مجلة الرسالة/العدد 400/اثر الهجرة في التشريع الإسلامي
→ فتح مصر | مجلة الرسالة - العدد 400 اثر الهجرة في التشريع الإسلامي [[مؤلف:|]] |
طارق بن زياد ← |
بتاريخ: 03 - 03 - 1941 |
للأستاذ محمد محمد المدني
في هجرة النبي ﷺ من مكة إلى المدينة عبر عظمى ما تزال الأقلام والأفكار جاهدة في كشفها، والبحث عنها، وتجلية أسرارها
ومن هذه العبر التي ينبغي أن يلتفت إليها المسلمون وينتفعوا بها، ما نجعله اليوم مساق الحديث وموضوع المقال
كان للهجرة في التشريع الإسلامي أثر معروف مذكور، ولهذا الأثر ناحية دلالة وإرشاد، ربما كان القول فيها جديداً، والبحث عنها مفيداً
فأما الأثر المعروف المذكور، فهو أن القرآن الكريم ظل ينزل بمكة ثلاثة عشر عاماً لا يعرض فيها إلا إلى أصول الدين، وقواعد الأيمان، وبرهان التوحيد، ومحاسن الأخلاق، يريد بذلك أن يقتلع ما كان للعرب من العقائد الفاسدة، والأخلاق المستنكرة، ويزيل ما في نفوسهم من شبه في إرسال هذا الرسول إليهم على فترة من الرسل، وظلام من الشرك، وإغراق في الجهل، وجمود على تقليد الآباء والأجداد ولو كانوا لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون!
ولا يكاد يعرف أن القرآن الكريم عني في هذه الفترة إلا بهذه الناحية يضرب لها الأمثال، ويقص لها القصص، ويحشد لها الآيات البينات، فإذا عني بغيرها فإنما يعني بما كان من سبيلها من التشريع الذي له صلة بحماية العقيدة والحفاظ على أساس الدعوة
فلما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة جعل القرآن ينزل بياناً للعبادات والمعاملات والنظم وأحوال الناس، وجعلت آياته تترى في تشريع كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة من المواريث والوصايا والزواج والطلاق والقضاء والجنايات والحدود والجهاد وغير ذلك
هذه السياسة التي ساس بها القرآن أمر الإسلام في مكة والمدينة، وأخذ بها المسلمين في سبيل التمكين لهم، والتثبيت لسلطان دينهم، سياسة ظاهرة الرشاد، مضمونة النجاح، متفقة مع نظام التدرج الطبيعي الذي أخذ الله به جميع الكائنات فما كان الله ليدع الناس فيما هم عليه من رجس وعبادة أوثان وتقاطع وتدابر وحروب وفتن وسفك دماء، ثم يدعوهم فجأ إلى النظام المطلق الشامل، وقد ألفوا الفوضى، ويأخذهم بالتشريع المحكم المفصل، وقد عاشوا في كفالة الأهواء والشهوات، ويتعبدهم بأنواع من العبادات فيها سمو وفيها تهذيب، وهم الذين كانوا في مراتع الغي يسيمون!
ذلك هو المعروف المذكور من أثر الهجرة في التشريع الإسلامي: أما موطن العبرة فيه، وناحية الإرشاد والدلالة منه، فهي أنه يحسن بنا، ونحن بصدد الدعوة إلى أن يكون التشريع الإسلامي أساساً للقانون العام في مصر والشرق، أن نطبق هذه السياسة الرشيدة التي ساس لها القرآن أمر المسلمين الأولين، لنضمن نجاح هذا المسعى الشريف، وليعود ذلك على الإسلام بالعزة والقوة!
إن أهم ما يعترض هذا المسعى، ويقف في سبيل تنفيذ هذه الفكرة ما يتخيله كثير من الذين بيدهم الحول والطول، وتحت إشرافهم مراكز المال والاقتصاد، وفي عهدتهم حراسة الأمن والطمأنينة في الدولة، وبث أسباب الرغد والرفاهية في الأمة من أن في الأخذ بالشريعة الإسلامية الآن إعناتاً للناس وإرهاقاً، وشلاً لحركات التعامل التي أصبحت جزءاً من النظم العامة في العالم كله، وتنفيراً للأجانب من الإقامة بيننا، ونحن أحوج ما نكون إلى التعاون معهم، والانتفاع بنشاطهم، وما يديرون بيننا من أموالهم!
يقول هؤلاء للذين يطالبون بالتشريع الإسلامي: ماذا تصنعون في هذه المصارف التي انبثت في صميم الحياة المالية، وأصبحت في سائر الدول أساساً من أسس الاقتصاد ولا يستغني عنه تاجر، ولا زارع، ولا موظف، ولا صاحب مال؟ وماذا تصنعون في هذه الشركات التي فتح الله بها للصناع أبواباً من الرزق، وجعل منها للأموال الراكدة حظاً من الربح، وسد بها حاجة بعد حاجة مما لا يستغني عنه الناس؟ لاشك أنكم ستضطرون إذا بسطتم سلطان الشريعة الإسلامية إلى إغلاق هذه المصارف، وفظ هذه الشركات، التي تتصرف تصرفاً لا يتفق وأراء الفقهاء، فإذا لم تغلقوا المصارف ولم تفضوا الشركات، أرهقتموها بالشروط والنظم التي توافق شريعتكم إرهاقاً لا تستطيع معه الحياة، ولا أداء ما تؤديه إلى الناس من خدمات!
ثم كيف تنفذون الحدود؟ كيف ترجمون الزاني، وتقطعون السارق، وتقتصون من عين بعين، ومن سن بسن؟ بينما العالم ناظر إليكم، متعجب من هذه العقوبات الصارمة تنزلونها على الجناة بلا رحمة ولا شفقة في الوقت الذي اتجهت فيه أنظار المصلحين إلى مداواة الإجرام، بإصلاح نفوس المجرمين، وإلى اقتلاع أسباب الشر، بتهذيب الأشرار في غير عنف ولا تغليظ؟
ومتى نصبر على سياط الجلاد أجسام غذيت بالنعيم، ونشئت على الرفاهية وعاشت في عصر الطب والكهرباء والمدافيء والمراوح بين مروج الحدائق، ومتاع القصور؟
ومتى يعيش معكم أجنبي إن لم تنفذوا الحد فيه نفذتموه في صديق له أو جار أو عميل، فإذا هو يلقاه بيد مبتورة، أو عين مفقوءة، أو سن كسير؟
هكذا يقوا الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم! وهم من غير شك مخطئون، لأن الشريعة الإسلامية تستطيع أن تنظم أحوال المصارف والشركات بما لا يتنافى مع قواعدها، ولا يرهق القائمين بها، ولا المتعاملين فيها
وهم مخطئون فيما تخيلوه من أمر الحدود والقصاص، فإن هذه الأشياء التي اعترضوا بها هي الوسيلة إلى اقتلاع الإجرام من أساسه، واجتثاث الفساد من أصوله، وتوفير الجهود العظيمة التي تذهب سدى في مكافحة الإجرام والمجرمين!
وهم مخطئون لأنهم حين يظهرون بهذا المظهر الذي يفيض رحمة وشفقة بالمجرمين وأهل الفساد، ويتناسون إجرامهم وفسادهم وما أساءوا به إلى الآمنين!
وهم مخطئون لأنهم حين يذكرون اتجاه المدنية الحديثة إلى تهذيب الجناة وإصلاح نفوسهم بالرفق واللين، ينسون اتجاه بعض الأمم إلى إعدام المجرمين، وأصحاب الشذوذ، والمصابين بالإمراض التي لا يرجى لها شفاء، رفقاً بالأمة في مجموعها وصيانة لها كما يصان الجسم ببتر بعض أعضائه الفاسدة التي لا يرجى لها صلاح!
هم مخطئون لهذا كله، ولكنهم لا يقتنعون بخطئهم، ولا يرجعون عن غيهم، ومن العبث أن ننفق الوقت والجهود في سبيل إقناعهم وما هم بمقنعين، ونحن لا نستطيع أن نمضي في طريقنا، ونغض النظر عنهم، لأن هؤلاء - كما قدمنا - لهم أثر لا ينكر في توجيه سياسة البلاد، ولهم قوة وسلطان يستطيعون بهما إقامة العراقيل، ووضع العقبات في سبيل كل مشروع لا يرضون عنه، ولا يقتنعون به
فما هي الحيلة التي ينبغي أن نتوسل بها إذن إلى تنفيذ هذه الفكرة الجليلة، فكرة إحلال التشريع الإسلامي محل التشريعات الوضعية؟
إن أثر الهجرة في التشريع الإسلامي يوحي إلينا بهذه الحيلة، ويرشدنا إلى هذه الوسيلة، فما دام الله القادر العليم الحكيم قد أرتضى للمسلمين أن يعيشوا حيناً من الدهر موقناً بدون تشريع تفصيلي شامل، لأن المصلحة كانت يومئذ تبرر ذلك، وما دام هذا لم يؤثر في اطراد تقدم المسلمين ونجاح دعوتهم، فيحسن بنا أيضاً وقد عاد الدين غريباً كما بدأ، أن ننادي بتنفيذ ما ليس بيننا وبين أحد خلاف عليه ونؤجل تنفيذ ما فيه الخلاف، حتى إذا اقتنع الناس فيما بعد بما لم يقتنعوا به اليوم مضينا في تنفيذه أيضاً، وإلا صبرنا حتى نهيئ لذلك العقول والأفكار
ينبغي أن نقول لهؤلاء الذين يحاجوننا عن دعوتنا: سنترك لكم المصارف والشركات تسير على النظام الذي شرعتم لها حتى نستطيع إقناعكم بنظام أفضل منه يتمشى مع التشريع الإسلامي وينهض بحاجات الأمة، وسنترك تنفيذ هذه العقوبات التي ترونها صارمة منافية للرحمة حتى نقنعكم يوماً بخطأ فكرتكم، وفساد تخيلكم، وسننفذ ما نحن وأنتم عليه متفقون؛ فقد رضى الله مثل ذلك للمسلمين من قبل. فتعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ولنتعاون جميعاً على جعل التشريع الإسلامي أساساً لما نشرع بعد اليوم من قانون أو نضع من نظام!
إن الشريعة الإسلامية لا تأبى مثل ذلك، وقد أوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه تنفيذ القطع في عام المجاعة، وأخذ بذلك أحمد بن حنبل والأوزاعي. وقد روى في سنن أبى داود أن النبي ﷺ نهى أن تقطع الأيدي في الغزو. وروى صاحب أعلام الموقعين أن عمر رضى الله عنه كتب إلى الناس: (أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجل من المسلمين حداً وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلاً لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار)
وفي كل هذا توسيع على المسلمين وإرشاد لهم إلى رعاية المصالح وتقرير الظروف والأحوال؛ ولا شك أن من مصلحة الإسلام الآن أن نأخذ في تشريعنا الحاضر بما نستطيع أن ننفذه من أحكامه، على أن نوقف ما لا يمكن تنفيذه حتى يهيئ الله للمسلمين من أمرهم رشداً
هذه فكرتي، ولعلي أكون قد جليتها وأوضحتها حتى لا أثير بها ثائرة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة