الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 382/من ليالي الملاح التائه

مجلة الرسالة/العدد 382/من ليالي الملاح التائه

مجلة الرسالة - العدد 382
من ليالي الملاح التائه
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 28 - 10 - 1940


في مخبأ الفيشاوي. . .

جلست أنا وصديقي شاعر الجندول في قهوة (الفيشاوي) عشية يوم الأحد الماضي نحتسي أقداح الشاي العنبري الهنيء، بعد إفطار من طهو رمضان الدسم المريء؛ وكان الظلام قد هب يتموج لطيفاً بين المصابيح الزرق كأنه ظلال الأجنحة الخفاقة في جو بنفسجي قاتم، والحركات الهامدة والأصوات الخاشعة قد أخذت تتخلص رويداً رويداً من فترة الصيام وسكرة الطعام، فهي تنتعش في البيوت، وتنتشر في الشوارع، ويقبل الناس على المقاهي فيلقون ثقل بطونهم على مقاعدها ليعالجوها بالأفاويه المنبهة والأشربة الهاضمة. وكان صديقي الشاعر قد طفق بعد شايه يكركر في شقته الأعجمية وقد انمحى من خياله السباح جندول البندقية وخمرة الرين وبحيرة كومو، فلم يعد يشعر إلا بعطر الشرق وسحر الشرق ونور الشرق، وتراءت له من خلال ما يجلوه الحي الحسيني على عينيه من مختلف الأجناس والألوان والصور. بقايا الملك الإسلامي العظيم، ودلائل المجد العربي الخالد، فلم يتمالك أن قال في لهجة تنم على الأسى والأسف:

- يا ضيعة الشعر ويا ضلة الشاعر إذا لم يُسجَّل هذا الملك في ديوان، ويُخلَّد هذا المجد في ملحمة!

وكان شعوري في تلك اللحظة يجري مع شعوره من غير تنبيه ولا توجيه، فقلت له على الفور:

- لو أن شعراءنا في الماضي والحاضر قد خلصوا كما خلصت أنت الساعة من أنانية الفكر وفردية الشعور لوجدوا في حضارتنا الزاخرة وتاريخنا الحافل أفانين عجيبة من الشعر القصصي توحد شتات الهوى وتكمل نقص الأدب؛ ولكنهم كانوا وما زالوا ينقلون عن ذاتية غالبة وطبع أثِر. فالقصيدة عواطف الشاعر لا تكاد تخرج عن دخائل نفسه ومدارج حسه، والأغنية لواعج المغني فلا تعبر المعاني العامة ولا تهتف بالأماني المشتركة. ولعل ملاحك التائه يُرسيه القدر الهادي على شطئان الشرق الجميلة فيقبس من شمسها نور إيمانه وأمانه، ويأخذ عن إلهامها سحر أوزانه وألحانه!

غصت القهوة على عادتها في ليالي رمضان بالسامرين من كل لون ومن كل طبقة، وك القمر يضرب بأشعته الباردة الرخية في ضوء المصابيح الداخلية فيشعشعه ويقويه، والمذياع على جدار القهوة ينقل الأغاني المسئومة في فرقعة وصخب، والجالسون يتجادلون في السياسة أو يتحدثون في الأدب، والنّدُل يذهبون ويجيئون وألسنتهم لا تفتر عن ترديد عن هذه الجُمل: (واحد كشَري مظبوط. . . فلوسك يا محمود. . . أيوه حاضر. . . ِولْعَه لمين؟. . . واحد ساده، مستوى زيادة. . .)

وعلى حين فجأة سكت المذياع وانطلقت صفارات الإنذار تردد نعيقها المتقطع، فأطفئ النور، وأخذت الناس زلزلة من الفزع، فنهضوا وتجمعوا ودخل بعضهم في بعض كما تتداخل خراف القطيع إذا دهمتها العاصفة؛ ثم تدافعوا متدفقين في داخل القهوة وهي قبو مظلم مسلوك تحت بيت ضخم من البيوت القديمة؛ وعلى جانبي هذا القبو حجرات ضيقة من غير أبواب للخلوة أو للعب. فدخلت أنا وصديقي إحداها فوجدنا فيها شيخاً هادئاً يكركر، وشاباً مضطرباً يثرثر، وآخرين قد ألجمهم الذعر فهم في وجوم ذاهل. ثم أنصت الناس ونظروا، فلم يسمعوا رعداً يقعقع ولم يروا برقاً يلعلع، فتساير عنهم الخوف، وتذكروا أن القدر لا مفر منه، والقضاء لا حيلة فيه؛ فأخذوا يتنادرون على الصفارات والغارات، ويجددون ما أريق من الأكواب وأطفئ من الشياشات. والمصري أربط الناس جأشاً في الخطوب متى زايلته بوادر الجزع؛ لأن إذعانه لقضاء الله بكسر حدتها عنه، وأخذه المكاره بالمزاح يضعف أثرها فيه. وهو في ذلك كالإنجليزي، إلا أن ثبات المصري يرجع إلى حرارة يقينه، وثبات الإنجليزي يرجع إلى برودة طبعه: هذا يبلد ثم يجلد، وذاك يتفرق ثم يتماسك

ليت الذي صبغ وجوه المصابيح باللون الأزرق استطاع أن يصبغ به بوجه القمر! لقد كان أجدادنا القرويون يقولون: (لم يبق من ليالي الهناء غير ليالي البدر) فهل يصح هذا القول إذا قلناه اليوم؟ إن بزوغ القمر أمسى نذيراً بالغارة، ودليلاً للجارة إلى قتل الجارة. فمن يزعم الآن أن الليل لا يزال لباساً وأن الناس لا يزالون ناساً، فقد جهل أن العالم الحاضر يسوسه الشياطين، فهو يرتكس ليسقط، وينتكس ليموت!

قال لي صاحبي وقد أعلنت الصفارة بصوتها المتصل زوال الغارة الأولى: قم بنا نتلمس الطريق إلى مكان آخر نتنفس فيه من كربة الحر والحرب فقلت له وأنا أحبسه على كرسيه: هنا يا صديقي مخبأ هيأته لنا وقاية الله؛ فإذا تركناه وأدركتنا غارة أخرى فأين نختبئ؟

ليس في القاهرة ولا في غير القاهرة مخبأ حصين يعرفه الجالس في بيته أو السائر في طريقه. ولا أدري أي ضرب من ضروب الغفلة أطبق على مصلحة الوقاية المدنية فلم تقيم بإنشاء المخابئ الصالحة على وضعها الصحيح! هل أخذوا على الدهر عهداً بالأمان، أم حسبوا أن بضعة أخاديد في أمكنة متباعدة مجهولة تعصم سكان القاهرة وهم في المنازل أو في الطرق من شظايا القنابل؟

ليس من صالح الرأي يا صديقي أن تجهز قصور السراة ودور الحكومة بالمخابئ المسلحة المريحة؛ ثم يقال للشعب المسكين تبرع بالقروش لنشق لك لحوداً في ظاهرها الحمام المنقض، وفي باطنها الزحام المهلك! فقال لي الشاعر وهو يتمكن في مجلسه: إن سياسة الملاح التائه لا تزال هي سياسة الحكومة في كل أمر. فاسأل الله وحده أن يجعل لهذه الأمة مرفأ في كل عاصفة وملجأ من كل غارة!

أحمد حسن الزيات