مجلة الرسالة/العدد 379/بين مصر والعراق
→ بمناسبة العودة المدرسية | مجلة الرسالة - العدد 379 بين مصر والعراق [[مؤلف:|]] |
كلمة في القرآن ← |
بتاريخ: 07 - 10 - 1940 |
للأستاذ محمد أبو بكر إبراهيم
مما استرعى نظري في نسخة من جريدة الهدف العراقية صورة شمسية تهول وتروع للدكتور زكي مبارك، وما كدت أقرأ بضعة أسطر فيها حتى بان لي أن العدد كله قد خصص لتكريم الدكتور والاحتفاء به والإشادة بفلسفته وعلمه، فانطلقت ألسنة الأدباء العراقيين بالثناء عليه، وانبرت أقلامهم لتسجيل أدبه، وحفظ أثره، ووصف براعته في الكتابة التي تساوق براعته في الشعر.
وإنها لمدحة حقة صادفت أهلها، وحلت محلها، وجاءت تخليداً للمحمدة الباقية التي تفضلت الحكومة العراقية فأسبغتها عليه، إذ أكرمته بوسام الرافدين تقديراً لمجهوده، ومعرفة لمعروفه
وإن عرفان الجميل، وتقدير أعمال العاملين، وإعطاء الحق لمستحقيه، لهى فضائل طيبة عزّ وجودها في هذا الزمان الذي ابيضت عينه، وغاض معينه، وقل خيره، وكثر شره وضيره، وأغمطت فيه الحقوق، واشتد به بلاء العقوق، ولكن إخواننا العراقيين قد رفعوا فيه لواء هذه الفضائل، وتحلوا بحللها وحلاها وتلك بعض مناقبهم الغراء، وشيمهم الشماء.
وليس بمستغرب أن يشغف الدكتور بالعراق حبّاً؛ وأن يولع بالعراقيين وآثارهم وأخبارهم وأيامهم وتواريخهم وسائر أحوالهم فإن ميله إليهم قد خالط منه اللحم والدم، وأصبح جزءاً من عاطفته وضرباً من تعصّبه وشطراً من فطرته ولوناً من غذائه الروحاني ومقومه النفساني.
فهو حينما يخطر بباله خاطر عنهم - وما أكثر توارد هذه الخواطر الملحّة على ذهنه - تراه يتهلّل بشراً، ويسترسل في الحديث عن مفاخرهم ومآثرهم استرسالاً يأسر انتباه السامعين ويملك لبّهم، لحلاوة الأسلوب وحسن الأداء ولطف القول؛ ويجذب نفوسهم بما في حديثه من الطرائف والطرف، والروائع والتحف وكل ما يستهوي ويستميل.
وما أكثر المصغين من المعجبين ببلاد العراق الذين يشعرون بمثل ما يشعر به الدكتور من تقدير لها وميل نحوها، ويحسّون مثل ما يحسّه قبلها من عواطف نبيلة واتجاهات شريفة.
ولا ريب أن المودّة والمحبة والرغبة الصادقة المتبادلة بين الأقطار الشرقية لتزداد قوة على ممرّ الأيام وكرّ الأعوام، فتصل بين أطرافها، وتربط بين أنحائها، وتوثق العلاقة بينها من أقصاها إلى أقصاها، إلى أن تجعل منها وحدة متماسكة الأجزاء لا انفصام لها ولا انفصال، فإن روابط الجنس واللغة والدين قد صيّرت الممالك الشرقية توائم، بل وطناً واحداً محبباً إلى كل النفوس هنا وهناك، وقد تنبهت أممنا إلى هذا الترابط، فأخذت تفكر فيما كان عليه السلف من علوم وثقافة ومعارف لإحيائها وبعثها من جديد في صورة شرقية غربية سليمة، وإن تعاون الأدباء في العصر الحاضر على نشر هذه الثقافات ليبشر بمستقبل جديد باهر تصفو فيه الحياة الروحية من شوائب الغربيين ولوثات المحدثين المارقين.
فإن التخلص من البدع الزائفة التي دخلت في عقائدنا وأعمالنا وتصرفاتنا وتقاليدنا وسائر أحوالنا لمن أهم ما يجب البدء به في هذا الإصلاح الذي ينشدونه للأمم الشرقية، إذ يرجع بنا - نحن الشرقيين - إلى الأصول الأولى الحقة المبرأة من كل زيف، ومن كل مستحدث من البدع والتقاليد الضارة، وبذلك تتحد وجهات الأنظار وتتفق مسارح الأفكار؛ وتقوى أممنا بالاتحاد في الحق والائتلاف في الفضيلة، وتخرج من التطور الفاسد إلى التطور الصالح المؤسس على الفضيلة والحق؛ فتجتمع القلوب بحكم الطبيعة، وتتوحد الغابات، وتتبين المثل العالية، والأهداف البعيدة الرفيعة.
وما أحوجنا إلى من ينهض بالشرق نهضات أدبية وخلقية واجتماعية، بعد أن تناثرت أجزاؤه، واضمحلت هيئته، وضعف التئامه وقد كاد يتداعى للانحلال.
أدرك هذه الحال رجال من العلماء المثقفين والأدباء المخلصين فأخذوا في هذه الأيام يجاهدون بأقلامهم وقلوبهم ونفوسهم في سبيل الدعوة إلى اتحاد الشرق ليكون جسماً واحداً هائلاً كبيراً، قوي البينة، سليم الهيئة، تتعاون أعضاؤه، وتلتحم أجزاؤه.
وكم بذلوا من وقت ومال، وعلم مذخور، في صون حقوقه وحفظ ملته وحياته من الضياع، فصوبوا معاولهم الأصول الفاسدة لهدمها وتقويضها، وأكثروا من الكتابة في المجلات والصحف لتأسيس الأصول الصالحة للمدنية القوية النافعة، وتعهدوها بآرائهم وفلسفتهم وجهادهم حتى تكون كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
وكم أنحوا على المقلدين للغربيين تقليداً طائشاً لا نفع فيه، وعابوا عليهم انتحالهم أطوار الأوربيون التي لا تتلاءم مع الأوضاع الشرقية، ولا تتناسب مع الحياة الإسلامية، حتى كادت تجعل حياة الشرقيين وعاداتهم خليطاً من القشور ومزيجاً من المظاهر الخلابة التي لم تخلق لنا ولم نخلق لها، وما كانت لتوائم طبيعتنا، أو توافق أذواقنا؛ لأنها إنما نقلت إلينا نقلاً فيه تعسف كما ينقل النبات قسراً من بيئة يجود فيها ويترعرع، إلى بيئة أخرى لا تلائمه ولا تعينه على النمو والنضارة، فلا يلبث أن يكون حطاماً لا خير فيه، وحطباً لا حياة به، وهشيماً تذروه الرياح.
فأهابوا بالشرقيين أن يأخذوا بأسباب النهضات القديمة، وأن يقتدوا بالسلف في صدر الإسلام وفي العصور الأولى الزاهرة، وأن يستمدوا من أدبهم ومعارفهم وثقافتهم ما يقربهم إلى الخير، ويبعدهم عن الضير، فكان لهذا الجهاد شيء من الأثر الطيب في إزالة بعض الحواجز القائمة بين شعوب الشرق، والقضاء على بعض الحجب الكثيفة الحائلة بين أممه والحق، والتي خلقها خلفاً أولئك الذين يمجدون حضارة الغرب، وينتقصون أعمال الشرق فكانوا نكبة على بلادهم، ومنافذ فيها يدخل منها الأعداء إليها؛ لأنهم وأمثالهم شؤم على أبناء أمتهم يمهدون السبيل ويفتتحون الأبواب لأرباب الغابات والمطامع والحضارات الفاسدة، ومن آيات الجهاد تلك النزعة الجديدة القوية التي ترمي إلى إظهار الحضارة الشرقية - وهي أصل الحضارات كلها - لتبرز للوجود، وتحل في الميدان، فلا تلبث الفوارق أن تضمحل، وتتابع الكوارث، ونزول المصائب والأهوال، وهي التي أوجدت في الشرق يقظة ظاهرة، وربطت أفراده بوشاح متينة لا تقل في قوتها عما بينهم من روابط النسب والجنس والدين واللغة والإنسانية، وبعثت فيهم روح المقاومة لدفع ما هو باطل، ومحو ما هو فاسد، وجعلتهم لا يغفلون عن مصيرهم ولا يستسلمون لإرادة سواهم، ودفعت نفوسهم إلى اتخاذ الوسائل للنهوض فيما أحبته، والتخلص مما كرهته.
وإن هذه المقاومة الروحية والعملية لتبقى عنيفة شديدة في الأمم الشرقية الناهضة ما بقي فيها رمقة من عيش، ومسكة من ضمير؛ وما دامت تسترشد بنور إيمانها، وتعمل بقوة عقيدتها وما بقي فيها رجال مخلصون، وعلماء ناهضون، وأدباء مثقفون، يقومون برسالة الحضارة العربية الشرقية، ويسعون لها سعيها، وهم مؤمنون بها، وأولئك كان سعيهم مشكوراً.
فإن الله إذا أراد بقوم خيراً جمع كلمتهم على الحق والهدى، وألف بين قلوبهم بصلات المودة والمحبة وإن بعدوا وتناءت ديارهم وشط مزارهم، فينالون شرفاً رفيعاً، ومقاماً محموداً.
محمد أبو بكر إبراهيم
المفتش بوزارة المعارف