مجلة الرسالة/العدد 382/محاورة أفلاطون الخيالية
→ بعد الفاجعة | مجلة الرسالة - العدد 382 محاورة أفلاطون الخيالية [[مؤلف:|]] |
سيجموند فرويد ← |
بتاريخ: 28 - 10 - 1940 |
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
- 2 -
المحاورة بين أفلاطون وأحد المربين الإنجليز. ولقد أسفرت
في المقالة السابقة عن أن التربية الإنجليزية إنما تعد الفرد
ليشترك في انتخاب الحكومة الديمقراطية التي يكونها الشعب
لخدمة الشعب، وليساهم في حكم الأمة، وتسيير شؤونها
الداخلية والخارجية. غير أن أفلاطون يتساءل كيف يتمكن
أفراد الشعب، بما هم عليه من تربية محدودة، وخبرة في
الحكم وسياسة ناقصة، أن يوجهوا سياسة الحكومة وأن يشرفوا
على نظام الحكم، فهذا التوجيه والأشراف لا يقوى عليه إلا
الفيلسوف. وكان آخر سؤال وجهه أفلاطون للمربي هو: لقد
كنت أنك تريد أن تكون فرص التربية والتعليم سواء لجميع
أفراد الشعب، فما الذي تريد أن تصل إليه بهذا كله؟
المربي: المسألة مسألة مبدأ العدالة العامة التي تقضي بأن يتاح لكل أطفال المجتمع على السواء جميع الفرص الممكنة في التربية، لا فرق بين غني وفقير
أفلاطون: أي الفرص تعني؟
المربي: الفرص التي تمكن الطفل من تنمية مواهبه وقواه الطبيعية إلى أقصى حد ممكن.
الفرص التي تفسح له طريق التعليم الجامعي أن كان عنده الاستعداد العقلي لذلك
أفلاطون: واضح كل هذا. أنت تريد تعطي كل فرد في المجتمع مجالاً ليتعلم، وليتخذ المهنة التي يصلح لها بمواهبه الفطرية، وتقصر التعليم الجامعي على ذوي الاستعداد العقلي، والذين يمكنهم الإفادة منه؟
المربي: أجل هذه هي غايتنا. وقد استطعنا - بوضع هذه الغاية نصب أعيننا - أن نبني نظام التربية في بلادنا على شكل هرمي؛ يكون التعليم الأولى قاعدته؛ وعليها يرتكز التعليم الثانوي، أما التعليم الجامعي العالي فيكون القمة
أفلاطون: وهل تُعُدُّون الذين لم ينالوا التعليم الجامعي كاملي التربية؟
المربي: لا أظن ذلك
أفلاطون: فكيف إذا يجوز لكم أن تخولوا هذا الذي لم يُتْمم التعليم الجامعي أن ينتخب الممثل النيابي، وأن يكون له رأي في شئون الأمة وسياستها، على حين أنك أنت تقرر أنه غير قادر على ذلك؟ فإذا كان السواد الأعظم من النشء لا يعدو مرحلة التعليم الأولي والثانوي، ولا ينال أي حظٍ من التعليم الجامعي فإنه من البين أن هذا الشعب الذي يمثله سواده الأعظم يجب ألا يتحمل أمانة الحكم الثقيلة ويجب أن يترك سلطة الحكم والسياسة في أيدي من ينجحون بتفوق في الامتحانات الجامعية من الرجال والنساء
المربي: حقاً إن هذا لصحيح من الناحية النظرية، غير أنا - معشر الإنجليز - لا نعتقد أن الدرجات العلمية والجامعية هي المؤهلات الوحيدة لتحمل أمانة الحكم وتبعة السياسة. والواقع أننا نجد معظم الجامعيين من الأساتذة والعلماء على نصيب قليل من الدربة السياسية، والدراية بطرق الحكم، إذا قسناهم بهؤلاء الذين تخرجوا في جامعة الحياة اليومية
أفلاطون: إذا كنتم تعتقدون في جامعة الحياة اليومية وإعدادها، فلماذا إذا أسستم الجامعات، ولم تتركوا الأمر للعناية السماوية أو لظروف الحياة (أيهما تختار) لإعداد حكامكم وتكوينهم؟ وإذا كنتم لا تعتقدون أن التربية تستطيع أن تنشئ الفرد وتسويه وتخلق منه شخصاً آخر أصلح من ذي قبل لمهنته في الحياة، سواء أكانت الصِّرافة أم التجارة أم الحكم، إذا كنتم لا تعتقدون هذا فنصيحتي لكم أن تضربوا بمشروعات التربية عرض الحائط، وأن تتركوا الأمر لظروف الحياة والقدر المربي: يظهر أنه من المستحيل على أن أبحث أمور التربية مع رجل مثلك يضحي بأية فكرة في سبيل صحة القضايا المنطقية. إن نظام التربية عندنا في إنجلترا ليس منطقياً، لأنه نما نمواً تاريخياً على أسس رسخ أصلها في الماضي. فهو مملوء بالمتناقضات والغموض، لا لسبب إلا لأنه نشأ وتطور بحسب الحاجة والمناسبات المختلفة المعقدة. فليس نظام التربية عندنا من صنع أفراد مستبدين
أفلاطون: إن ما تقول لجائز. ولكن يجب أن تكون ثمة مبادئ ثابتة تسيرون عليها في إصلاحاتكم التعليمية، ومناهجكم التربوية، وحين تقررون خطوات الإصلاح الاجتماعي. هذه المبادئ الثابتة هي التي أحاول استيضاحها الآن في محاورتنا هذه. إن صحة المنطق واستقامته ليستا عيباً حتى ولو كان محاوري إنجليزياً! وإنني أعتقد أن عدم استطاعتك أن تجيب عن أسئلتي البسيطة دليل على عدم وضوح غايات التربية عندكم. فبالرغم من أنكم لن تقرروا بعدُ لمَ يربَّي الشعب ولم يُعلَّم، أراكم دائبين على افتتاح مدارس جديدة، ومطالبين البرلمان بمد أجل التعليم الإجباري إلى الخامسة عشرة بدلاً من الرابعة عشرة
دعني إذا أشرح لك الأمر بوضوح أكثر. هناك نوع من التربية يسمى التربية المهنية أو الفنية، أليس كذلك؟ ونعني بهذه التربية إعداد الفرد لمهنة خاصة أو حرفة
المربي: نعم
أفلاطون: وكنتيجة لهذه المقدمة المنطقية أعتقد أنه من الممكن أن تحكم على كل أنواع التربية بأنها فنية مهنية، لأن كل إنسان لا يخلو من أن يكون صالحاً بطبيعته لمهنة من المهن التي يمكن أن يتعلمها ويحذقها بالتربية؛ فالمزارع يمكن أن يتعلم الزراعة، والبناء يمكن أن يتعلم البناية وهكذا. وقد اعترفت أنت في حديثك أن الحكم مهنة من المهن، أفلا يكون من المعقول أن يوجد نوع من التربية بمكن الفرد من التمرن على فن الحكم وإجادته؟ فما رأيك؟
المربي: ربما
أفلاطون: إنني أعتبر (ربما) هذه دليلاً على أن ناحية التعقل عندك - لو لم يشبها التحيز والتعصب للرأي - تميل إلى قبول وجهة نظري. وما دمت توافق على أن هناك نوعاً من التربية، أو بعبارة أخرى أضبط يمكن أن يوجد نوع من التربية يعد طبقة الحكام ويكونهم، فدعنا نشرح الآن في بحث ما إذا كانت التربية الجامعية قادرة على إعداد هذه الطبقة من الحكام، أموافق؟
المربي: أظن أنك تتوقع مني الإجابة (بنعم) ما دامت نظريتك هذه مبنية على المبادئ التي في (الجمهورية)
أفلاطون: لقد سررت كثيراً حينما عرفت أن التعليم الجامعي عندكم يشمل ناحتين: ناحية البحث العلمي الحر، وناحية الثقافة العامة، وحينما وجدت أنكم في الجامعات تعتنون بالمسائل المعنوية النظرية كجزء ضروري في التعليم الصحيح، ولكني أسفت حينما سمعتك تقول: إن خريجي الجامعات لا يعتبرون عندنا ساسة قديرين، ولعل السبب في هذا هو أن معظم الشبان الذين يدرسون في جامعاتكم لا يهمهم أن يعدوا أنفسهم لمهنة السياسة والحكم، ولكنهم يعدون أنفسهم لمهنة تجارية أو صناعية أو كتابية، يستطعيون بها كسب قوتهم ومعاشهم. فإذا كان الأمر كذلك فإن جامعاتكم لا تحتفظ بتلك المبادئ التي قررتها أنا في أكادميَّ ولكنها قد أصبحت مدارس فنية عليا لإنتاج الصناع وذوي المهن المهرة، الذين يظلون دائماً بعيدين عن ميدان السياسة والحكم، ذوي المهن الذين همهم محصور في الطاحونة أو دواوين أعمالهم، ولا يعنيهم من أمر السياسة الدولية العليا وشئونها شيء
المربي: ربما يكون صحيحاً أن جامعاتنا قد أصبحت مدارس فنية عليا، لأننا لا نعتبرها مجرد معاهد لتخريج الساسة ورجال الحكم. كما أننا لا نحظر الالتحاق بها على أي فرد - رجلاً كان أو امرأة - عنده الاستعداد للبحث العلمي، أو يريد ثقافة عامة. إننا نريد أن يكون لكل فرد يلتحق بالجامعة حرية اختيار المادة التي يتعلمها والمنهاج الذي يتخذه، لا أن نزج بهم جميعاً في حلبة السياسة
أفلاطون: أفهم من حديثك هذا أنكم واثقون بساستكم الحاليين مطمئنون إلى خططهم، وإلا لما كنتم تتركون أبناءكم يختار كل منهم منهاج الدراسة الذي يريده. ونتيجة هذا هي أن خيرة أبنائكم ذكاء قد أقبلوا على دراسة ما يميلون إليه، وانصرفوا عن تحمل تبعات الحياة التي يفرضها عليهم ذكائهم، فنراهم مغرمين بمزاولة أشياء لا أثر لها في تقدم مصلحة الشعب العامة
المربي: يخيل إلي أن فكرتك عن أهمية رجال السياسة ضخمة ضخامة الطبل. إن الدولة لا يقبض على زمام شئونها ويسيرها رجال السياسة وإنما أمور الدولة في أيدي الموظفين ورجال الدواوين والإدارة، وأصحاب الصناعات والتجارة. هؤلاء هم ذوو الخطر والشأن في أمور الدولة. أما رجال السياسة فمعظمهم كخطباء المسارح يقولون ما لا يفعلون
أفلاطون: الحقيقة أن الأمر تشابه علي، ولست أدري أين أنا من رأيك. إنكم لا تنتخبون رجال الإدارة أو الموظفين ورجال الدواوين، ولا تنتخبون الصناع والتجار ورجال الأعمال، أتنتخبونهم!؟
المربي: كلا، لا يحدث هذا
أفلاطون: ومع هذا تقول لي أن هؤلاء الرجال هم ذوو الشأن والخطر في نظام حكمكم الديمقراطي، وإن السياسيين ما هم إلا خطباء مسارح! فإذا كان الأمر كما تقول فكيف تزعمون أنكم تتمتعون بالحرية السياسية، وأن لكم إشرافاً على شئون الدولة وأمور السياسة؟ يجب أن أعترف بمعجزي عن فهم هذا الموضوع! كأني بك تقرر أن مؤسساتكم الديمقراطية، ومجالسكم النيابية ما هي إلا صورة ومظهر فقط، ولكن من ورائها يعمل رجال الدواوين والإدارة بحكمة وجد. إنني أعتقد بوجاهة هذا النظام، وأرى الآن كيف أن التربية عندكم لا ترمي لإعداد الساسة والحكام، ولكن لتخريج الكفايات - من الرجال والنساء - القادرة على أداء مهمتها ووظيفتها بإخلاص تحدوها المصلحة العامة، مصلحة الشعب. فإذا كان الأمر هكذا فلتعلنه بصراحة، ولُتلغ ما ذكرته من أن التربية عندكم إن هي إلا تجربة في الحكم الذاتي للشعب، لأن من الواضح أنه ما دامت التربية هي إعداد الأفراد للمهن المختلفة والوظائف التي يصلحون لها، فأنواع التربية تختلف حتماً باختلاف الإعداد
المربي: نعم، الأمر كذلك.
(يتبع - بخت الرضا. السودان)
عبد العزيز عبد المجيد