مجلة الرسالة/العدد 386/في الاجتماع اللغوي
→ مسابقة الجامعة المصرية | مجلة الرسالة - العدد 386 في الاجتماع اللغوي [[مؤلف:|]] |
كتب لم أقرأها ← |
بتاريخ: 25 - 11 - 1940 |
اللهجات الاجتماعية
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تنشعب أحياناً لغة المحادثة في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة إلى لهجات مختلفة تبعاً لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم: فيكون ثمت مثلاً لهجة للطبقة الأستقراطية، وأخرى للجنود، وثالثة للبحارة، ورابعة للرياضيين، وخامسة للبرادين، وسادسة للنجارين. . . وهلم جراً.
ويطلق علماء الاجتماع اللغوي على هذا النوع من اللهجات الاجتماعية تمييزاً لها عن اللهجات المحلية التي كانت موضوع حديثنا في المقال السابق
ويؤدي إلى نشأة هذه اللهجات ما يوجد بين الطبقات الناس وفئاتهم من فروق في الثقافة والتربية ومناحي التفكير والوجدان، ومستوى المعيشة، وحياة الأسرة والبيئة الاجتماعية، والتقاليد والعادات، وما تزاوله كل طبقة من أعمال وتضطلع به من وظائف، والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم وتستأثر بقسط كبير من إنتباهم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له أو قصرها على بعض مدلولاتها للتعبير عن أمور تتصل بصناعتهم وأعمالهم. . وهلم جراً فمن الواضح أن هذه الفوارق وما إليها من شأنها أن توجه اللهجة في كل طبقة وجهة تختلف عن وجهتها عند غيرها؛ فلا تلبث أن تنشعب اللهجة العامة إلى لهجات تختلف كل منها عن أخواتها في المفردات وأساليب التعبير وتكوين الجمل ودلالة الألفاظ. . . وما إلى ذلك. وقد تذهب بعض اللهجات الاجتماعية بعيداً في هذا الطريق، فيشتد انحرافها عن الأصل الذي أنشعبت منه، وتتسع مسافة الخلف بينها وبين أخوانها، حتى تكاد تصبح لغة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها: كما هو شأن اللهجات الفرنسية المستخدمة بين طبقات اللصوص والمجرمين وبعض طبقات العمال , ويزداد في العادة انحراف اللهجة الاجتماعية عن أخواتها كلما كثرت الفوارق بين الطبقة الناطقة بها وبقية الطبقات، أو كانت حياة أهلها قائمة على مبدأ العزلة عن المجتمع أو على أساس الخروج على نظمه وقوانينه. ولذلك كانت في فرنسا لهجات الطبقات الدنيا من العمال واللهجات السرية لجماعات المتصوفين والرهبان، ولهجات المجرمين واللصوص ومن إليهم، من أكثر اللهجات انحرافاً عن الأصل الذي أنشعبت منه، وبعداً عن المستوى العامل لبقية اللهجات الاجتماعية الفرنسية
ولا تظل اللهجات الاجتماعية جامدة على حالة واحدة بل تسير في نفس السبيل الارتقائي الذي تسير فيه (اللهجات المحلية)؛ فيتسع نطاقها باتساع شئون الناطقين باتساع شئون الناطقين بها، ومبلغ نشاطهم واحتكاكهم بالأجانب وبأهل الطبقات الأخرى من مواطنيهم، وما يخترعونه من مصطلحات، ويتواضعون عليه من عبارات، ويقتبسونه عن اللغات الأجنبية من مفردات وأفكار، وتختلف أساليبها وطرق تركيبها باختلاف العصور وتطور الظروف الاجتماعية المحلية بالطبقات الناطقة بها؛ فلهجات العمال والمجرمين بفرنسا تختلف بعد الحرب العظمى أختلافاً بيناً عما كانت عليه قبل ذلك؛ وتختلف في القرن العشرين أختلافاً كبيراً عما كانت عليه مثلاً في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ولا أدل على ذلك من أن معظم القطع التي كتبها بتلك اللهجات في القرن الخامس عشر الشاعر الفرنسي فرنسوا فيلون لم يستطع بعد في العصر الحاضر حل جميع رموزها وفهم مدلولاتها
وتؤثر اللهجات الاجتماعية في لغة المحادثة العادية تأثيراً كبيراً فتستعير منها هذه اللغة كثيراً من التراكيب والمفردات، وبخاصة المفردات التي خصص مدلولها العام واصطلح على إطلاقها على أمور خاصة تتعلق بفن أو حرفة وما إلى ذلك. فلغة المحادثة العادية بباريس في العصر الحاضر قد دخل فيها عن هذا الطريق كثير من مفردات اللهجات الاجتماعية وبخاصة لهجات العمال والمجرمين
ولا تتميز في العادة اللهجات الاجتماعية بعضها من بعض تميزاً واضحاً في المدن الكبيرة حيث يتكاتف السكان، ويزدحم الناس، وتنشط الحركة الاقتصادية، وتتنوع الوظائف، وتتعدد المهن، ويشتد النزاع بين الطبقات كنيويورك ولندن وباريس وبرلين في العصر الحاضر وكبغداد في العصر العباسي
وأهم أنواع اللهجات الاجتماعية ما يسمونه باللهجات الحرفية (نسبة إلى الحرفة)، وهي التي يتكلم بها فيما بينهم أهل الحرفة الواحدة كالبرادين والنجارين والبحارة. . . وهلم جرا. وتتميز اللهجات الحرفية بعضها من بعض تميزاً كبيراً في المناطق التي يسود فيها (نظام الطوائف) كل طبقة بحرفة أو وظيفة خاصة تكون وقفاً على أفرادها لا يجوز لهم ولا لأعقابهم من بعدهم الاشتغال بغيرها كما لا يجوز لغيرهم الاشتغال بها: كما هو الحال في كثير من بلاد الهند، على حين أنه في الأمم الحديثة التي قضى فيها على نظام الطوائف، فأصبحت الحرف حظاً مشاعاً بين جميع أفراد السكان، يزاول كل منهم المهنة التي تروقه، وينتقل، إذا شاء من مهنة إلى أخرى، وأصبحت الطبقات الاجتماعية غير واضحة الحدود ولا موصدة الأبواب على غير أهلها، في هذه الأمم تتداخل اللهجات الحرفية بعضها في بعض، ويتأثر بعضها ببعض، وتقل بينها الفروق، وتضعف المميزات.
هذا، وقد خيل إلى بعض الباحثين أن (اللهجات الاجتماعية) لا تنشا من تلقاء نفسها، بل تخلق خلقاً، وتبتدع بالتواضع والاتفاق بين أفراد الطبقة والواحدة، وترتجل ألفاظها ومصطلحاتها أرتجالاً، وتابعهم في هذا الرأي بعض القدامى من علماء اللغة؛ ولذلك لم تنل هذه اللهجات كبير حظ من عنايتهم.
وليس لهذه النظرية أي سند عقلي أو تاريخي. بل إن ما تقرره ليتعارض مع النواميس العامة التي تسير عليها النظم الاجتماعية، فعهدنا بهذه النظم أنها لا ترتجل ارتجالاً ولا تخلق خلقاً؛ بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها. هذا إلى أن معظم هذه اللهجات منتشر بين طبقات فقيرة جاهلة منحطة المدارك ضعيفة التفكير، لا يتاح لمثلها أن تنشئ إنشاء لغة كاملة المفردات متميزة القواعد، بل لا يتاح لها مجرد التفكير في مثل هذا المشروع الخطير: طبقات المتسولين واللصوص والحدادين والصيادين. . . وهلم جراً
والحق أن (اللهجات الاجتماعية) لا تختلف في نشأتها عن (اللهجات المحلية) التي تكلمنا عنها في المقال السابق. . . كلا النوعين ينشعب عن اللغة الأصلية ويستمد منها أصول مفرداته ووجهة أساليبه وتراكيبه وقواعده؛ وكلاهما تلقائي النشأة ينبعث من مقتضيات الحياة الاجتماعية وشئون البيئة. وكل ما بينهما من فرق أن السبب الرئيسي في نشأة (اللهجات المحلية) يرجع إلى اختلاف الأقاليم وما يحيط بكل إقليم من ظروف وما يمتاز به من خصائص. . على حين أن السبب الرئيسي في نشأة (اللهجات الاجتماعية) يرجع اختلاف طبقات الناس في الإقليم الواحد وما يكتنف كل طبقة منها من شئون، وما يفصلها بعضها عن بعض من مميزات في شتى مظاهر الحياة
غير أننا قد نعثر أحياناً في بعض اللهجات الاجتماعية على مفردات لا أصل لها مطلقاً في لغة البلد ولا في اللغات الأجنبية. ومفردات كهذه يغلب على الظن أنها قد اخترعت في الأصل اختراعاً من بعض الأفراد وانتشرت عن طريق التقليد. ولكن هذه الظاهرة تكاد تكون مقصورة على لهجات الطبقات الراقية، ولا تبدو إلا في عدد قليل من الكلمات. أما معظم المفردات فترجع أصولها إلى كلمات منحدرة من لغة البلد، أو مقتبسة من بعض لغات أجنبية. غير الغالب أن ينالها مع تقادم الزمن كثير من التحريف والتغير فتبعد بعداً كبيراً عن الأصل الذي أخذت منه. وقد تصل في انحرافها هذا إلى درجة يخيل معها للباحث السطحي أنها ابتدعت بالتواضع والارتجال. ولعل هذا هو ما حدا ببعض العلماء على الظن بأن اللهجات الاجتماعية ناشئة عن تأليف واختراع
علي عبد الواحد داني
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون