مجلة الرسالة/العدد 393/رسالة الفن
→ من أساطير الهند | مجلة الرسالة - العدد 393 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 13 - 01 - 1941 |
شيء نادر:
الوصول
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
كن في مجتمع وانظر إلى الناس من حولك وتفرس فيهم، فإنك تستطيع بعد شيء من التدرب والتعلم أن تحدد، ولو بالتقريب، شخصيات الكثيرين منهم، فتقول إن هذا الأول شخص جاد مستقيم في عمله في لهوه، فهو يعمل ليعيش، ويلهو ليعمل، كأنما هو آلة حكم عليها أن تدور دورتين دورة ذات اليمين ودورة ذات الشمال. فإذا تركته ونظرت إلى الثاني قلت إن هذا الثاني شخص حائر لا يعرف لماذا نوجد في هذه الحياة ولا يعرف أي أعباء الحياة يحمل ولا أيها يدع، فهو يرمق كل شيُ باهتمام، ولا تعدو رمقته إلى الأشياء هذا الاهتمام، ولا تجوزه إلى الاختبار والمعرفة ثم الاستغلال. فإذا تركته ونظرت إلى الثالث قلت إن هذا الثالث مغالط اختلس في الدنيا ما كان غيره أحق به منه، وهو يعرف أنه مختلس، ويعرف أن المختلس مهدد بالانفضاح، ولذلك فإنه يعمد إلى تغطية مغالطته الأصلية المجرمة بمغالطات أخرى فرعية هي أيضاً مجرمة. فإذا تركته ونظرت إلى الرابع قلت إن هذا الرابع ضعيف هزيل ولكنه راغب في الحياة، وفي لون مريح من ألوان الحياة يرضاه، فهو يتوسل إليه بإهدار كل مواهبه وكل قواه لا يعبأ بأن يكون موضع النقد، ولا بأن يكون موضع السخرية، ولا بأن يكون موضع التحقير ما دام يصل إلى الذي يريد من الراحة الرخيصة التي استهوته والتي طمع فيها على غير جدارة منه لها. . . فإذا تركته ونظرت إلى الخامس قلت إن هذا الخامس حقود، فإذا تركته ونظرت إلى السادس قلت إن هذا السادس بخيل، فإذا تركته ونظرت إلى السابع قلت إن هذا السابع بحاثة، فإذا تركته ونظرت إلى الثامن قلت إن هذا الثامن فنان. . . وهكذا. . .
بل أن من الناس من تستطيع بالنظرة الأولى إليه أن تعرف الحرفة التي يحترفها، فهذا تعرفه معلماً من عنايته بالنظافة والنظام، ومن حركاته الميكانيكية التي اصطنعها لتكون نموذجاً للتلاميذ يتحركون على نمطها، ولتكون في الوقت نفسه ستاراً بينه وبين التلاميذ يكشفون مع وجودها حركات نفسه الطبيعية التي فطره عليها الله، وأنت تعرفه كذلك من صوته وإشارته وحديثه الذي يتكلف به التفهم بحسب أصول البيداجوجيا. . . وذاك تعرفه محامياً من لباقته ورشاقة ضميره التي تبدو في اتساع آفاق أحاديثه، تلك الأحاديث التي يحرص المحامي البارع كل الحرص على أن تكون كلاماً لا معنى له حتى إذا اختلف مع موكله بعد الحكم الابتدائي استطاع أن يتفق مع خصم موكله ليترافع عنه لدى محكمة الاستئناف. . . وذلك تعرفه سمساراً من سهولة دخوله على الناس وسهولة خروجه من الناس، فهو يحدث من يشاء بما يشاء إلى أن يشاء قطع الحديث ليحدث آخر بما يشاء أيضاً حتى يرى أن يصل الاثنين وأن ينسحب هو ليصل غيرهما بالحلال أو الحرام. . . وأخر تعرفه عسكرياً من سماحة عقله وسماحة نفسه فهو لا يطمع من الدنيا في شيء أكثر من الذي يطمع الإنسان فيه إذا كان في (استراحة) إحدى المحطات: لقمة سائغة، وشربة هنية، بعدهما جرس القيام. . . ثم الصحافي تعرفه صحافياً بقدرته العجيبة على دس نفسه فيما يعرف وفيما لا يعرف، وبقدرته الأخرى على الاستخفاف بحكم الناس عليه؛ فهو يقبل عليهم في النكبة لا ليشاركهم الأسى ولا ليواسيهم ولا ليخفف عنهم وإنما ليراهم كيف يبكون، وكيف يذرفون الدمع، وليته مع ذلك يحاول أن يعرف هذا البكاء وهذا الدمع هل هما صادقان أو هما كاذبان وإنما الذي يعنيه هو تسجيل الوقت الذي بدأ فيه البكاء والوقت الذي انتهى فيه، وتقدير الدمع الذي كأنما ناس يريدون أن يشربوه أو أن يعوموا فيه. . . وهكذا
هذا شيء يحدث. . . وأنت تستطيع - كغيرك - أن تميز الناس بالنظرة الأولى أو بالنظرة الثانية، فما الذي يحدث للناس حتى يتشكلوا هذا التشكل الذي يحددهم ويحصر شخصياتهم؟ وهل تحدد الشخصية وانحصارها مما يدل على قوتها، أو مما يدل على ضعفها؟
أما الذي يحدث للناس، فيكون من أثره أن تتشكل شخصياتهم وأت تتحدد وأن تنحصر وأن تتميز، فهو أن الواحد منهم يقع تحت تأثير عاطفة من العواطف أو حرفة من الحرف، ويتركها تعمل في نفسه. والنفس كما نعلم تعمل في البدن، ولكل عاطفة لون من العمل تنصبغ به النفس ويتشكل به البدن. ومهما كان الخير في العاطفة الواحدة أو في الحرفة الواحدة، فإن تغلبها على الإنسان فيه اختلال لتوازنه النفسي وفيه تشويه لشكل بدنه، فالله لم يخلق بعاطفة إنساناً واحدة طاغية عليه، كما أنه لم يخلق إنساناً محترفاً حرفة واحدة تؤثر فيه هذا الأثر الشنيع.
وإنما الناس الذين خلقهم الله أطفال، أصفياء، عواطفهم موجودة لا حصر لها: فالسعيد منهم هو ذلك الذي إذا نما العقل فيه تمكن به من حفظ التوازن بين هذه العواطف الموجودة الكثيرة فلم يسمح لإحداها بأن تغلبه على أمره. . . فإذا استطاع هذا، فهو ينمو ويكبر ولا يزال وجهه كوجوه الأطفال، ولا تزال شخصيته كشخصيات الأطفال، فيها هذا الشيوع السمح الذي لا يستطيع الناظر إليه أو المحقق فيه أن يميزهم به فيقول: إن هذا الإنسان حقود، أو أنه غيور، أو أنه طماع، أو أنه محام أو أنه معلم، أو أنه مهندس، أو أنه شيء ما. . . وإنما يقول هذا إنسان، فإذا أراد أن يعرف أي إنسان هو كان عليه أن يعاشره وأن يختبره، فعندئذ تتبين له مواهبه واتجاهاته العقلية والنفسية. ولا بد في هذه الحال أن تنكشف له ميزات عجيبة، لأن الإنسان الذي يستطيع - وعلى الخصوص في هذا العصر - أن ينجو بنفسه من الخضوع لإحدى العواطف أو لمجموعة خاصة منها، وأن ينجو من آثار الحرفة والمهنة، لهو إنسان قوي النفس استطاع أن يصل أو أن يعود إلى الأصل الطبيعي لنفسه، وهو الأصل الذي فطره الله عليه، وهو أصل خصب صاف غني فيه كل العواطف، وكل المواهب، وكل القوى الخلقية، وإن تفاوتت مقاديرها عند الناس.
ومن الفنانين الذين استطاعوا أن يصلوا إلى هذا الصفاء: شارلس لاتون، فأنت تنظر إلى وجهه فترى وجه طفل لا يستطيع اللحم المتراكم فيه أن يحجب صفاءه ولا نقاءه.
ونجيب الريحاني يقترب اليوم من الستين، ومع هذا فمهما تفرست في وجهه فإنك لا تستطيع - والصلاة على النبي - أن ترى فيه تجعيدة أو خطأً يستر عاطفة حادة أو يشير إلى أن هذا الرجل قد قهره الزمن على أن ينصبَّ في قالب ما. ولذلك فإنه قدير على أن يمثل كل شخصية من الناس، وعلى أن يعلم الممثلين كيف يمثلون ما اختلف من الشخصيات.
والأستاذ أحمد أمين - على ما أنا متحامل عليه - تراه فلا تعرف أهذا الرجل أديب، أم هو عالم، أم هو تاجر، أم هو من ذوي الأملاك، أم هو ممن يرزقهم الله يوماً بعد يوم. . . ولست أدري أأتاه ذلك لأنه من أولئك الذين تحدثنا عنهم، أم لأنه مجموعة من الرجال: فمنهم الأديب والعالم والتاجر وذو الأملاك، والذي يرزقه الله يوماً بعد يوم، وقد تعادل فيه هؤلاء جميعاً فلم يقو واحد منهم على أن يختص بالظهور فيه.
ويشبهه في ذلك الأستاذ الزيات. . . بل إنه يزيد عنه غموضاً في صوته، فهو لا يزال إلى اليوم يشبه أصوات الأطفال. . .
أما الرجل الجبار في هذا الوصول فهو الاقتصادي الفنان الكبير طلعت حرب. . . فهذا الرجل إذا لم تكن تعرفه ورأيته وأقسم لك جمهور من الناس بأنه طلعت حرب لما صدقت، فهو لا يبدو عليه أنه باشا، ولا أنه اقتصادي، ولا أنه صاحب مشروعات، ولا أنه صاحب جهاد، وإنما هو رجل منكسر ينثني رأسه وهو جالس إلى صدره ذلاً واستغفاراً، وتتطلع عيناه إلى السماء رجاء واستعطافاً، ويتهادى صوته في حديثه كأنما يخشى التعثر أو الخطأ، مع أنه اليوم في السبعين أو نحوها، ومع أنه الرجل الأول في مصر.
السنون مرت به ولكنها لم تفعل به شيئاً، والصعاب صدمته ولكنها لم تحفز في نفسه مجرى، وإنما كان يقبل في السنين الماضيات جميعاً على اليوم بعد اليوم، أو على الساعة بعد الساعة يبحث عن موضع الحق أين هو فيلصق به، والصعاب كانت تصدمه فكان يردها بدرع الحق أيضاً فلم تكن لتؤثر فيه، ولذلك استطاع أن يبقى إلى اليوم كأنه طفل كبر جسمه ولكن نفسه ما تزال صافية مرتاحة.
وإذا كان الوصول إلى هذا الصفاء لازماً للناس جميعاً، لأنه أهم أسباب الراحة والاطمئنان، فهو ألزم ما يكون لأهل الفن ما دام تعبيراً من حياة الروح عند صاحبه وعند غيره من الناس، فهذا الصفاء يمكن الفنان من الاطلاع على حقيقة نفسه كلما اعتراها طارئ من طوارئ الحياة، فيلحظ بهذا الاطلاع ما ينتاب النفس الطبيعية عند هذا الطارئ بالذات؛ فإذا ضمن صفاء نفسه واستقامتها فقد ضمن بها مقياساً لا يخطئ يمكنه من الحكم على سائر النفوس وهي تحت تأثير الطوارئ المختلفة، فإذا لحظ بعد ذلك كيف تعبر نفسه عما تفعله بها الطوارئ، وكيف تنزع إلى الاستغراق في هذا الطارئ أو التنصل من ذاك الطارئ، استطاع بعد ذلك أن يقيس نفوس الناس على نفسه الصافية فإذا وجد اختلافاً بحث عن علته وسببه عندهم. . .
وهذه موضوعات للأدب، وللموسيقى، وللتمثيل، وللغناء، وللرسم، وللرقص. . .
إنها حياة النفس وما الفن إلا تصوير هذه الحياة، وما الوصول إلى الفن الصادق إلا من هذه الطريق. . .
كان الله في عون الفنان إذا أراد أن يكون صادقاً. . .
عزيز أحمد فهمي