مجلة الرسالة/العدد 386/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 386 القصص [[مؤلف:|]] |
المسرح والسينما ← |
بتاريخ: 25 - 11 - 1940 |
هل كان حلماً
عن الفرنسية
أحبتها إلى حد الجنون! ولماذا يحب الإنسان؟. . . لماذا يجب؟ ما أغرب الحالة التي يصير إليها من لا يريد أن يرى غير امرأة واحدة ولا يفكر إلا في فكرة واحدة ولا يضمر إلا رغبة واحدة ولا ينطق إلا باسم واحد يخرج من أعماق نفسه متدفقاً كالماء من الينبوع ولا يزال يعيده في وحدته كأنه بعض الصلوات والأدعية!
سأخبرك بقصتنا وهي قصة لجميع المحبين، فإن للحب سيرة واحدة. . . قابلتها فأحببتها وبقيت عاماً كاملاً أعيش في حنانها ورحمتها. . . بين ذراعيها وثوبها. في كلماتها ونظراتها وكنت مغموراً في كل ما يصدر عنها فلم أعد أعرف الليل من النهار، ولا الحياة من الموت، ولا هل كنت في الأرض أم في مكان آخر
ثم ماتت ولكن كيف؟
لست أدري، لم أعد أذكر!
جاءت مبتلة الثياب في ليلة ممطرة، وفي اليوم التالي أصيبت بالسعال، ثم اشتدت الحالة بعد أسبوع فلزمت الفراش. ولست أدري ماذا حدث في خلال هذه المدة أن الطبيب كان يأتي ويكتب ورقة وينصرف. . . وكانت امرأة في المنزل تحضر الدواء وتسقيها. وكانت يداها حارتين وجبينها يكاد يحترق. وعيناها تسطعان في حزن. وكنت أكلمها فتجيب، ولكنني لا أعي ماذا كنا نقول. . . لقد نسيت كل شيء! كل شيء. . . كل شيء! وماتت وأنا لا أزال أتصور شهيقها الخافت الضعيف
وقالت الخادم إنها عرفت كل شيء. . . فأما أنا ففقدت إدراكي؛ ثم رأيت القسيس يوجه الخطاب إلى ويقول: (خليلتك. . .)؛ فخطر لي أنه يريد إهانتها، ولأنها قد ماتت فما ينبغي أن يشير أحد إلى ما كان بيني وبينها، ولذلك طردت القسيس. . . وجاء رجل في غاية الشفقة واللطف فكلمتي عنها كلاماً أجرى دموعي
واستشاروني في أمر الجنازة ولكني لا أدرك كلمة مما قالوه، وإن كنت أتذكر شكل الصندوق وصوت الفؤوس، وحينما فتحوا القبر، عفوك اللهم ورضاك! (دفنوها! نعم دفنوها! هي في القبر. . . وجاء صواحبها وهربت، ولم أزل أجري من طريق إلى طريق. وفي اليوم التالي بدأت السياحة. . .
وفي الأمس رجعت إلى باريس، ولما رأيت غرفتنا القديمة وسريرنا وأثاثنا وكل شيء يبقى من الحياة إنسانية بعد الموت، لما رأيت ذلك أصابتني نوبة جديدة من الحزن حتى كدت أفتح النافذة وألقى بنفسي منها
ولما لم يكن في وسعي البقاء بين تلك الجدران التي كانت تضمها فقد حملت قبعتي أريد الخروج، فلما وصلت إلى الردهة رأيت مرآة طويلة كانت وضعتها هناك لتصلح من هندامها وهي خارجة فوقفت أمام المرآة وكدت أرى صورتها مطبوعة عليها
وقفت أرتعش ونظري معقود بتلك الصفحة الصقلية العميقة المصنوعة من البلور في تلك المرآة التي كانت تحتويها. وشعرت بأنني أحب هذه المرآة فلمستها ووجدتها باردة. ما أوجع الذكرى أيتها المرآة المحزنة، المرآة المحرقة، المرآة المفزعة التي جعلتني أقاسي كل هذه الآلام!
سعيد من يستطيع أن ينسى كل ما انطبع على صفحة المرآة وكل من مر بها وكل من نظر إلى نفسه فيها. لقد كان الوجه الذي يرتسم عليها هو وجه الحبيبة الراحلة. فما أشد ما أعاني
خرجت من المنزل من غير رغبة ولا مقصد، وظللت أمشي حتى وجدت نفسي بين المقابر، وجدت قبرها البسيط وعليه صليب صغير من المرمر قد نقش عليه (أحبت وماتت)
هاهي ذي هناك ولكن جسمها أصبح بالياً، فما أكبر المصاب، بكيت هنالك ورأسي منحن على القبر، وظللت واقفاً مدة طويلة حتى أظلم الليل؛ ثم قامت بذهني رغبة جنونية غريبة رغبة المحب اليائس؛ أردت أن أقضي الليل كله باكياً لدى القبر وخشيت أن يروني فيطردوني فماذا أفعل؟
ابتعدت عن القبر وظللت أمشي في مدينة الأموات وما أضيقها بالقياس إلى مدن الأحياء! ثم ما أكثر الموتى وأقل الأحياء بالقياس إليهم! نحن نحب المنازل العالية والطرق المتسعة، ونحب أن نشرب الماء من ينابيعه والخمر من كرومها، ونأكل مما تنبت الأرض، ولكن ليس للموتى شيء غير أن الأرض تأكلهم كما أكلوا نيتها وعند نهاية المقابر وجدت أجداثاً قديمة تكاد الأرض تعلوها وقد بلي ما عليها من الصلبان والأحجار وامتنع زوارها، وعند هذه الأجداث وجدت أشجاراً كثيفة وحديقة صغيرة جميلة تبعث الحزن لأن أعوادها تستمد الغذاء من لحوم الموتى
ولم يكن في هذا المكان أحد غيري فاختبأت وراء شجرة كثيفة متشبثاً بالثمامة كما يفعل الغرقى
ولما أشتد ظلام الليل تركت مكاني ومشيت بخفة وبطء حريصاً على ألا يسمعني أحد وإن كان المكان خالياً إلا من الموتى؛ وظللت أمشي مسافة طويلة ولكنني لم أهتد إلى قبرها فبسطت يدي وصرت أتلمس بها كل قبر فلم أهتد إليه. وكنت أمشي كما يمشي العميان فعثرت مراراً بقطع من الصلبان والأحجار والحدائد وبأسلاك معدنية كانت في وقت من الأوقات تلتف حولها أزاهر الأكاليل، وصرت أقرأ أسماء الموتى المنقوشة على قبورهم. فما هذه الليلة؟ ما هذه الليلة الرهيبة! لقد كادت تنقضي ولم أهتدي إلى القبر
ولم يكن في السماء قمر ولا نجوم وكنت خائفاً في هذه الممرات الضيقة بين صفوف القبور. . . القبور القبور، ولا شيء غير القبور. . .! عن يميني وعن يساري وأمامي وحولي قبور. . . جلست على أحدها لأني لم أعد أستطيع موالاة السير، وكنت اسمع دقات قلبي، وكنت أسمع صوتاً آخر يشبه ذلك الصوت. . . ما هو؟ جلبة ضعيفة قد اختلطت فيها الأصوات، فهل كانت في رأسي من التعب أم كانت تحت التراب الممتلئ بالرمم؟
نظرت حولي ولكنني لم أتبين كم ساعة قضيت. وكنت كالمشلول من كثرة الخوف والانزعاج، وكدت أصرخ، بل كدت أموت
ثم تخيلت فجأة أن قطعة الرخام التي جلست فوقها قد بدأت تتحرك، وانتقلت منها إلى التي يجنبها، ورأيت القبر الذي تركته قد أنفتح وظهر الميت الذي كان به ولم يكن غير عظام عارية من اللحم وكان هو الذي يدفع غطاء قبره ليفتحه
نظرت إلى السم المنقوش على القبر فرأيت هذه الكتابة: (هنا جاك أوليفانت الذي مات في الحادية والخمسين، وكان محباً لأسرته رحيما شريفاً)
وقرأ الميت أيضاً هذه الجملة، ثم أخذ من العظم قطعة حديدة الطرف، وصار يمحو هذا النقش بعناية حتى طمسه ونظر بثقبي عينيه الأجوفين، وكتب بقطعة العظم الباقية بين إصبعيه:
(هنا جاك أوليفانت الذي مات في الحادية والخمسين وقد عجل بوفاة أبيه عقوقاً منه وشرهاً إلى الميراث، وأشقى زوجته وعذب أولاده وخدع جيرانه وسرق كل ما استطاع أن يسرقه ثم مات منكوداً)
لما فرغ الميت من هذه الكتابة وقف بغير حراك ونظر إلى ما كتبه، ونظرت أنا فرأيت كل من في المقابر قد فتحوا قبورهم ومحوا الأكاذيب التي كتبها أقاربهم عليها وأثبتوا الحقائق بدلها ووجدت أكثرهم من أهل الحقد والدناءة والرياء والكذب والخداع والحسد، وقد ارتكبوا أبشع الآثام. وقد كان منقوشاً على قبورهم أنهم أبرياء بررة وزوجات أمينات وأبناء رحماء وبنات طاهرات وتجار شرفاء
وظننت أنها قد كتبت شيئاً على قبرها، فجريت غير خائف بين صفوف الموتى عرفتها وإن لم أنظر إلى وجهها بل كانت معرفتي لغطاء القبر الذي كان منقوشاً عليه: (أحبت وماتت) فرأيتها تمحو ذلك وتكتب: (خرجت يوماً لكي تخون حبيبها فأصابها البرد ومرضت فماتت)
ويظهر أنهم وجدوني في اليوم التالي بجانب القبر في حالة إغماء.
(ع. ا)