مجلة الرسالة/العدد 40/الشعراء الرمزيون
→ ذكرى العيد | مجلة الرسالة - العدد 40 الشعراء الرمزيون [[مؤلف:|]] |
أغنية الخريف ← |
بتاريخ: 09 - 04 - 1934 |
1 - بول فرلين 1844 - 1896
للأستاذ خليل هنداوي
شخصية هذا الشاعر شخصية غريبة، قد اصطلحت عليها أعاصير الحياة، وانحطت عليها الآلام، وهي خلال ذلك تبعث بالألم، وتنشد الشقاء خاليا من الحان الشقاء.
كانت حياته الأولى حياة هادئة كالسماء الصافية لا يغشى أديمها شيء. ثم بدأت سحائب سوداء قاتمة تحتشد من كل صوب لتحجب هذا الصفاء، واستطاعت أن تحجبه، واستطاعت أن تعكر عليه صفاءه. وتجعل حياته الجميلة مأساة عاشت مع نفسه. وترددت أنفاسه في هذه المأساة التي عصفت به وعصف بها!
رحم الله أبا نواس. فقد كان يدعو الندامى والشاربين إلى أن يغبطوه على سكره كلما شرب، لأنه يرى في سكرته نشوتين، ويقول لنداماه: تسكرون انتم سكرة واحدة، وأنا اسكر سكرتين.
لي نشوتان وللندمان واحدة!
وكذلك كان (بول فرلين). فسكره كان متصلا، وذهوله الروحي كان متصلا، يقتله السكر الأول ولكن السكر الثاني يحييه. ولعله كلما توغل في السكر القاتل زادت محبة الحياة عنده في السكر المحيي، فألح عليه أصدقاؤه أن يتحرى المرأة فتحرى فوجدن وشفع له جمال نفسه عن دمامة وجهه. ولكنه لم يجد الشفاء المرتجى في المرأة، فذهب يتحرى، ولعله تمثل أن شفاء نفسه في صديق يفهمه، ولعله اعتقد انه وجده في الشاعر الرمزي (ارتور راميورد) فمال إليه ميلا غريبا. . وفتحت قصائده مغاليق نفسه، فاتصلا بضعة اشهر ثم انفصلا، ولعل أمر انفصالهما كان كأمر اتصالهما، لان الأرواح قد تتجاذب وقد تتدافع. ولكن هذا الانفصال لم يكن إلا إلى حين، لان (فرلين) الضعيف كتب إلى صديقه يدعوه، فلبى الصديق نداءه، وعاد إليه يقضيان - في بلجيكا - حياة تضل فيها الظنون، وتحلق فيها الأوهام. ولكن أمد هذه الصداقة لم يطل. وليته مات موتاً، ولكنه انقطع انقطاعا. فأن (فرلين) عقب سكرة عنيفة قد اقتفى اثر صديقه في الطريق. وأطلق عليه رصاصة جرحته جرحا بليغا. شاء ذلك (فرلين) السكير. وشاءت ذلك نفسه الذاهلة الغلبة على نفسه الواعية، ولعل مبعث ذلك كله هو الخمر! فلبث عامين يتخبط في سجن (بروكسل). حتى إذا انطلق من السجن عاد إلى ميدان الحياة يغامر فيه، ويطلب لنفسه منفسحا، فشغل مناصب علمية في أقطار مختلفة، ثم لجأ إلى باريس. لا يحمل إلا قلبه الشاعر! وقلب الشاعر أرجوحة تترجح بين الشقاء والهناء، فعزاه عن خطوبة انه طفق يرى كوكب مجده يسطع ويتألق، وان أصدقاءه المعجبين به يشيعون ويظهرون، فلتفن كل آلام الحياة أمام هذا الأمل المشرق، ولتقو ما شاءت أشواك الألم ما ظللت هذه الزهرة حية لا تقدر على خنقها.
أما مجده الشعري الذي خلقه من بعده، فهو يتجلى في مذهبه الرمزي الذي لم يتكلفه تكلفاً. وإنما كان برموزه يساير روحه التي تأنس بالغموض والإبهام، وتأوي إلى عالم ملؤه الأوهام والأحلام.
جرب (فرلين) جل المذاهب الشعرية الشائعة في عصره، فسمع الحان (الرومانتيكيين) وطرب لها، ولكنه فر عاجلا وأبى أن يظهر مرارته بهذه الألحان، فأتى المدرسة (البرناسية) ووجد فيها ضالته، فنظم قصائد كثيرة خالية من ميول النفس واهوائها، وهو القائل:
(أليست من رخام (فينوس ميللو))؟
فقد فرض على قلبه أن يكون من رخام أيضاً يوم يتلمس هذا الجمال الرخامي.
ولكن (فرلين) المتقلب لا يجد أن هذه المذاهب تستطيع أن تتسع لنفسه الفياضة، فهو يحس - في نفسه ميولا غامضة تتمشى، ونزوات مبهمة تتهادى، فأي فن رخامي يقدر على بيانها؟ فمال عن المدرسة (البرناسية) ومشى وراء الشاعر (بودلير) مشية المحترس فاخذ من (بودلير) كثيراً. وولد شعر (بودلير) في نفسه كثيراً وأيقظ في نفسه كوامن كان يحسها، ولكن لا يجد إلى الإفصاح عنها سبيلا.
وبعد أن رأينا (فرلين) يصارع أصحاب الشعر العاطفي الشخصي نراه غدا أوضح الشعراء شخصية وعاطفة في شعره، ونرى قصائده الأخيرة إنما هي رسالات حقيقية يمكننا أن نعتمد عليها في درس شخصية الشاعر، تلك الشخصية المعقدة الجوانب التي اجتمعت فيها مذاهب متباينة وميول من الحياة متنافرة، وصدر من اجتمعت فيه هذه المذاهب وهذه الميول نراه طوراً كالرخام تمر به وتضج وتثور فلا يحسها، وطوراً تمر به مر النسيم فيتأثر ويهيج، و (فرلين) الرخامي القلب الذي كان يصف الأشياء وصفا متجردا عن الأهواء يصبح شاعراً محللا نفسياً، نزل إلى أعماق النفوس، وصف الكآبة العميقة المتمددة في حناياها، ووصف التأملات المشوشة يوم تعبس، وأحلامها المتبدلة حين تطرب. كل ذلك وصفه بعبارات تتمشى مع حركات النفس، وتنسجم مع ألحانها متوافقة متلائمة، ووراء هذه العبارات إحساس حي دقيق، ولكنه إحساس لا يظهر فيه الشقاء واضحاً منتصراً غالباً على كل شيء، ولكنه ذلك الإحساس المفعم بالظلمة والمغشي بالإبهام، كأنما يسري الساري فيه في جو مبطن بالضباب، والشاعر بين حقيقة حياته المظلمة الممقوتة وبين تلك التعازي التي كان يرسلها فنه وإحساسه أحلاماً جميلة ملونة، كان يمشي بفنه، ويحلق في افقه، مبدعا ذلك الشعر الذي دعاه معاصروه بحق (بالشعر الرمزي) وأضافوا لحنه الجديد إلى ألحانهم الشعرية.
(وفرلين) بعد هذا كله أبدع شعراً جديداً البسه مطارف فن جديد، وخلق للشعر لغة جديدة اجمع النقاد على أنها أسمى لغة شعرية، ولم يكن (فرلين) بنفسه إلا أنشودة جديدة مرت على أوتار قيثارة الشعر.
مختار من شعره
- 1 -