مجلة الرسالة/العدد 40/بين المعري ودانتي
→ إخوان الصفا والإسماعيلية | مجلة الرسالة - العدد 40 بين المعري ودانتي [[مؤلف:|]] |
التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية؟ ← |
بتاريخ: 09 - 04 - 1934 |
بقلم محمود النشوي
في رسالة الغفران والكوميدية المقدسة
في سماء الأدب العربي تتألق رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. وفي سماء الأدب الطلياني تتألق الكوميدية المقدسة لشاعر الطليان دانتي اليجييري وفي كل منهما خيال يقرب من الخيال الآخر حتى ظن كثير من الأدباء أن شاعر الطليان سرق شاعر العرب. وان خيال المعرة انتقل إلى فلورنسا. وسواء لدينا أسرق دانتي فكرة المعري أم هي المصادفة أتاحت لكل منهما ما أتاحته للآخر، ففي كل من الروايتين حوار مع أهل الجنة وأهل النار، وفي كل منهما رحلة في دركات الجحيم، وفي طبقات الجنة، سنعرض لذلك كله بالموازنة والتحليل ما اتسعت لنا صفحات الرسالة الغراء.
التعريف بالشاعرين
في سنة 973 م ولد أبو العلاء المعري في سنة 1059 انتقل إلى قبره بعد أن عمر ستة وثمانين عاما، ولم يكد يناهز الرابعة من عمره حتى أصابه الجدري فذهب بعينيه.
وكأن الله أراد أن يعوضه عما فقده من حاسة البصر، فرزقه حافظة تعلق بها الكراريس العدة إذا تليت عليها مرة واحدة وكأني به استوعب ما احتوته قريته المعرة من العلوم والمعارف فرحل إلى العواصم الإسلامية يرتشف منها مناهل العلم، فزار حلب وإنطاكية وطرابلس الشام واللاذقية وبغداد، إلى أن بلغ من العمر سبعة وثلاثين، فزهد في الدنيا واعتزل الناس في منزله بالمعرة. وقضى بقية حياته رهين المحبسين: العمى والمنزل، فأوحت إليه عزلته ما ظهر في لزومياته وفي رسالة الغفران.
وأما دانتي فولد في سنة 1265 وتوفي سنة 1321 بعد أن عاش ستة وخمسين عاما.
ولقد كان جده كاتشا جويدا المسلمين في صفوف الصليبين لاغتصاب بيت المقدس تحت آمرة الإمبراطور كوناردو الثالث. وكأني به اشتد على المسلمين في حربه، فانعم عليه ذلك الإمبراطور بلقب فأما والده فقد كان من غمار الناس ودهمائهم لم يترفق بدانتي حينما توفيت أمه بل تزوج امرأة تدعى لابا أذاقته الآم الحياة وهو في عهد الطفولة، حتى إذا اش ساعده قليلا هرع إلى مدارس الفرنشسكان يتعلم الدين قليلا من الهندسة والحساب، متتلمذا للقديس فرانشسكودي اسيزي، ولا يزال يتشرب روحه وتعاليمه حتى أدركه دور المراهقة فوقع في إشراك من الغرام امتدت نحوه من الفتاة بياتريشي تلك التي ألهبت شاعريته، وكان لها اثر كبير في كوميديته المقدسة، ثم توفيت تلك الحبيبة في سنة 1289 فزادت الآم. غير أن نجمه بدأ يتألق في سماء السياسة فاختير عضوا من ستة أعضاء يحكمون في مدينة فلورنسا التي كانت تعصف بها الحروب الأهلية. والأمر ما اغتاظ منهم البابا بونيفاشيو عليهم شقيق ملك فرنسا كارلودي فالوا فأخذ مدينتهم، وفر دانتي مع الهاربين بعد أن حكموا عليه بالموت حرقا سنة 1301، ولولا ذلك الهرب لنفذوا في حكمهم ثم صادروا أملاكه ونفوا ولديه جاكر وبيترو ولا زالت البلاد تتقاذفه حتى مات شريدا طريدا سنة 1321 بعدنفي قارب العشرين عاما.
أسباب تأليف الروايتين
فأما رسالة الغفران فهي رد على رسالة ابن القارح التي أرسلها إلى المعري
وابن القارح هو علي بن منصور الحلبي، ولقبه دوخلة، خدم أبا علي الفارسي في صباه وقرأ عليه بعض كتبه، ثم جاء إلى مصر يؤدب ولدّي الحسين بن جوهمه القائد بمصر. وكان له شعر من نوع ضعيف كمدحته للحاكم بأمر الله الفاطمي التي يفتتحها بقوله
أن الزمان قد نصر ... بالحاكم الملك الأغر
وكان فيه شيء من ذكاء. وشيء من دعابة أملت عليه دعابته أن يرسل لأبي العلاء رسالة فيها لهو، وفيها سخر، وفيها حوار للشعراء والمتزندقين والمتألهين. وفيها أسلوب معري يكثر من ذكر الآيات القرآنية يوردها أدلة على مالا تدل عليه إلا قليلا، أو من طريق بعيد، أو لا تدل عليه بالمرة. وفيها كثرة الجمل الإعتراضية بالدعاء للمخاطب والإسهاب في الترضي والترحم وفي اللعنة، مما لم نعهده في كتاب غير رسالة الغفران وغير رسالة ابن القارح تلك التي بدأها بقوله (كتابي أطال الله بقاء مولاي الجليل، وجعلني فداءه على الصحة والحقيقة، وليس على مجاز اللفظ، ومجرى الكناية) ثم يروي عن صاحب الزنج انه خطب في زنوجه قائلا (أنكم قد أعنتم بقبح منظر، فأشفعوه بقبح مخبر. اجعلوا كل عامر قفرا، وكل بيت قبرا.) ثم يروي لأبي العلاء أن رجلا دفع إلى صديق له جارية وأودعها عنده ثم ذهب في سفره. فقال المودع لديه بعد أيام لمن يأنس به وتسكن نفسه إليه. يا أخي ذهبت أمانات الناس: أودعني صديق لي جارية في حسابه أنها بكر. . فجربتها فذا هي ثيب!. ثم يعيب على الراوة تصحيفهم قول علي كرم الله وجهه تهلك البصرة بالريح فهلكت بالزنج، كما تحدث المعري عن الرواة وتصحيفهم وتحريفهم.
ثم تحدث عن المتنبي، وانه كان مغرما بتصغير كلماته فصغر أهل الزمان حينما قال
أذم إلى هذا الزمان أهليه
فانحنى عليه بالأئمة فقال (وما يستحق زمان ساعده بسيف الدولة أن يطلق على أهله الدم) ثم تحدث ابن القارح عن المتنبي وعن سجنه في بغداد فقال: (إن المتنبي اخرج من الحبس في بغداد إلى مجلس أبي الحسن علي بن عيسى الوزير رحمه الله، فقال له: أنت احمد المتنبي؟ فقال أنا احمد المتنبي. ثم كشف عن سلعة على بطنه وقال: هذا طابع نبوتي وعلامة رسالتي. ثم تحدث عن ابن الرومي وعن طيرته. وعن أبي تمام، وان الحسن بن رجاء بلغة انه لا يصلي، فوكل به من يلازمه فلم يره صلى يوما واحدا فعاتبه، فقال يا مولاي: قطعت إلى حضرتك من بغداد فاحتملت المشقة وبعد الشقة، ولم أره يثقل عليّ. فلو كنت اعلم أن الصلاة تنفعني وتركها يضرني ما تركتها: قال الحسن: لأردت قتله فخشيت أن يحمل على غير هذا فتركته.
ثم تحدث عن الذين ادعوا الألوهية كالقصار الأعور الذي اتخذ له وجها من ذهب وخوطب برب العزة، والصناديقي الذي خوطب بالربوبية وكوتب بها، وكانت له دار يجمع إليها نساء البلدة كلها ويدخل الرجال عليهن ليلا
ثم ذكر الحلاج وانه كان يخاطب الله بقوله
يا جملة الكل لست غيري ... فما اعتذاري إذاً آليا
ثم تحدث عن المتزندقين فذكر بشارا وان المهدي قتله على الزندقة. وعن صالح بن عبد القدوس وأن المهدي قتله لأنه قال
ولو إني أظهرت للناس ديني ... لم يكن لي - في غير حبسي - أكل
وذكر الوليد بن يزيد وأن انه رمى المصحف بالنشاب وخرقه، وأن الحجاج كانوا يطوفون بالكعبة فيقولون (لبيك اللهم لبيك: يا قاتل الوليد بن يزيد) ثم ذكر أبا عيسى بن الوليد، وانه برم بشهر الصيام ونذر إلا يعود إلى صومه فقال:
دهاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
ثم يختم ابن القارح رسالته بأنها استحسنت منه وكتبت عنه. ثم يسأل المعري أن يجيب عنها ليذيعها في حلب وغيرها من الأفاق فيبطئ المعري في الرد ثم يجيب بأنه كفيف البصر مستطيع الكتابة بغيره، أن غاب الكاتب فلا إملاء. .
ثم يبدأ الرد سالكا سبيلا عبّدها له ابن القارح. وأثار من نفسه حنينا للسير على منهاجها، والاتجاه مع تيارها. ولكن المعري أرانا أفانين من الخيال، واطلاعا في اللغة وفي التاريخ، مما لا يمثل به ابن القارح إلا كما تمثل الذرة بالجبل، أو الحلقة في الفلاة.
يتبع