مجلة الرسالة/العدد 40/العالم المسرحي والسينمائي
→ شهر بالغردقة | مجلة الرسالة - العدد 40 العالم المسرحي والسينمائي [[مؤلف:|]] |
النقد ← |
بتاريخ: 09 - 04 - 1934 |
فن التنكر -
لناقد (الرسالة) الفني
فن التنكر - أو الماكياج، من أدق الفنون التي تتطلب من الممثل مهارة خاصة، أو خبرة واسعة، ودراية تامة، ذلك لان الممثل يعتمد على تعبيرات وجهه وما يكون لها من التأثير في نفس المتفرج في إبراز الشخصية التي يمثلها، وفي تلوين بعض المشاهد بلون العاطفة التي تناسبها من الغضب أو الرضا، اليأس أو الرجاء، الحب أو البغض، إلى غير ذلك من شتى الانفعالات النفسانية التي تختلج في القلب، ويلجأ الممثل في إظهاره إلى رنة الصوت وطبيعة اللهجة التي يتحدث بها، وبما يأتيه من الحركة المناسبة، هادئة كانت أم عنيفة، ثم بما يلوح على وجهه من الملامح التي تعبر عن هذه العاطفة، ومن هذا المجموع، من الصوت والحركة وملامح الوجه، يستطيع الممثل أن يحدث في نفس المتفرج الأثر الذي يريد، وينقل إليه إحساس الشخصية التي يحيا في تضاعفيها على المسرح.
على أن الوجه وما ينطبع عليه من تعبيرات شتى، ما يلوح على صفحته مما يترجم عن خلجات النفس وعواطف القلب، اكبر معوان للممثل في فنه. والممثل القدير قد يعطيك بنظرة ساهمة، أو لمحة خاطفة، مالا تؤديه عشرات الجمل، بل قد يشرح الممثل المؤلف والقصة كلها بهذه النظرة، أو هذه الملامح التي تنطبع على صفحة وجهه في مشهد من مشاهد القصة.
اذكر أني يوم قرأت (شمشون) للمؤلف الفرنسي المعروف هنري برنشتين، أستكثر على الزوج أن يضحي ثروته ومركزه الذي ناله بكده وجده، وكان حمالا فأصبح من كبار رجال المال والنفوذ؛ استكثرت عليه أن يضحي كل جهوده حياته في سبيل الانتقام من عشيق زوجته. وطويت الرواية وأنا أقول إن برنيشتين لا يزال يجعل العنف المسرحي غرضا من أغراضه، وشاهدت هذه القصة بعد ذلك من فرقة فرنسية على أحد مسارح القاهرة، ورأيت الممثل الذي قام بدور الزوج في المشهد الرائع الذي يتضمن في تضاعيفه القصة كلها، تراه في هذا الموقف بين اثنتين: أما أن يكف عن طريقته في الانتقام من عشيق امرأته، وإما أن تجرفه العاطفة معه فيسقطان إلى الهاوية معا، وقف الزوج مشدوه يتحرك، ينتابه ألف عامل وتمر بقلبه ألف عاطفة، وفجأة ينظر إلى غرفة داخلية كان قد احتبس فيها خصمه، ينظر إلى الغرفة فتلمح في نظرته وترى على وجهه من معاني الحقد والثار والغضب ما يفزعك، ثم يصدر أمره إلى أحد رجاله بان يمضي إلى النهاية، النهاية التي فيها الخراب والدمار، وفي هذه النظرة الحاقدة، وفي هذه الملامح التي غمرت الوجه لحظة أو بعض لحظة، ملامح الغضب الكمين والرغبة في الثأر والانتقام الفظيع برّر الممثل ما أخذه الناقد على المؤلف، بل شرح الممثل المؤلف وأعان المتفرج على أنه يفهم كيف أرتضى الزوج أن يهدم حياته كلها في سبيل هذا الانتقام.
وأنت إذ تمضي في الطريق ترى عشرات الوجوه، بل المئات بعضها سمح طلق تحس الراحة والطمأنينة بالتطلع اليه، وبعضها قاس عنيف تنفر منه، بعضها تحس أن وراءه طبيعة طيبة وقلبا كريما، وبعضها الآخر تحس أن وراءه خبثا كمينا وشرا مستطيرا، وقد ترى إنسانا لا تعرفه ولم تحتك به في عمل أو حديث، ولا صلة لك به، ثم تهمس في أذن صديقك انظر! هذا رجل ابله، أو هذا رجل طيب، أو هذا رجل شرير، إلى غير ذلك من المعاني التي توحيها إليك ملامح الوجه الذي رأيته.
ومن العبارات المألوفة أن تقول عن شخص معين في حديث يدور حوله إن وجها يدل على الطيبة وكرم الأخلاق أو أن ملامح وجهه تدل على أنه شرير خبيث ولن تجد لغة من اللغات تخلو من هذه العبارات التي تتردد على الألسنة والأفلام، فتمر بالسمع أو يقع عليها النظر وكأنها بديهة لا نقاش فيها ولا جدال، وفي العربية من مثل هذا شيء كثير، وفي شعرها ونثرها قديمه وحديثه مطولات في وصف الوجوه على مختلف ما تنبئ عنه ملامحها وقسماتها، وهذا هو الشاعر العربي لم ينس أن يستهل القول في مديح من أراد وصفهم بأنهم (بيض الوجوه. . .). وهذا الحطيئة لما أراد أن يهجو نفسه، هجا وجهه!!
ولسنا نمضي في هذا إلى النهاية، فإننا لا نكتب بحثا في الأدب، وكل ما أردناه من هذا الاستطراد أن نقول أن لوجه المرء وما يرتكز عليه من ملامح، أو يمر عليه من تعبيرات، أهمية كبيرة في إعطاء الناظر فكرة خاصة عن صاحبه، سيئة كانت أم حسنة، سواء أكانت هذه الفكرة عن طبيعة الشخصية ذاتها في سائر أطوارها، أم عنها في ظرف خاص ووقت معين، ومن هنا كانت هذه الأهمية الكبرى التي يعلقها فن التمثيل على قوة تعبير الممثل بوجهه، ولهذا كان لفن التنكر خطره الذي لا ينكر، فإذا أجاده الممثل أعانه إلى مدى كبير على خلق شخصية دوره خلقا صحيحا مستقيما مع طبيعة الدور، وأعانه على إعطاء المتفرج فكرة حقيقية عن الشخصية التي يقوم بها كما أرادها المؤلف، وكما تفرضها طبيعة القصة، وإذا اخطأ الممثل في تنكره المسرحي ولم يعط الوجه - مستعينا بما لديه من الأدهنة والألوان وغيرها من أدوات التنكر المعروفة - الصورة التي يجب أن يكون عليها، فقد يؤدي به ذلك إلى الفشل المحتوم والسقوط الذي لا مفر منه، بل هذه هي النتيجة التي لا محيص عنها، وضع على وجه اقدر الممثلين وأكفئهم قناعا كثيفا وأخرجه أمام الجمهور المتفرج فلن يرى فيه إلا دمية تتحرك وجثة تروح وتجئ، بعد أن حجبت منيع الحياة، ومرآة القلب والشعور.
وفن التنكر من أدق الفنون واشقها، يتطلب خبرة واسعة ودراية كبيرة، حتى ليضطر الممثل الذي يريد أن يحيط به إحاطة تامة أن يدرس تشريح الوجه من الوجهة الطبية ويلم بكل التفاصيل التي تتعلق بهذه الناحية إلماما شاملا. وعليه أن يدرس أيضا إلى جانب هذا مختلف التغيرات التي تطرأ على وجه الإنسان في شتى أطوار حياته وكلما تقدمت به السن. فوجه أبن العشرين ليس كوجه أبن الأربعين أو الستين، كما أن علائم المرض والصحة تترك أثرها على الوجه، وهناك بعض الأمراض تترك آثارا مادية تدل عليها كالجدري مثلا.
وإلى اختلاف السن، هناك اختلاف البيئة والمركز الاجتماعي والمعروف أن لكل حرفة طابعا خاصا يميز صاحبها، ولا تخطئ النظرة الدقيقة الخبيرة هذا الطابع على الوجه، وما أظن أن من العسير أن تميز الفلاح من بين المئات ولأول نظرة وفي مقدورك أن تشير إلى أحد المارة فتقول أنه عامل، وتكون مصيبا في قولك صادقا في فراستك، كما تستطيع أن تحكم على معين أنه من الدهماء أو من أوساط الناس أو أثريائهم من ملامح وجهه، ومن العبارات المألوفة قولنا (هذا الشخص تلوح على وجهه آثار النعمة)
والتعاسة والشقاء يتركان على الوجه آثار لا تخطئها العين في تلك التجاعيد والغضون ومسحة الألم التي تنبئ عما وراءها من كدر العيش ومرارة الحياة، كما أن السعادة والهناء يخلفان هذه البسطة في الملامح والسماحة في تعبيرات الوجه، تتوجها كلها الابتسامة المشرقة التي تدل على راحة البال وخلو الفؤاد مما يشغله من أكدار الدنيا.
وأنت تعرف بعد كل هذا أن للإقليم تأثيره في ملامح الإنسان، بل قد تتعدد السحن والوجوه في الإقليم الواحد والوطن الواحد، فالأوربي غير الآسيوي؛ وفي أوربا الإنجليزي غير الفرنسي، والألماني غير الإيطالي، كما أن فيآسيا الصيني والياباني غير الهندي والتركي والسوري، وفي أفريقيا المصري غير السوداني وهكذا.
كذلك يختلف أبناء الوطن الواحد، فالقاهري غير الصعيدي أو الإسكندري مثلا، وقس على ذلك مئات الفروق التي تجدها في هذه الدنيا العريضة، والممثل بحكم مهنته معرض لان يقوم بتمثيل شخصية من هذه الشخصيات المنتشرة على رقعة الأرض، وقد يكون من المستحيل أن تتطلب منه أن يدرس كل هذه الشخصيات الدراسة التفصيلية التي تعينه على تنكره وتكييف ملامح وجهه، بما يعطي الشخصية الطابع الأصيل لها، ولكن من الميسور لديه أن يدرس الشخصية التي سيمثلها الدراسة التي تؤهله لإعطاء المشاهدصورة منها، مستعينا على ذلك بأدوات التنكر التي تحت يده.
من هذا يستطيع المرء أن يكون فكرة عامة عن دقة هذا الفن، فن التنكر، وعن العناية التي يتطلبها العمل المسرحي من الممثل حتى يستطيع أن يصور على وجهه الوجه الآخر، وجه الشخصية التي يتقمصها ويؤديها أمام النظارة. ونستطيع بعد هذا أن نتحدث عن فن التنكر من الناحية الفنية العملية مستعينين في ذلك ببعض الصور والرسوم التي تشرح ما نقول.
محمد علي حماد
-