود المصرية، فتحرج الموقف، وثارت روح عاصفة عنيفة بين المجاهدين؛ وأخذ كل فريق يكافح الفريق الآخر، وتمشت فتنة عمياء صماء، وكاد المجاهدون يخربون بيوتهم بأيديهم
وهنا تتدارك الجميع رحمة الله، ويظهر الفيصل المغوار (عمر المختار) فيطفئ نيران الشر، ويجدع أنف الفتنة، ويهيب بالمختلفين: يا للفضيحة ويا للعار. . .! لو تسامعت الأمم: أن المجاهدين قد أصبحوا - وبأسهم بينهم شديد - تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى دوت تلك الصرخات في شعاب الصحراء، وفعلت في النفوس كما يفعل السحر، ونزل الثائرون على حكم (عمر)؛ عزمهم جميع وقبلتهم واحدة
وهكذا يكتب لهذا البطل الظفر على نوازع النفوس، وينبسط سلطانه على نزوات القلوب، ويستل السخائم والترات بهدى الدين، وبترياق الإخلاص
أحصى الرواة (لعمر) ألف معركة أشتبك فيها مع الطليان في اثنتين وعشرين سنة، وهو يتعقبهم، وهم يحتالون لأمره، ويتحيرون في القضاء عليه، ويستبدلون القائد بالقائد، وعمر وحده هو القائد الصامد، حتى ظنوا - آخر المطاف - أنهم قد رموه بالداهية الدهياء (بجرازياني)
ويتحدث جرازياني في مذكراته: أنه قد نازل عمر في ثلاث وستين ومائتي معركة، كانت مدتها عشرين شهرا وعمر - كما وصفه شوقي -:
لم تُبق منه رحى الوقائع أعظماً ... تبلى، ولم تبق الرماح دماء
كان عمر قافلاً إلى برقة من رحلة له في مصر يصلح ذات البين، فلقيه عسس الطليان وتصدوا لقتاله وهم في سيارات ثلاث، مسلحات فتاكات مزودات، وعمر فوق صهوة جواده، وسلاحه سلاح أبناء الصحراء، فما هو إلا أن كر كرة في حصانه اليقين وثبات المؤمنين؛ فإذا بالسيارات الثلاث، وقد صرن سلباً وغنائم، وإذا بأصحابها الطليان، وقد صاروا خبراً من الأخبار؛ ولله إلهام شوقي:
بطل البداوة لم يكن يغزو على ... (تنك) ولم يك يركب الأجواء
لكن أخوخيل حمى صهواتها ... وأدار من أعرافها الهيجاء
ما نسى جند عمر ولا قواده: أنهم يحمون عقيدة، وأنهم جند الله. . .
ويا ما أروع وأرهب الصورة التي يصفها عمر لموقعه وكرسه بالجبل الأخضر، وقد حانت صلاة الظهر، وقائد الموقعة الشهيد (الفضيل أبو عمرو)، فقسم الجند طائفتين، وصلى بهم صلاة الخوف، فطائفة تأخذ حذرها وأسلحتها، وطائفة تتوجه إلى ربها وقد انجلت الموقعة هن قتلى عددهم خمسمائة طلياني بينهم (ماجور) وثلاثة ضباط
أعجز الطليان شأن عمر، وأعياهم أن يأخذوه أخذ الجند للجند، فهو لا يضجر ولا يستخذي، فأعملوا السفارة بينهم وبينه ليتهادنوا، وأرادوا أن يعرفوا شرطه لوضع السلاح وحقن الدماء، فكانت شروط عمر، قطعة من عقله، كلها سياسة رشيدة، وكلها من العزة والكرامة والسداد
فأولها: أن يشهد المفاوضات مندوب من (مصر) ومندوب من (تونس) ليكون الناكث مسئولاً أمام العالم بشهادة مندوبي الأمتين.
وثانيها: حرية المسلمين الدينية، وتأديبهم لكل خارج على الدين أو هازئ به أو مستخف بتعاليمه أو متهاون في شعائره
وثالثها: أن تكون اللغة العربية لغة رسمية للبلاد، كالطليانية سواء بسواء
ورابعها: أن تنشأ مدارس يعلم فيها التوحيد والتفسير والحديث والفقه وعلوم الدين
وخامسها: أن يلغى قانون سنة 1923 م الذي يحرم على الوطنيين دخول المدارس العالية، كما يلغى القانون الذي ميز حقوق الطليان عن حقوق المواطنين، وأن ترجع الحكومة ما غصبته من الأملاك والأموال
عرف الطليان من تلك الشروط أن الأيام والأحداث لم تنل من شدة الشكيمة العمرية، فأظهروا له وفاء بشروطه، وأضمروا لها الغدر والخيانة. ثم راحوا يدبرون للمجاهدين الحصار والإجاعة؛ وفكروا أن يذروا عليه الصحراء من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها بالإجاعة.
وقد أختار عمر المبيت على الطوى، وأن يسلم له الشرف الرفيع؛ كما وصفه شوقي:
خُيرتَ فاخترت المبيتَ على الطوى ... لم تبن جاهاً أو تلم ثراَء
إن البطولة أن تموت من الظما=ليس البطولة أن تعب الماء
وهكذا بقيت البطولة العمرية تبعث اليأس في نفوس الطليان منها، حتى أصيبت في مأمنها! يوم سلمت (جغبوب) للطليان، فحصروا - بالأسلاك الشائكة - الرقعة التي يأوي إليها المجاهدون، وحموهم أن يتصلوا بالحدود المصرية، حتى لا يجدوا قوتاً، وحتى تنقطع بهم الأسباب
وبينما (عمر) يتنقل - بين الغداة والأصيل يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة1350 هـ - يستطلع كمينا، أو يناوش شرذمة، وهو في خمسين فارساً من رجاله، إذ التقى بطائفتين من الطليان، كانتا تجدان في قص أثره، فأحدقوا به، وثارت في نفسه - تلك الساعة - كل المعاني التي قامت عليها بطولته، فهاجمهم هجوم المستأسد، من اليمين ومن الشمال، حتى تساقط رجاله، ونفق جواده من تحته، فنزل عنه يترنح من الجراح، ثم يحاول النهوض، فتكاثروا من حوله رجالا وركبانا
واهتزت الأسلاك البرقية في جوف الصحراء، ومن فوق أعلام الشواطئ: أن البطل أمسى أسيراً، فسالت الأودية بالكتائب والفصائل، واجترأت السرايا والأجناد، وكانت من قبل تتحاماه وتخشاه
وجاء طراد حربي فنقله إلى بني غازي، وتقررت محاكمته في مركز الإدارة الفاشستية
وإنها لمحاكمة أبانت عن نقائب وصفات في عمر، ما سمعنا بمثلها من قبل في الموقف الضنك والساعات الفاصلة
وقف عمر أمام الحكام العسكريين كما قال فيه شوقي:
لبى قضاء الأرض أمس بمهجة ... لم تخش إلا للسماء قضاَء
وافاه مرفوع الجبين كأنه ... سقراط جر إلى الفضاء رداء
سئل عمر: هل أنت رئيس الثوار ضد إيطاليا؟
فأجاب بنبرات قوية وفي حزم قاطع: نعم!
سئل: هل شهرت السلاح واشتركت في القتال، وأمرت بقتل الجنود، وجبيت الضرائب؟ فأجاب على كل ذلك بنعم!
سئل: هل لديك ما تقوله بعد ذلك؟ وكأنما أرادوا أن ينتزعوا من عمر - في البرهة الذاهلة - ضراعة أو استعطافاً، ولكن هيهات هيهات، فقد أجاب:
ليس لدي شيء وراء ذلك:
الأسد تزأر في الحديد ولن ترى ... في السجن ضرغاماً بكى أستخذاَء
واختلى الحكام العسكريون ثم أعلنوا حكم (الإعدام)
ولم يستطع محاكمو (عمر) إلا أن يصرحوا وقت المحاكمة بقولهم: إن المتهم يمتاز عن بقية الزعماء بأنه لم يبتز أموال الدولة
شهادة بأفواههم تسجل عليهم عار الحكم، وتخلد للشهيد النزاهة والعفة في جهاده المتصل العنيف!! لقد لخص (الطليان) تلك المقاومة العمرية في اثنتين وعشرين سنة، فإذا هي تركزت في البلاغ الرسمي الذي صدر عقب تلك الأحداث يقول:
(هكذا انتهت حياة الرئيس العظيم (البرقاوي) أحد تلاميذ مدرسة (جغبوب) القرآنية)
فيا أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها:
من مبلغ أبناء هذا الجيل من المسلمين: أن تداع البطولة الإسلامية لا يتصل حاضره بماضيه، إلا إذا وجدت مدارس على غرار مدرسة جغبوب القرآنية، تعلم القرآن، وتعلم العقائد، وتعلم العزة والكرامة!!
الجديلي