مجلة الرسالة/العدد 382/الحديث ذو شجون
→ من ليالي الملاح التائه | مجلة الرسالة - العدد 382 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
في الاجتماع اللغوي ← |
بتاريخ: 28 - 10 - 1940 |
للدكتور زكي مبارك
الواقفون بالمرصاد - ما بيني وبين نفسي - طلعت حرب باشا
في ميادين الأدب والاقتصاد
الواقفون بالمرصاد
قرأت في (الرسالة) كلمة كريمة للأستاذ محمود غنيم دعا فيها كاتب هذه الأحاديث إلى الحذر من عواقب العنف والجُموح، لئلا يقع القلم في سقطة تشمت به الأعداء الواقفين بالمرصاد، وهو يرجو أن نخصص يوماً من أيام (الرسالة) نحدث فيه القراء بهدوء على نحو ما يكون النيل في غير أيام الطغيان؛ ثم استطرد فقسم قراءنا إلى فريقين: فريق عدو، وفريق صديق؛ ونص على أن الصديق لا يملك أن يقول فينا كلمة الثناء لئلا نتهمه بالتزلف، وأن العدو لا يستطيع مجاهرتنا العداوة لئلا نمسه بسنان القلم مسَّاً غير رفيق
والصورة التي قدمها الأستاذ محمود غنيم صورة صحيحة، ولا تحتمل المناقشة إلا من جانب واحد: هو القول بأننا قد نصم من يثنون علينا بوصمة التزلف، فما يسمح لنا أدب النفس بأن نتلقى كلمات الإعجاب بغير الحمد والثناء، وإنما ينهانا العقل عن استزادة المعجبين فراراً من أخطار الزهو والخُيلاء
وقد ترفق الأستاذ الزيات مرات كثيرة فدعاني إلى النظر فيما يرد إليه من كلمات الاستحسان لأقدم منها للنشر ما أريد، ثم نهاني الذوق عن الاستجابة لهذا الاقتراح النبيل، واكتفيت بالمرور عليه من وقت لأطلع على عواطف الأصدقاء من القراء، وهم بحد الله أكثر عدداً من أعدائي، وفيهم أفراد على جانب كبير شرف النفس وعظمة الروح
وإنما نصصت على هذا الفريق من القراء ليعرف بعض من أسكت عن كلماتهم الطيبات أنهم يخاطبون رجلاً وفياً، وأني أحفظ لهم في أعماق القلب أطيب الذكريات، وأن (الرسالة) لم تطو كلماتهم عن استهانة أو بخل، وإنما هو الواجب، الواجب الحازم الذي ينهانا عن الإصاخة لكلمات العطف والتشجيع
ثم ماذا؟ ثم ألتفت إلى الأعداء الواقفين بالمرصاد فأقول: لم أرزق من الغفلة ما أطمئن به إلى أني أعيش بلا خصوم وبلا أعداء، وكيف وحياتي كلها قامت فوق مخازن من البارود لو وقعت عليها شرارة واحدة من الخطأ لحولتني في مثل لمح البصر إلى رماد تذروه الرياح؟
فمن كان يريد أن ينتفع من تجارب الرجل الذي اكتوتْ يداه بنار الحياة الأدبية فليسمع هذا القول:
من الخطأ القبيح أن يعتمد الكاتب على ماضيه الجميل، وأن يتوهم أن القراء قد يذكرون حين يخطئ أن الحسنات يُذهبن السيئات، وأن الذي يُحلق ألف مرة قد يُغتفر له الإسفاف مرة أو مرتين
هيهات، هيهات، هيهات، فليس للقراء ذاكرة، وليس للقراء ميثاق
إنما يعرف القراء آخر مقال، فإن كان جيداً فالكاتب مجيد، وإن كان وسطاً فالكاتب ضعيف، وربما أضافوه إلى أهل الغثاثة والهزال
الكاتب يواجه ميدان السباق في كل وقت، وهو معرض في كل شوط للحكم له أو عليه. ولو كان الكاتب كالجواد لخف الأمر وهان، لأن السباق بين الجياد لا يحتاج فيه الحكم إلى ذكاء، فأغبى الناس يدرك بنظرة عابرة من السابق ومن المسبوق، ولا كذلك الحكم بين كاتب وكاتب، فهو يحتاج إلى ذوق وفطنة وذكاء، ولا يظفر الكاتب بقصب السبق إلا حين يكون له من اللوذعية ما يقهر به أهل الغرض واللجاجة والعتاد، وهو لا يصل إلى ذلك إلا بقوة قاهرة عاتية لا يفلح في صدها المكابرون إلا كما يفلح نجم الأرض في مسايرة نجم السماء
نحن أشقى الناس يا صديقي، لأن من حق كل مخلوق أن يحكم لنا أو علينا، وإن كان من مواليد العقد الثالث من القرن العشرين!
وحظنا يا صديقي حظ ممسوخ، لأنه معرض لانتقاص الممسوخين
وأعيذك أن تظن خيراً بسماحة الأقطاب من أهل البيان، فأولئك قوم يصعب عليهم أن تذكر بالجميل، لأنهم يتوهمون أنك تعتدي عليهم حين تقضي ليلك ونهارك في تزويد عقلك وذوقك بذخائر الأدب الرفيع.
وهل عانى أحد في دنيا الأدب مثل الذي عانيت؟ لقد انتزعت حظي من أنياب الحيات السود، فهو حظ مدوف بالسم زعاف، ولو استطاع قوم أن يتجاهلوا وجودي لفعلوا، ولكن كيف يستطيعون وقد ضيقت عليهم الخناق وقهرتهم على الاعتراف بأن العاقبة للصابرين على مكاره الجهاد
وهل كانت مكايدة الأعداء هي أصل النار التي يقذف بها قلمي؟
العدو الحق هو الغلطة المطبعية التي وقعت في سفر الوجود
وهذه الغلطة قد تسمى أوهاماً أو عادات أو تقاليد، ومن واجب القلم أن يصحح تلك الغلطة بلا ترفق ولا استبقاء
وأنا أصنع في محو تلك الغلطة مثل الذي كان يصنع يأجوج ومأجوج، فأنا أمحوها في كل يوم وهي ترجع إلى ما كانت عليه في كل يوم، ولكني سأنتصر ولو بعد حين، لأني أملك من الصبر واليقين ما لم يملك يأجوج ومأجوج
وهل يغيب عني أن كتاب (التصوف الإسلامي) سيزعزع أقواماً وخلائق في آمادٍ قصار أو طوال؟
أن وصل كتابي إلى سرائر المجتمع الإسلامي فسيغير ما يغير ويبدل ما يبدل، وهو سيعيش لأنه لم يخلق ليموت، وكيف يموت وهو مقدود من صخر الوجود؟
ما بيني وبين نفسي
ويقترح الأستاذ محمود غنيم أن يعني زكي مبارك بشرح صرائر زكي مبارك. وأجيب بأني أخاف من ذلك أشد الخوف، فما رجعت إلى نفسي مرةً إلى تهيبت اقتحام ما في شعابها من وعور وصخور وأشواك. وقد وقفت مرةً على ساحل النفس في ظلمات الليل فرأيتني عندها من الغرباء، وكيف لا أكون كذلك وأنا منها على بعد سحيق سحيق يُعدّ بالملايين من الأميال؟!
وقد حاولت الاقتراب من نفسي مرات كثيرة ولكن الخوف في كل مرة كان يشعرني بصدق الحكمة التي تقول: الرفيق قبل الطريق.
فأين الرفيق الذي أعتمد عليه في مواجهة لجج النفس وحولها عواصف وأنواء؟
الرفيق هو القارئ، ولكن أين القارئ الذي يفهم عنك ما تريد؟
كان لأسلافنا قراء، ولنا قراء، أما قراء الأسلاف فكانوا فئة قليلة تعد بالآحاد أو العشرات، وكان يندر جداً أن تصل إلى المئات، وكانت تلك الفئة القليلة هي عصارة العقلية العربية، فكان الكاتب أو الشاعر أو المؤلف يلقاها بلا تكلف ولا تصنع كما يلقي إخوانه الأصفياء، وكذلك كان الحال في أكثر الأمم الشرقية والغربية، ولهذا السبب وحده كانت الآداب القديمة أصدق وأروع، لأنها خلت من الزور والرياء
أما قرائنا فيعدون بالألوف وقد يصلون إلى الملايين، وفيهم الغبي والذكي والعدو والصديق، وفيهم من يطيب له أن يحمل أقوالك غرائب التفاسير والتأويل، فمن حدثك من كتاب هذا العصر وشعرائه ومؤلفيه أن يصدق كل الصدق فيما يكتب وما ينظم وما يؤلف فهو خادع أو مخدوع، إلا أن يصنع مثل الذي أصنع في إيثار الرمز والإيماء
وإليك هذا الشاهد الطريف:
في وزارة. . . موظف أديب هو الأستاذ فلان حفظه الله، ومن هذا الموظف الأديب علمت وعلم جمهور من الأدباء أن مطبعة الرسالة نقلت إلى المنصورة، ولن ترد إلى القاهرة إلا بعد انتهاء الحرب. فهل تعرف كيف أستقي ذلك الموظف (الأديب) هذا الخبر (الصحيح)؟
استقاه من (خواطر مهاجر) التي ينشرها أخونا الزيات في الرسالة من وقت إلى وقت كلما بدا له أن يسجل مشاهداته عن أهالي الريف وقد أنتقل إليهم للترويح عن النفس في أيام الصيف، وسيرجع إلى القاهرة مع هلال شوال
ولو كان هذا (الأديب) أديباً لعرف أن نقل مطبعة الرسالة من القاهرة إلى المنصورة عسير لأسباب كثيرة أيسرها تكاليف ذلك النقل، لأن نقل مطبعة مثل مطبعة الرسالة من مدينة إلى مدينة يتكلف نفقات لا تغيب عن ذهن ذلك الأديب
وما دام الحديث ذا شجون فأنا أذكر ما قصه علينا المرحوم (أبو شادي بك) في إحدى خطبه بالأزهر أيام الثورة المصرية سنة 1919؛ قال الخطيب رحمة الله:
(أردت أن أعرف إلى أي حد تجوز الخرافات على الناس فقلت صباح الأمس وأنا راكب بالترام إن الألمان قد أتوا بالأعاجيب في العالم الاختراع، ومن ذلك أنهم حفروا بئراً في المنطاد زِبلنْ لتغنيهم عن حمل الماء في الأسفار الطوال، فلما كان المساء رأيت الناس يتحدثون عن ذلك الأختراع في إحدى القهوات)
ذلك ما قصه علينا أبو شادي بك، فهل أستطيع القول بأني أعاني من بعض القراء لواعج هي أشد وقعاً من ذلك القصص الغريب؟
تصل إلى من يوم إلى يوم رسائل أفهم منها أن في القراء من يحرف كلامي أبشع التحريف، وهم في الواقع على حق، لأن مذهبي في الأدب يقوم على أصول من الرمز والإيماء، ولكن لا مفر من التصريح بجزعي من هذا المصير المخيف، فقد كنت أتوهم أني فررت من جماهير العوام حين تحصنت بمجلة الرسالة وقرائها خواص، لأنهم في الأغلب من الصفوة المختارة بين أبناء هذا الجيل، فإلى أين أفر إذا كان في أمثال هؤلاء القراء من ينتظر أن أقدم إليه كلاماً في وضوح الكلام الذي يقدم إلى قراء الجرائد اليومية؟
وهل قلت الرقابات حتى نحسب حساباً لرقابة القراء، وهم فيما تفترض أخوان أصفياء؟
حولنا رقابة المنافسين (وهم أكثر من الهم على القلب)؛ وحولنا رقابة المتجاهلين، ورقابة المتعالمين؛ وحولنا رقابة عنيفة جداً هي رقابة أعداء الأدب الصريح. وليس لنا أصدقاء غير القراء، فهل نيأس أيضاً من القراء؟
وإلى من نتوجه إذا يأسنا من قرائتنا، وإليهم نبث نجوانا بعبارات هي نجوى الحبيب إلى الحبيب في محضر الرقباء؟
ومن موجبات الأسى أني لا أستطيع السكوت بحال من الأحوال، ولا يمر يوم واحد بدون أن أخلو إلى قلمي ساعةً أو ساعتين، ولو كان أخوناً الزيات ينشر كل ما أقدم إليه لظفر الأدب بألوان كثيرة من الحلم والجهل واليقين والارتياب.
ولكن الزيات يرى أنه أعقل مني، وأنه يعرف من العواقب ما لا أعرف، وبذلك يستبيح التغافل عن بعض ما أكتب في بعض الأحايين، وهو يعرف كيف يوشي ذلك التغافل يوشي الترفق والتلطف، كما كان يصنع سعادة عبد القادر حمزة باشا يوم كان يهذب ما أرسل إليه من المقالات الجوامح وأنا في باريس
وفي ظلال الرقابة التي يفرضها المجتمع ويفرضها القراء الأوفياء يراد منا أن نصدق كل الصدق في جميع الظروف، فهل رأيتم مثل هذا التحكم العنيف؟!
وأنا مع ذلك سأنتقم - وقد انتقمت - من أهل زماني. سأتركهم في بلبلة فكرية لا تنجيهم من أهوالها صَفارة الأمان. سأتركهم في حيرة أقصى وأعنف من حيرتي حين أهم بمواجهة نفسي، ولن أموت إلا وقد أوقدت في صدر كل قارئ جذوة لا تخمد ولا تبيت. وتلك هي رسالتي الأدبية، فأنا موكل بتأريق الجفون وتأريث النفوس، ولن يرى مني الناس غير ما يروع ويوهل، فقد ابتلهم المقادير بقلم يقترب إلى الله لتوزيع الروع والهول على الأغنياء الآمنين!
أمثلي يُجزى بمثل الذي أتلقاه من بعض الناس من يوم إلى يوم، وما كنت في كل أدوار حياتي إلا نموذجاً من الصدق والأمانة والإخلاص؟
لبعض الناس الويل، وما أحب أزيد!
طلعت حرب
أخرج الأديب مصطفى كامل الفلكي كتاباً نفسياً عن طلعت حرب باشا، وهو كتاب يسجل أعمال ذلك الرجل العظيم في الميادين الاقتصادية بنزاهة وصدق. وهل يكذب الباحث حين يضيف ألوف الصفات الجميلة بلا تحقيق إلى طلعت حرب؟ أن كلمة (بطل الاستقلال الاقتصادي) هي أصغر كلمة يوصف بها ذلك المصلح الهائل الذي استطاع بالصبر والصدق والمثابرة أن يروض المصريين على الثقة بأنفسهم في ميادين الجد والكفاح والنضال. ولو أن طلعت حرب ظهر في ظروف غير هذه الظروف لكتب عنه الباحثون ألف كتاب، فهو أهل لكل تكريم وإعزاز وإجلال. وقد ينسى الشعب المصري كثيراً من الأسماء اللوامع، ولكنه لن ينسى أسم طلعت حرب، لأن أسم هذا الرجل أعظم وأخطر من أن يجوز عليه النسيان
كتاب الأديب مصطفى كامل الفلكي عن طلعت حرب كتاب نفيس، وهو يمثِّل حرص الشباب على تأثر خطوات ذلك الزعيم الحصيف، ولكن ذلك الكتاب لا يصور من طلعت حرب إلا ناحية واحدة هي الناحية الأقتصادية، وإلا فأين طلعت حرب الأديب والمفكر والمصلح الذي كانت له مواقف في مخاصمة قاسم أمين والاهتمام بمصير قناة السويس؟
وهل صور هذا الكتاب جهود طلعت حرب في إنهاض (الجمعية الخيرية الإسلامية)؟
هل صور هذا الكتاب جهاد طلعت حرب في إعزاز الشخصية الأدبية؟
أن كتاب الأديب مصطفى كامل الفلكي على نفاسته قد أغفل هذه الجوانب، فهل يعود إلى ترجمة طلعت حرب من جديد لنعرف كيف يصير الأديب رجل عمل واقتصاد؟
هنا المشكلة الحقيقية وهي درس الصلة بين الأدب والمعاش، فأين من يفهمنا كيف صار طلعت حرب الأديب طلعت حرب الاقتصادي؟ وأين من يفهمنا كيف جاز أن ينتقل الرجل من نقد الألفاظ إلى نقد الأموال؟
زكي مبارك