مجلة الرسالة/العدد 4/في الأدب الشرقي
→ ثم ماذا؟ | الأدب العربي والأدب الفارسي في الأدب الشرقي عبد الوهاب عزام |
طرف من شعر السلاطين ← |
بتاريخ: 01 - 03 - 1933 |
الأدب العربي والأدب الفارسي
للأستاذ عبد الوهاب عزام. أستاذ الأدب الفارسي بكلية الآداب
3
وكان من آثار هذا الاختلاط والتنافس ظهور الشعوبية من فرس وغيرهم، وهم الذين قاموا يردون على العرب دعواهم في فضلهم على الأمم. ولم يقتصر الشعوبية أن يسووا أنفسهم بالعرب، بل تمادى الجدل بهم إلى تفضيل غير العرب عليهم، كان من الشعوبية غير الفرس، وكان من الفرس أنصار للعرب، ولكن النزاع كان في معظمه نزاعا بين العرب والفرس خاصة. وقد تناضل الفريقان عن كثب، وأرسلوا الكلام إلى غاياته في غير تحرج.
فعلان الشعوبي الفارسي وهو نساخ في بيت الحكمة أيام الرشيد والمأمون، كتب كتاب الميدان الذي (هتك فيه العرب وأظهر مثالبها) كما يقول ابن النديم، وسهل بن هارون صاحب خزانة الحكمة في عهد المأمون كان شديد العصبية على العرب، وقد كتب رسالة في البخل وكأنه أراد بها الزراية بالجود الذي كان عمدة مفاخر العرب، وسعيد بن حميد بن البختكان لم يتحرج، وهو على مقربة من الخلفاء، أن يكتب كتابا يسميه فضل العجم على العرب، وأشباه هؤلاء كثيرون، وقد استمر النزاع في الكتب عصوراً طويلة، وليس يسعنا أن نستقصيه الآن.
بعد هذا كله نسأل السؤال الذي يفهم جوابه استنتاجا مما تقدم: ما أثر الفرس في الآداب العربية؟
مهما تحدث الناس عن النزاع بين العرب والفرس، فان هذا النزاع لا يشرح لنا كل شيء، كان المتنازعون إما من الرؤساء ومن التف حولهم، وإما من الطامعين في الزعامة والمناصب. فأما العلماء أكثرهم فكانوا كدأبهم في كل زمان يعملون ولا تسمع أصواتهم، وهم الذين تعاونوا على إغناء اللغة العربية بالكتب في شتى الفنون. فقد تقدم الفرس النجباء لحمل الأمانة العلمية منذ العهد الأموي، وثابروا فإذا هم المتقدمون في كل فن: في التفسير، والحديث، والفقه، حتى علوم العربية من نحو وصرف وعروض، والآداب العربية شعرها ونثرها، قديمها وحديثها، وما عنوا بالكلام عن الفرس والعرب. وكانوا يتحرجون أن يخوضوا في هذا، وكان حسبهم أن ينصروا الدين وعلومه، ولو كان لابد لهم أن يتجاوزا إلى أخذ الفريقين لآثروا نصرة العرب تدينا وتقوى. وحسبنا أن نذكر هنا أمثال الحسن البصري، والبخاري، ومسلم، والأمام أبي حنيفة، ومحمد بن جرير الطبري، وابن قتيبة، وابن فارس. على أن المتعصبين أنفسهم قد اتخذوا العربية لغتهم، فلم يكن لهم بد من إمدادها بمعارفهم طوعا أو كرها. والحق أن كراهيتهم للعرب لم تكن كراهة للغة العربية. وأصدق شاهد على هذا أبو عبيدة اللغوي: كان شعوبيا متعصبا على العرب، وأصله يهودي فارسي، وأنت تعلم ما أجدت مؤلفاته على اللغة العربية، وما بذل من جهد لحفظها ورواية آدابها، ومن هذه الآداب كتابه في مثالب العرب.
للفرس يد أخرى على الآداب العربية، هي ترجمتم ذخائر لغتهم إلى اللغة العربية ترجمة حاذق قد اتخذ العربية من لغته بديلا. ولعل عصبيتهم حفزتهم إلى هذا ليحفظوا آثارهم من الضياع وتقوم لهم الحجة بما يترجمون على فضل آبائهم، وعظم حضارتهم، وقد بدأت هذه الترجمة - فيما يظن - أيام الخليفة هشام بن عبد الملك: ترجم جبلة بن سالم كاتب هشام سير ملوك الفرس، ثم جاء زعيم المترجمين ابن المقفع، وعبد الحميد بن أبان، وآل نوبخت. وقد عد صاحب الفهرس أربعة عشر مترجما غير ابن المقفع وأسرة نوبخت.
والكتب التي ترجمت من الفارسية أقسام ثلاثة:
1. كتب في الحكمة: وهذه ليست ذات خطر، فإنما هي فلسفة اليونان جاءت من طريق الفرس، وكان العرب يأخذونها من مصادر خير من الفارسية.
2. كتب في التاريخ والقصص: مثل كتاب (خداي نامه) أو سير الملوك، وكتاب التاج في سيرة أنوشروان اللذين ترجمهما ابن المقفع، وسيرة أردشير، وسيرة أنوشروان، اللتين ترجمهما أبان اللاحقي. وبعضها مأخوذ عن السجلات الرسمية الفارسية. وهذه الكتب لها أثرها في كتب التاريخ العربي. وهي أصل لكل ما في الكتب العربية من تاريخ الفرس وأساطيرهم، فأخبار الساسانيين في الطبري مثلا مأخوذة منها. يثبت هذا مقارنة الكتب العربية بعضها ببعض وبالكتب الفارسية كالشاهنامه. فهذه الكتب على اختلاف مصادرها المباشرة تتفق في سرد التاريخ اتفاقا يؤدي إلى الاعتقاد بأنها أخذت من أصل واحد.
3. كتب المواعظ والآداب والسياسة وما يتصل بها: مثل عهد (أردشير بابكان) إلى ابنه سابور. وعهد أنوشروان إلى ابنه هرمز، وجواب هرمز إياه، ورسالة كسرى إلى زعماء الرعية، وكتاب (زادان فرخ) في تأديب ولده، وآيين نامه الذي ترجمه ابن المقفع، وقد أمدت هذه الكتب اللغة العربية بثروة من الحكم الأخلاقية والأقوال المأثورة تتجلى في مثل كتب ابن المقفع: كليلة ودمنة، والأدب الكبير، والأدب الصغير، واليتيمة، وهي أصل لكتب الأخلاق العربية التي ألفت من بعد، ومن هذا النوع الكتب التي عرفت باسم المحاسن، أو المحاسن والمساويء، مثل: المحاسن لعمر بن الفرخان الطبري (في عصر المأمون). والمحاسن المنسوب لابن قتيبة. والمحاسن والمساوئ للبيهقي، والمحاسن والأضداد للجاحظ، فهذه الكتب لها نظائر في الفهلوية ألفت حتى في العصر الإسلامي. وهي معروفة باسم شايد نشايد، أو (شايسة نشايسة).
كتب التاريخ وكتب المواعظ لها أثر كبير على الأدب العربي بالمعنى الأخص. أعني الكلام البليغ نظمه ونثره، فهذه الأساليب المسهبة السهلة التي تقدم بها عبد الحميد وتلاه فيها ابن المقفع وغيره تأثرت بالأساليب الفارسية كما كانت موضوعاتها فارسية. وقد ذكر أبو هلال العسكري في الصناعتين وهو يحتج على أن البلاغة ترجع إلى المعاني: ذكر أن الذين عرفوا لغات غير العربية نقلوا بلاغتها إلى العربية في كتابتهم، وضرب مثلا بعبد الحميد الكاتب إذ أجدت على العربية بلاغته الفارسية، وأمر آخر يرجع إلى الشعر: هو الشعر المزدوج الذي نظم به أبان بن عبد الحميد كتاب كليلة ودمنة وغيره، فقد نظم شعراء الفرس فيما بعد كل ما نظموا من قصص في هذا النوع من النظم وسموه المثنوي. فلعل هذا النوع من أثر الفرس على اللغة العربية أيضا على قلة معرفتنا بحال الشعر عند الفرس قبل الإسلام.