الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 377/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 377/رسالة الفن

مجلة الرسالة - العدد 377
رسالة الفن
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 09 - 1940


لابد من حل

الفن. الخبز. الروح

(الرجاء في معالي وزير المعارف الفنان الكبير (الدكتور

هيكل باشا))

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

يذكر القراء أن مدرسة الفنون الجميلة العليا تورطت في العام الماضي مع نفسها تورطاً عجيباً إذ حكمت على طلبة قسم النحت فيها بأن يرسبوا جميعاً وأن يعيد كل منهم دراسته في سنته نفسها.

ويذكر القراء أن إشاعات كثيرة راجت حول هذا التورط العجيب، كما يذكر القراء أن الرسالة تناولت هذا الحادث الخارق للعادة بكلمة حدث على أثرها - ولا نقول بتأثيرها - أن نقل الدكتور ناجي مدير المدرسة السابق منها، وأن عهد بإدارة المدرسة للأستاذ محمد حسن المراقب المساعد للفنون الجميلة بوزارة المعارف.

والأستاذ محمد حسن رجل له خطط يرسمها وينفذها مستعيناً عليها بجماعة من أساتذة الفنون في مدرستي الفنون الجميلة العليا والفنون التطبيقية. وهم كلهم من الشبان المتطلعين إلى فوق، والذين يؤمنون بأنه قد آن للمصري الفنان - كما آن لكل مصري - أن يزيح عن مناصب الحكومة وعن ميادين الأعمال الحرة أيضاً كل أجنبي دخيل جاء إلى مصر ليربح المال، وليجمع المال، وليكسب المال.

وأنا وإن كنت بعيداً عن كل تعصب، وإن كنت أكره التفريق بين الناس لأي سبب من الأسباب، فإني لا أملك أن أصد الأستاذ محمد حسن عن المضي في اتجاهه، لأنه قد تم له فعلاً التخلص من كل الأساتذة الأجانب في مدرسة الفنون الجميلة، وقد أحل بدلاً منهم فعلاً فريقاً من الأساتذة الشبان المصريين، وهؤلاء هم الذين نرجو اليوم على أيديهم الخير للمدرسة، والله الموفق.

وكما دبر الأستاذ محمد حسن مسألة الأساتذة على هذا النحو الذي أرتآه، فقد فكر أيضاً في مسألة الطلبة والمتخرجين، ورسم لهم هم أيضاً خطة قال لي إنه عرضها على معالي الدكتور هيكل باشا في وزارته السابقة، كما قال لي إن معاليه وافق عليها، ورصد لها مبلغاً من المال ليبدأ تنفيذها به، ثم حلت الظروف القاسية التي نعانيها اليوم فبطل الإنفاق وبطل التنفيذ.

وهذه الخطة هي موضوع حديثنا اليوم، لأننا لا نزال نرى أن هذه الظروف القاسية لا يمكن أن تكون حائلاً دون تنفيذها، بل إننا نرى أن هذه الظروف القاسية نفسها دافع قوي يحفزنا إلى التعجيل بها.

تخرج مدرسة الفنون الجميلة العليا كل عام جماعة من الشبان الفنانين، بعضهم يلتحق بوظائف الحكومة، وبعضهم يظل يسعى وراء وظائف الحكومة إلى أن يلتحق بها، لأنه لا سوق للفن في مصر.

فإذا كانت الحكومة تنوي أن تستبقي مدرسة الفنون الجميلة العليا مفتوحة للطلاب تستقبلهم وتخرجهم، فإن عليها أن تفكر في أمرهم، فهي المسئولة عنهم، كما أنها المسئولة عن كل عبد من عباد الله الذين تتولى أمورهم.

ونحن لا نجرؤ على مطالبة الحكومة بتوظيف كل متخرج من هذه المدرسة، فنحن نعرف أن وظائف الحكومة محدودة، وأن الحكومة متخمة بالموظفين، كما أننا نعرف أن الفن لا يحيا مرتاحاً، ولا ينمو مزدهراً في الدواوين والمصالح.

فالباقي على الحكومة أن تفكر فيه إذن، هو أن تنشئ للفن في مصر سوقاً، أو أسواقاً؛ فإذا هي فعلت ذلك، تفتحت أبواب الحياة أمام الفنانين، وتفتحت عيون الناس على الفنون، وتابع الجمهور الحكومة في الاهتمام بالفن وفي الإقبال عليه.

وإذا كانت الحكومة قد آمنت بأن التمثيل فن جدير بالرعاية والتشجيع لما يهذب النفوس ويرقيها، فأنشأت الفرقة القومية، وفتحت بها للمثلين باباً مطمئناً من أبواب الرزق، وإذا كانت الحكومة قد آمنت بأن الغناء والموسيقى فنان جديران بالرعاية والتشجيع لما يصقلان النفوس ويرفهان عنها، فرعت محطة الإذاعة، ورصدت لها إعانة سنوية تنفق على المغنين والمطربين، وتضمن لهم باباً مطمئناً من أبواب الرزق أيضاً، فإن على الحكومة كذلك أن تؤمن بأن النحت والتصوير فنان لهما أثرهما في النفوس كغيرهما من الفنون، وعليها بعد ذلك أن تفتح للنحاتين والمصورين الذين تربيهم باباً مطمئناً من أبواب الرزق كما فعلت ذلك مع غيرهم.

فما هي هذه السوق التي تستطيع الحكومة أن تنشئها للنحاتين والمصورين؟

(المتاحف)، فهي أول ما يرد إلى الذهن، ولكن التجربة أثبتت أن الجمهور المصري منصرف عن المتاحف انصرافاً تاماً، وأن كل ما ينفق عليها عبث لا يجدي ولا يعود بالنفع، فهي بعيدة عن الجمهور، لا يقصد إليها أحد، ولا يستمتع بها أحد، ولا يتأثر بها أحد. والذي نريده نحن أن نضع الفن تحت أعين الناس حتى يروه ويتأثروا به، ثم يحبوه، ويقبلوا عليه.

وقد ألهم الله الأستاذ محمد حسن فكرة ضمنها تقريره الذي رفعه لمعالي الدكتور هيكل باشا فوافق عليه ولكنه توقف عنه للأزمة الطارئة. . .

وتلك الفكرة هي أن تقرر الحكومة تزيين معاهدها ودورها العامة، وحدائقها ومتنزهاتها، وشوارعها وميادينها بالصور والتماثيل. . .

وتستطيع الحكومة أن توفر آلاف الجنيهات من ثمن السجاجيد التي تفرشها على الأرض في دورها ومعاهدها، وأن تعطى هذه الآلاف للفنانين المصريين الذين يشكون اليوم أزمة البوار بينما اليوم هو يومهم الذي تلطب البلاد فيه نفثات أرواحهم.

ومعالي الدكتور هيكل باشا أول من يعرف أن نفوس الجماهير لا يؤثر فيها شيء مثلما يؤثر فيها الفن، وأنه لا يملؤها عزماً وحباً للحياة إلا الفن، وإني أخجل من التحدث إليه في هذا الموضوع لأني واحد من أبنائه فيه، فقد تعلمت من كتابته كما تعلم غيري أن تباشير النهضات دائماً لا تكون إلا فنوناً يتلوها العلم، ثم يتلوه العمل.

فإذا قيل لنا إن الظروف القاسية التي نعانيها اليوم تمنعنا من التبذير ومن الإنفاق على الفنون الجميلة في الوقت الذي تحتاج فيه إلى الإنفاق على ما هو أهم منها وأكثر ضرورة ووجوباً في هذه الظروف، قلنا إنه لا شيء أهم من الفن في هذه الظروف ولا شيء أكثر منه ضرورة ولا شيء أكثر منه وجوباً.

وإن نظرة واحدة نلقيها على الدول المتصارعة في العالم اليوم تثبت هذا الذي ندعيه، فألمانيا وإيطاليا استعانتا بالفنون على تهييج شعبيهما، فما في برلين ولا في روما ميدان إلا وفيه تمثال، وما في برلين ولا في روما شارع إلا وفيه صور وخرائط ورموز تشعل الحقد والغرور في نفوس الناظرين إليها من أهلها، وإن بريطانيا العظمى اليوم لتستعين بالأدباء والخطباء على إثبات حقها في الدفاع عن الديمقراطية التي تتحدى بها الديكتاتورية وتناصرها عليها. وكل من ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا العظمى تنفق على التصوير والنحت والأدب والخطابة ملايين الجنيهات غير آسفة، لأنها تعرف أن هذه الفنون غذاء لازم للأرواح لا تستطيع الأرواح الإقبال على الكفاح أو الثبوت فيه إلا إذا شبعت وارتوت منها. وإذا كانت هذه الدول تؤمن بفوائد الفنون هذه الإيمان، وإذا كانت هذه الفنون قد أحدثت في هذه الدول هذه الآثار التي نراها من اختبال العقل في الألمان والطليان والصبر الجبار عند البريطان، فإنه جدير بنا أن هرع إلى هذه الفنون لنشبع أنفسنا ونرويها منها، فلسنا نعيش في دنيا غير الدنيا التي تعيش فيها هذه الدول، وإنما نحن في مركز الدائرة، وإذا نحن فوتنا هذه الفرصة وقعدنا فيها عن استغلال الفنون في إثارة الروح الوطنية في نفوس المصريين، فإننا قد لا نحتاج بعد اليوم إلى الفن يحيينا، لأننا قد نحتاج بعد اليوم إلى أدوية وضروب أخرى من العلاج.

هذه الظروف القاسية إذن هي أنسب الظروف لإنعاش الفنون الجميلة وإحيائها وتفتيح الأسواق للفنانين، وتستطيع الحكومة أن تبدأ منذ اليوم بإنشاء مكتب جديد في وزارة المعارف لشراء الصور والتماثيل من الفنانين لتوزيعها على الدور العامة والمعاهد الحكومية والميادين والمتنزهات والشوارع، وأظن أن تاريخنا الطويل مملوء بالموضوعات الوطنية الجبارة التي تفعل في النفوس فعل السحر، كما أظن أنه كان من آبائنا وأجدادنا أبطال من حقهم علينا، ومن حقنا على أنفسنا أن نخلد صورهم أمام أعيننا لننظر إليها دائماً ولنستقي من معانيها آيات المجد والحرية والإيمان.

ولعله مما يضيق به صدر الحق والفن أن تكون كليات الأزهر خالية من تماثيل أبطال الأزهر وصورهم، وأن تكون الكلية الحربية خالية من صور زيتية تخلد البطولات المصرية والانتصارات المصرية في تاريخنا القديم وفي تاريخنا الجديد، وأن تكون كليات الجامعة خالية من تماثيل رجال العلم ورجال الأدب المصريين والأجانب الذين لا نزال نتتلمذ عليهم ونأخذ عنهم، وأن تكون دار البرلمان المصري مزدانة بصور فوتغرافية ملونة صنعتها آلات جامدة فهي لا تجسد للعين ولا للقلب المزايا التي استحق أصحاب هذه الصور أن يحتفظ البرلمان المصري بصورهم لها وأن يزين جدرانها بها من أجلها. ولعله مما يزور عنه الذوق أن تكون دور الأوبرا المصرية خالية من صورة أو تمثال لسيد درويش وسلامة حجازي، وعبده الحامولي، ومحمد عثمان وغيرهم من الفنانين المصريين. . . ولعل. . . ولعل. . . ولست أريد أن أمضي في تعداد نواحي النقص هذه البارزة في حياتنا فنحن نعرفها، وليس فينا من يجهلها. . . والذي يهمنا اليوم هو أن نبدأ بعلاجها لأننا قد شبعنا كلاماً فيها.

بقيت بعد ذلك فكرة طريفة، قال لي الأستاذ محمد حسن: إن بعض الدول في أوربا تنفذها بالفعل، وهي أنها تلزم أصحاب العمارات والبنايات الكبيرة بأن يخصصوا اثنين في المائة على الأقل من تكاليف بناياتهم وعماراتهم بزخرفة هذه العمارات والبنايات وتزيينها بالرسوم والتماثيل والصور. ولا شك أن تنفيذ هذه الفكرة يفتح الميدان واسعاً جداً أمام الفنانين، وهو في الوقت نفسه لا يضر أصحاب العمارات والبنايات في شيء.

والآن: الطريق أمامنا ممهدة معبدة. ونحن إذا آمنا بفائدة الفن وفعله في النفوس وأردنا أن نستغله لترقية أنفسنا فإننا من غير شك سنجد أنفسنا حيال أزمة هي عكس الأزمة التي تشكو منها اليوم. . . فنحن اليوم نبحث عن عمل للفنانين. ولكننا عندما نبدأ بتنفيذ هذه الفكرة سنجد أنفسنا مشغولين بالبحث عن الفنانين لكثرة العمل.

وعلينا أن نذكر أخيراً أن الحكومة إذا بدأت بتقدير الفن والفنانين المصريين، فإن كثيرين من عظمائنا وأغنيائنا وفقرائنا سيتبعونها في هذا التقدير، لأننا شعب تعود أن يتأثر (الميري) دائماً. ويا حبذا أن نتأثر (الميري) في الخير.

عزيز أحمد فهمي