مجلة الرسالة/العدد 382/سيجموند فرويد
→ محاورة أفلاطون الخيالية | مجلة الرسالة - العدد 382 سيجموند فرويد [[مؤلف:|]] |
ليالي الملاح التائه ← |
بتاريخ: 28 - 10 - 1940 |
العالم النفساني الكبير
للأستاذ صديق شيبوب
- 4 -
تعتبر الغرزية الجنسية أساساً لنظريات (فرويد) في علم النفس وقد كان أول من تجرأ على القول بأنها أهم القوى الفعالة في النفس
كانت الأجيال السابقة تعرف مدى انفعالات النفس بتأثير الغريزة، ولكنها كانت تضرب صفحاً عن ذكرها أو الإشارة إليها مراعاة للقوانين والأخلاق. وقد ساعدت الديانات والحكومات، على اختلاف أنواعها وأشكالها، على ضبط جماح الغرائز الأولية فلم يشذ هذا الإجماع إلا القليل
حاربت النصرانية شهوات الجسم بشهوات العقل والروح، وجعلت من تحقيق رغبات هذه الشهوات الأخيرة مثلاً أعلى في الحياة، وأوجدت وسائل تختلف قسوة وليناً للتغلب على الغرزية الجنسية، وكان بعض هذه الوسائل جسمياً وبعضها الآخر عقلياً، وهو حل قائم على العقل والمنطق، لأن الأخلاق برزت في شكل مادي قائم على فكرة تتصل بما وراء المادة. على أن هذا الحل ظهر غير فعال تماماً لأنه لم يشف الإنسانية من الغريزة الجنسية ولم يحل دون بروزها مسيطرة على الجسم والنفس معاً
أما الشرائع الوضعية فقد اختلفت عن الشرائع السماوية بأنها لم تحتم على الفرد أن يخضع للأخلاق في نفسه وضميره بل أقرت المجتمع على مظاهر أخلاقية متواضع عليها ولم تطالب الفرد بمراعاة الأخلاق إلا في المظهر فقط
أما القرن التاسع عشر، وهو عصر الاكتشافات الخطيرة والاختراعات الهامة والمذاهب المستحدثة التي غيرت مجرى العقل والذوق في شتى أنواع الفنون ومختلف أساليب الفلسفة والعلم، فقد حارب الغرزية الجنسية بطريقة سلبية لأن كبار مفكريه تواطئوا على إهمال وإغفال ذكرها أو الإشارة إليها، فلم يؤيدوا وجودها ولم ينفوه ولم يبحثوا في أثرها
لم يقتصر هذا الإجماع على العلماء المفكرين بل تناول الأطباء الذين أبو توجيه بحوثه شطرها في معالجة مرضاهم واكتفوا بمعالجة الأمراض العقلية. بالوسائل الطبية المعروفة لديهم أو بإرسال مرضاهم إلى مستشفى الأمراض العقلية
على أنه عند ما أشرف القرن التاسع عشر على الزوال قام الطبيب الشاب (فرويد) يتحدث عن كبت الغريزة الجنسية وإمكان شفاء الأمراض العصبية، معتمداً في ذلك على الأبحاث التي أجراها في داء الهستريا؛ وأخذ يقرر أن أكثر الأمراض العصبية - إن لم يكن كلها - ناتج عن ذلك الكبت. فثار به أساتذة الجامعة، ونصحه أصدقاؤه بأن يتحول عن هذه الأبحاث التي لا ترجى فائدة منها والتي تتناول مسألة دقيقة من الخير أن تظل طي الكتمان
على أن (فرويد) تجاوز عن هذا النصح وسار في أبحاثه إلى أقصى حد؛ فاصطدم بمعارضيه واحتدم الجدل بين الفريقين الذين تتمثل فيهما طريقتان متباينتان لا سبيل إلى التوفيق بينهما؛ يتمثل في أحدهما علم النفس في أسلوبه القديم يحده مثل أعلى قائم على تغلب العقل على الغريزة في الفرد المتمدين المثقف، ويتمثل في الفريق الآخر فكرة مستحدثة تقرر أن الغرائز لا تقهر، وأنه من العبث أن نفرض أنها إذا كبح جماحها اندحرت واختفت إلى غير رجعة، لأن أقصى ما نستطيعه إزالتها من العقل الواعي وكبتها في غير الواعي؛ فإذا تجمعت في أعماق النفس اختمرت وأحدثت قلقاً واضطرابياً في الأعصاب لا يلبث أن يتحول إلى داء عضال!
يقول فرويد: إن الشهوة بمعناها العام أول نسمة بتنفسها الفرد في حياته النفسية، فهي للنفس كالطعام للجسم، والنفس تصبوا أبداً للوصول إلى اللذة، وهو ما يسميه (ليبيدو) الذي أطلق عليه بعض كتابنا لفظة (اللبيد) ومعناها الطموح إلى اللذة رغم كل العقبات، وهو طموح يملي على الإنسان كل أعماله
ولم تكن غاية (اللبيد) واضحة حتى أكتشف فرويد أن معناه التفريج عن الغريزة الجنسية. على أنه قرر بعد ذلك أن القوى النفسية تتحول عن مراكزها، وأن اللبيد لا يقتصر على الصلات الجنسية لأنه يمثل قوة هوجاء تطلب الظهور والبروز، كوتر القوس المشدود المستعد أبداً لإنفاذ السهم، أو السيل الجارف الذي لا يدري أين مصبه، فقد يظهر اللبيد في الصلات الطبيعية، وقد يتحرر من قيود الجسم فيسمو إلى النفس ويظهر في مناطق رفيعة كالفنون الرفيعة أو الدين أو الفلسفة. وقد يصدف عن هذه الغاية أو تلك فيتيه في مجاهل العالم أو يتمركز في أشياء غريبة أثرت في غريزة الفرد منذ صباه، وقد ينحط إلى أسفل دركات البهيمة وقد يرقى إلى أسمى الغايات. وهكذا تختلف أشكال اللبيد ومظاهره، ولكن غايته تظل واحدة ترمي إلى ري صدا النفس الطموحة إلى اللذة، وهي غاية أصيلة فيه عالقة به
هنا يظهر التجديد في الآراء التي أقرها فرويد
كان علم النفس من قبله يجهل أن قوى النفس تتبدل وأن مراكزها تتحول، وكان يخلط بين المسائل الجنسية وبين أعضاء جسم الإنسان، ففصل فرويد بين هذه وتلك ودلل على تحول مراكز قوى النفس
وكان علماء التحليل النفسي يقررون أن المسائل الجنسية التي تسبب اضطراباً في الأعصاب ترجع إلى عهد قديم، وقد كان من الطبيعي أن يبحث عن هذه المسائل صعداً في حياة الإنسان إلى سن المراهقة، ولكن فرويد اهتدى إلى أن من الخير ألا يقف البحث عند هذا الطور من حياة الإنسان، بل يتعداه إلى الطفولة
وقد برهن فرويد على أن اللبيد أصيل في نفس الطفل بالرغم من أنه يجهل الحياة التناسلية، ثم ذهب ألب أبعد من ذلك فقرر أنه إذا كان للطفل حياة تناسلية فإن الحياة لا تستطيع أن تكون قويمة، بل إنها خبيثة، ولكنها تعمل في الذات غير الواعية بحيث يرضع الطفل كل اللذة من أثداء العالم
ثم تدرج فرويد في دراسة الفرد من الطفولة إلى المراهقة إلى الرجولة، فلاحظ أن حفظ الجنس يدفع الأفراد إلى المراهقة إلى الرجولة، فلاحظ أن حفظ الجنس يدفع الأفراد إلى مجرى طبيعي إذا سارت حياتهم على وتيرة متساوقة. أما إذا أعتورتها حالات خاصة ظهر الشذوذ الخلقي والتناسلي
وقد درس بعض هذا الشذوذ في حياة مشاهير الرجال فانتهى من دراسته إلى أن الاضطراب النفسي ينتج عامة عن تجارب شخصية تناسلية، وأن ما نسميه طبيعة ووراثة ليس سوى حوادث جرت في الأجيال السابقة وأثرت في الأعصاب. وهكذا وجد أن كل حادث - في نظر علم تحليل النفس - عامل حاسم في تكوين النفس، وقرر أنه يجب بحث ماضي كل فرد للوصول إلى فهم حياته، وأن العلل النفسية والعصبية فردية لا وجه للشبه بينها وبين أمثالها في شخص آخر غير المصاب بها
وقد تفرعت عن هذه الأبحاث نظريات عدة في شذوذ الأخلاق وتفصيله إلى مراتب ودرجات يضيق مجال البحث دون استيعابها
وجملة القول أنه يتضح من مذهب (فرويد) أن كل شهوات النفس الأمارة بالسوء، ونوازعها التي حاربتها الإنسانية بشتى الأسلحة الأخلاقية والثقافية لا تزال أصيلة في النفس، وأننا نحمل في دمنا غرائز عصور الهمجية الأولى حين لم يكن للقوانين والأخلاق وجود، وأننا مهما بذلنا من جهد في سبيل إبعاد الغرائز عن ميدان عمل العقل الواعي، فإن هذا العقل لا يستطيع أن يتخلص منها تماماً ولا غرابة إذا كثر نقاد هذه النظرية (المعادية للمدنية) كما قالوا، لأنها أقامت الغريزة الجنسية أساساً لسائر نواحي الحياة، وجعلت اللبيد قوة لا تقهر
يقول (ستيفان زويج) في كتابه القيم عن (فرويد) وهو الكتاب الذي اعتمدنا عليه في أكثر فصول هذا البحث: إن (فرويد) لم يقل إن نظريته عامة وإن اللبيد أو الغريزة الجنسية هما العاملان الوحيدان اللذان يحركان الفرد ويمليان عليه أعماله ومآتيه بل إنه قرر أن هناك غرائز أخرى تستولي على الفرد وتعمل في عقله الباطن مثل غريزة الموت وغريزة الذات ولكنه يؤخذ على (فرويد) أنه لم يسهب في شرح نظرية الغرائز الأخرى كما فعل في شرح غريزة اللذة، فجاءت مبهمة قلقة
ولاشك أن النقد الذي وجه إلى (فرويد) صحيح من حيث أنه بوأ غريزة اللذة مقاماً أسمى مما يجب وأبرزها كقوة لا تقهر وحط من قدر المدنية والشرائع ومقدرتهما على محاربتها
(للبحث صلة)
صديق شيبوب