مجلة الرسالة/العدد 386/الحرب في أسبوع
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 386 الحرب في أسبوع [[مؤلف:|]] |
بين أثينا وبين روما ← |
بتاريخ: 25 - 11 - 1940 |
للأستاذ فوزي الشتوي
هل تنتصر اليونان
هل يتاح للأمة اليونانية النصر في صراعها الحالي مع إيطاليا؟ أو هل يتاح لها على الأقل أن تحتفظ باستقلالها من العدوان الفاشستي؟ سؤالان لا أكاد أجلس في مجتمع حتى أسمعهما، فأسمع أحاديث المتشائمين والمتفائلين، وأسمع حججاً تبرر التشاؤم والتفاؤل، وأسمع مقارنات تدل على الحيرة والتردد في الأخذ برأي قاطع؛ ويرى كثيرون أن مأساة الحرب الروسية الفلندية تتكرر بين إيطاليا واليونان
ومن الواجب أن يقف الباحث لحظة أما هذه الأسئلة الدقيقة، فيستعرض موقف الدول الأربع مما يسمي الناحية العسكرية بما تضم من استعدادات عسكرية، والقرب أو البعد من البلاد الحليفة والمؤيدة، وسهولة صلتها بها أو صعوبتها، وانشغال الدول المعتدية بالحرب في ميادين أخرى
فبين إيطاليا وروسيا كثير من وجوه الاتفاق، وبينهما أيضاً كثير من وجوه الاختلاف ولا يسعنا إلا أن نرجح فيها كفة اليونان؛ وبين فلندا واليونان كثير من وجوه الاتفاق والاختلاف أيضاً؛ ولكن الاختلاف في مصلحة اليونان أيضاً
فعدد سكان الروسيا 185 مليون، وعدد سكان فلندا ثلاثة ملايين؛ وعدد سكان إيطاليا 40 مليوناً وعدد سكان اليونان ثمانية ملايين. كانت الروسيا تحارب فلندا وحدها أما إيطاليا فتحارب إنجلترا في مصر وفي شرق أفريقيا، ثم اشتبكت بالحرب مع اليونان.
فلندا واليونان
حقيقة إن الروح المعنوية في فلندا كانت عالية، فباع جنودها أرواحهم بيع السماح، ووفقوا في أول أمرهم توفيقاً كبيراً وهو ما نرى مثيله عند اليونان وإن كانت اليونان تمتاز بعدد أوفر من الرجال تستطيع أن تضعه في ميدان القتال، فلا شك أن عدد المجندين الذين يمكن الانتفاع بهم في ثمانية ملايين يزيد على ضعفي العدد الذي يستطاع تقديمه من ثلاثة ملايين فقط وأن اليونان تمتاز - في وضعها الجغرافي - بميزة عظيمة، فميدانها قريب من الميدان الشرقي؛ ومواصلاتها معه سهلة لا تعترضها صعوبات تمنع من إمدادها بالمساعدات العسكرية السريعة، وتجهيز جيوشها الباسلة بالعتاد الحربي الذي كان نقصه السبب الأساسي في هزيمة فلندا التي تعذر إمدادها بالذخائر والجنود لصعوبة مواصلاتها مع إنجلترا، ولعدم وجود مرا فيء لها على بحر الشمال، ولمعارضة النرويج أثناء الحرب الفلندية في السماح للجنود المحالفة بالمرور في أرضها، فكانت هذه المعارضة وحدها عاملاً كافياً لحبس المساعدة عن فلندا
أما في اليونان، فالجزء الشرقي في البحر الأبيض المتوسط يقع تحت السيطرة الكاملة للأسطول البريطاني، ويقع في منتصفه تقريباً جزيرة كريت اليونانية التي احتلتها القوات البريطانية، واتخذت منها قواعد حربية لإفساد خطط إيطاليا، ولإمداد اليونان بما يستطاع تقدمه من الرجال والمعدات، وإذا كانت بريطانيا قصرت معونتها لليونان على المعونة البحرية والجوية الآن فالغرض من هذا الاحتفاظ بقوتها البرية في ميادين أكثر أهمية وهو الميدان المصري الذي يعتبر تعزيزه تهديداً قوياً يشتت شمل القوات الإيطالية ولا يسمح لها بتوجيه ضربتها الحاسمة إلى اليونان
من ألبانيا
وقع في إيطاليا صعوبة أخرى فهي تهاجم اليونان من ألبانيا، ونظرة واحدة في خريطة البحر الأبيض تبين الفاصل البحري بين إيطاليا وألبانيا، وتبين أن طريق الإمدادات الإيطالية يجب أن يعبر البحر، فيسهل على أسلحة الطيران تهديده من جزيرة كورفو أو من غيرها، فضلاً عما يحتاج إليه النقل البحري من وقت واستعداد يفوق النقل البري؛ أضف إلى ذلك أن ألبانيا من الدول المحتلة التي تسعى للخلاص من الفاشست، فإذا كان أهلها لا يستطيعون الثروة بضغط الحديد والنار، فإنهم يكفون يد المساعدة للقوات الإيطالية على الأقل
والحوادث العسكرية في اليونان تشابه إلى أمد بعيد مثيلتها في فلندا، ففي الحرب الفلندية أحرز الفلنديون عدة انتصارات حربية، وأوقعوا بالشيوعيين خسائر فادحة حتى أعجب العالم ببسالة ذلك الشعب الصغير، إلا أن الحظ أو الموقع الجغرافي للمدن السوفياتية لم يسعفهم بقدر ما أسعف زملاءهم اليونان، فلم يستيسر لهم الإحداق بمراكز الهجوم الروسية كما أتيح لليونان الإحداق بكوريتزا مركز الزحف الإيطالي
فإذا قدر لليونانيين الاستيلاء على هذه المدينة التي تقع في الميدان المتوسط للزحف الإيطالي تيسر لهم إحباط جانب كبير من خطط الغزو الإيطالي لبلادهم، أو وقفوا الزحف الإيطالي مدة طويلة وأنقذوا سالونيك التي تقع على إحدى الطرق المتفرعة من هذه المدينة كما يهددون طرق المواصلات الإيطالية في الجهتين الشمالية الممتدة إلى فلورينا في الجبهة الممتدة إلى الشاطيء في جبال أبيروس
ولو وفق الزحف الإيطالي في الوصول إلى سالونيك لتيسر له أن يشطر بلاد اليونان إلى قسمين ولأصبحت مقاطعة تراقية اليونانية لقمة سائغة سهلة الهضم، كما يتاح لإيطاليا الحصول على قواعد بحرية وجوية تعزز مركزها في جزر الدوديكانيز فتستطيع منهما أن تهدد القسم الشرقي من البحر الأبيض المتوسط وتسيطر على بحر أيجة بأجمعه وعلى منطقة المضايق
الصمت التركي
وأثبتت الساسة الترك في حوادث اليونان الأخيرة مبلغ خبرتهم كرجال عسكريين وساسة حكماء بابتعادهم الحالي عن الاشتراك الفعلي في الحرب مع ولائهم لقضية الديمقراطية والمدنية. فإن صمتهم الحالي أفعل وأجدى، وهم بصمتهم يقدمون إلى اليونان مساعدة أجل من مساعدتهم المادية فيكرهون طرف المحور الآخر (ألمانيا) على الوقوف موقف المتفرج
فلو تقدمت الجيوش التركية في تراقية لمساعدة اليونان لاستولت ألمانيا على بلغاريا ومنها تهاجم اليونان ومنطقة المضايق في الدردنيل والبسفور. إلا أن تركيا وفرت قوتها لفترة أكثر مناسبة فأصابت طائرين بحجر واحد، فصانت مصالحها أولاً، واضطرت ألمانيا إلى الانتظار وفوتت عليها فترة كانت ترجوها، حتى يتيسر لها الزحف إلى الشرق حيث منابع البترول في العراق وإيران، ثم تهديد قنال السويس
فاحتفاظ الجيوش التركية بمواقعها وانتظارها لخطط المحور الأصلية التي يستبعد - كما يرى بعض الساسة والعسكريين - أن تكون اليونان واحدة أساسية منها، ينذر بفشل تحقيق هذه الخطط. فالجندي التركي خبير ببلاده متمرن على وعورة أرضها ورداءة جو جبالها بعكس الجندي الألماني أو الإيطالي. أضف إلى ذلك ما يتكلفه اجتياز منطقة المضايق من أوربا التركية إلى أوربا الآسيوية من ضحايا عسكرية تزيد خطورة كلما زادت القوات الحامية لها في الاستعداد، وخصوصاً إن ألمانيا أو إيطاليا لا تملك القوات البحرية التي تستطيع أن تمهد للاستيلاء على هذه المناطق
وشعرت إيطاليا في الأسابيع الماضية بخطورة المقاومة اليونانية فغيرت القيادة هناك، ورأى القائد الجديد أن يسحب الجنود الإيطالية من مواقعها ليبدأ خطة جديدة تعيد لإيطاليا كرامتها العسكرية، وهذا يدل على مقدار الخسارة التي منيت بها الجيوش الإيطالية حتى أقتنع القائد فشل الخطط السابقة وفضل أن يبدأ حركاته من جديد دون أن يسيل لعابه من أجل المواقع التي تحتلها قواته
والخلاصة أن ظروف القتال في اليونان تختلف عن مثيلتها في فلندا وتبعث على التفاؤل أكثر مما تبعث على التشاؤم. وإذا كانت بريطانيا لم تمدها بالرجال فليس معنى هذا ضعف الأمل في نجاح اليونان بل ربما تجد القيادة البريطانية أنه سابق لأوانه الآن
فوزي الشتوي
بكالوريوس في الصحافة