الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 377/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 377/رسالة العلم

بتاريخ: 23 - 09 - 1940


قصة الفيتامين

للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي

- 3 -

عاد البحث ثانياً عن (الفيتامينات) عقب سني الحرب في سنة 1919، بعدما انطفأت شعلة الحرب واتجهت الإنسانية تسعى وجهة علمية مدنية، وعاد شغف البحاثين وولع العلماء في جميع المعامل بمتابعة التوسع في دراسة مبهمات هذه المادة الغذائية اللازمة للحياة، والتي دلت عن طريق التجارب الغذائية على وجودها في كثير من الأطعمة مثل الخميرة والزبدة وكبد الحوت والبيض والقشدة وبذور الحبوب والكرنب والكرنبيت والخس والطماطم وغيرها، كما اتضح أنه يستحيل نسبتها جميعاً إلى أصل مادة واحدة، فهي إذن تنتمي إلى مجموعات عضوية مركبة مختلفة التركيب.

ومن المشاهد أنه في حالة غياب أي نوع واحد من الطعام يحمل الفيتامين تظهر أعراض مرضية تختلف عن تلك التي تظهر عادة عند نقصان نوع ما من الغذاء. فالحالة الأخيرة تتلاشى فيها الأعراض عند إكمال النقص بعكس الحالة الأولى التي تستدعي لزوال أعراضها مصادر عديدة مختلفة من الفيتامينات.

وبتوالي استنباط وتجديد تراكيب غذائية مختلفة لا توجد فيها الفيتامينات إما من الأصل أو سلبت منها قسراً، وإجراء هذه التراكيب على الحيوانات كالفيران، وملاحظة ما يطرأ من الأعراض ويجد، ثم معالجة هذه الأعراض بالدقة والترتيب اللازمين، وذلك باجتناب المواد المسببة لتلك الأعراض. من تلك المشاهدات، ومع ما تستوجبه من الحرص والكفاية أمكن العثور بادئ ذي بدء على أربعة أنواع من الفيتامينات. ومع ضياع كل الجهود التي ذهبت حينذاك هباء للتدليل على الفيتامينات من الناحية الكيميائية، أو لتكييفها طبيعياً، فقد وضحت طريقها ووضعت لهذه المواد الحيوية المبهمة غير المحدودة المعالم الرموز: , , ,

لم يثن هذا من عزم الباحثين ولم يقف الجمود أمام سر تركيب الفيتامينات حجر عثرة في طريق البحث والتطلع من الستار الحاجبة أخذت تتهتك وتشف، وأخذ في تطبيق النتائج التي وصل إليها عن طريق تغذية الحيوان - على الإنسان. وقد أدى هذا إلى معرفة وتشخيص كثير من الأمراض كانت مجهولة الأسباب حينذاك مثل: البري بري والأسخربوط والبلاجرا (الطفح الجلدي اللومباردي - نسبة إلى لومبارديا في إيطاليا) والراخيتيس فعرفت بعدئذ بأمراض نقص الفيتامين أو الفيتامينوزات.

وكان من أثر هذه النتائج وشيوعها، واستغلال بعض الصناعيين لها في ترويج مستحضراتهم بعد ما عرف أن الأمراض سابقة الذكر غير مستعصية العلاج - أن ظهر ما سمي حينذاك (بشبح الفيتامين) أو (حمى الفيتامينات) الذي يُذكّر من جديد (بشبح البكتريا) لعشرين سنة خالية قبل هذا التاريخ إذ قيل عند اكتشافها بأن كائنات دقيقة حية هي التي تنقل المرض وتسبب العدوى، لذا وجب الإغلاء والتعقيم كي تموت هذه المسببات، بينما قيل العكس في الحالة الجديدة التي يشار فيها بعدم الإغلاء أو الطهي إن أمكن حتى لا تؤذي الفيتامينات أو تتعرض حيويتها للهلاك.

وقد أدى هذا إلى كثير من الخلط والالتباس، تعرضت له حالة الفيتامين الجديدة إبان نشوئها إلى كثير من الشبهة، وليس فقط في مستهلها بل وفي أثناء إتمام بحثها مما سنراه.

ولقد أسيء كثيراً إلى كلمة الفيتامين نظراً لاستعمالها في أوضاع خاطئة ولتشعب النواحي والأفكار بخصوص ما ينتظر منها ومن أثرها ومدى عملها في منع أو شفاء كثير من الأمراض، ومع هذا فقد بلغ علم دراسة الفيتامينات شوطاً كبيراً في السنين الأخيرة حتى يومنا هذا - شوطاً ذا أهمية عملية بالنسبة لحياة الإنسان اليومية، مما لا يمكن أبداً الإقلال من قيمته بل على العكس إكباره وتقديره. وليس هذا فقط لما جدّ من اكتشاف أنواع أخرى من الفيتامين ولا لما عرف من عديد الأمراض التي كانت مجهولة الأسباب فأضحت أسبابها بيّنة ممكنة العلاج ولا لما أمكن تحضيره من هذه الفيتامينات صناعياً وما يجري العمل لإتمام تحضيره، بل لقد تهيأت الأسباب حديثاً لمعرفة طبيعة الفيتامين ومهمتها وعملها في الجسم وقصر ما بين حجابها وبين الإنسان.

وإذا ما أردنا بكلمات قليلة أن نحصر أو نعرف أهم ما عرف عنها إلى اليوم وجدنا أن الفيتامينات عبارة عن مجموعات أو مخلوطات عضوية مختلفة التركيب هي نتيجة تطورات (تعقيد) لعوامل مساعدة في التمثيل (التحول الغذائي) وعليه تكون الحاجة إلى وجود الفيتامين في الخلية الحية من أوجب الضرورات. وبما أن الفيتامينات قد وجدت في أصل البحث في النبات فيغلب على الظن أنها تقوم فيها مقام المواد الفعالة (الهرمونات) في جسم الإنسان والحيوان، كما وجد أن بعض النباتات قد تصيبها بعض أمراض نقص الفيتامين وهذا ما وصل إليه حديثاً العالم النباتي بورجيف إذا أثبت أن نبات يموت تدريجياً إذا لم يحصل أثناء نموه على الفيتامين (ب) عن طريق نبات فطري يعيش عليه معيشة اتحادية، وذلك لأن النبات نفسه غير قادر ولا مهيأ لعمل الفيتامين. وكما أن الفيتامينات ضرورية جداً في جسم الإنسان والحيوان ولا معدى عن وجودها فيه فهي كذلك (ضرورية) حتى عند الحيوانات الدنيئة - فقد تصيب الحشرات مثل الصراصير (صراصير المطبخ) والنحل ويرقة السوس أمراض نقص الفيتامينات.

يجب إذن تموين جسم الإنسان والحيوان دائماً بتلك المواد الحيوية، إما بفيتامينات كاملة أو أولية التركيب (بروفيتامين) وذلك لتسهيل عمل الخلية الحية أو مجموعة الخلايا وبالتالي لتنظيم سير الجهاز الحيوي (دورة الحياة)، وتكفي منها كميات صغيرة جداً وتعتبر كمصادر قوة أو كمواد البناء أو التشغيل في عملية التمثيل الغذائي وقد تعمل بين بعضها وبعض بطريق التبادل أو يحتل جزئياً بعضها أماكن بعض كمساعدة أو مسبب للأدوار المعقدة التي تقوم بها الخلية في عملية التمثيل.

فكما أن أي رئيس لأية فرقة موسيقية لا يشترك كباقي الأفراد في إدماج أو إدخال أي صوت آلي من عنده له أثر ما في النغم أو اللحن النهائي ولكنه كمشجع أو مهدئ أو ضابط للإيقاع أو موجه للعمل الآلي لبقية الموسيقيين فكذلك يمكن تشبيه الفيتامينات بضابط للإيقاع في فرقة متنوعة الأصوات، هي تشبه في مجموعها وعملها المتداخل بعضه في بعض التفاعلات الكيميائية في الجسم؛ فإذا انعدمت هذه القوة الدافعة المشجعة تداعت بالتالي القوات الأخرى أو ثبطت همتها أو تراخت ثم يقف التعاون بينها ويضطرب التجانس، ثم لا يلبث أن يظهر هنا وهناك أعراض تسترعي الانتباه.

وفي سبيل معرفة ميكانيكية أو تاكتيك المهام الدقيقة التي تقوم بها الفيتامينات بدأ العلم يجني أول ثمار بحثه وجهوده لاسيما بعد أن أصبح من المحقق الثابت أن عمل الفيتامين في الصميم يستقر هناك وراء كل دور أو عمل حيوي، فهو بهذا هناك حيث تجري عملية تحويل المواد في الخلية أي حيث يكمن سر الحياة.

ويقوم عمل الفيتامين في الخلية على ثلاثة أمور: أولها تأثير تلك المواد الحيوية في شكل وصفات الخلية - في نموها وفي بنائها وتكاثرها وتجددها. وثانياً تأثيرها في قوة أسطح وجدر الخلية مما يفرق مسامية وشعرية (نفاذية) بعض الخلايا عن بعضها كالحال في خلايا الأمعاء الماصة. وأخيراً وأهم أمر - هو قيادة وتوجيه التحليل الغذائي في الخلية، كما تعمل على ترتيب تنفس الخلية ومباشرة تحويل المواد نتيجة الاحتراق إلى حامض كربونيك وماء في الخلية مستخدمة في ذلك ذرات دقيقة من المعادن الثقيلة كالحديد والنحاس والمنجان وغيرها كوقود لتدفئة وتسخين أفران الاحتراق - ويتعين على كل نوع من الفيتامين بدوره تقديم مساعدته الخاصة به في الجهة الخاصة من الخلية للمساهمة في ناتج العمل الحيوي الكبير، ولكنه لم يتهيأ للآن إكمال هذه النقطة الأخيرة بحثاً وقد يقف بعض الفيتامينات والهرمونات قريباً من بعض في التعاون والعمل لدرجة يصعب معها أحياناً تمييز بعض أمراض نقص الفيتامين عن الاضطرابات الهرمونية.

وكما تعمل المواد البوتينية في الغدد الفارزة كذلك لا يعدو عمل الفيتامين أن يدير أو ينظم التحويلات الغذائية المعقدة التي يرتكز عليها سير ونظام الحياة؛ ولبلوغ مهمتها هذه حد الضبط والإنجاز هيأت الطبيعة ترتيبات ومعدات عظيمة ما زال الإنسان يتخيلها ويضرب في التعرف عليها.

وليس للفيتامينات ككميات مجتمعة (متكورة) أي تأثير، ولكنه - لكي تقوم بعملها - يجب أن تكون دقائق منتشرة في كل تيارات العصارة؛ ولكن إذا بلغت هذه الدقائق مبلغاً متناهياً في الدقة والصغر تراجع تأثيرها. ولتشبيه هذا العمل نتمثل لعبة من لعب الأطفال تتكون من كور ذات أحجام مختلفة تقابلها حفر (فتحات) معينة ذات اتساع كاتساع الكرات ولكن تضيق عنها قليلاً، ثم زد على الكرات الأصلية كرات أخرى أكبر منها وأخرى أصغر منها، فالكور الكبيرة لا تدخل الفتحات ولا تستقر فيها، والصغيرة تنفذ فيها ولا تستقر كذلك، والكور ذات الحجم الخاص هي التي تستقر وتملأ مواضعها. ولهذا قامت الطبيعة تبعاً لاختلاف انقسام جزيئات الكلوريد بعمل طريقة فذة لتنظيم سرعة الوظائف والأدوار الحيوية، وهذا من أهم ما تم معرفته للآن عن التأثير الميكانيكي الدقيق للفيتامينات.

وتبعاً لنداء فيتامين ما - سرعان ما تلبي النداء الخلايا التي في انتظار تغييرات هامة يجب حدوثها فيها. وهكذا يتعين بحضور الفيتامين في خلايا الجسم قيام الوظائف الحيوية التي منها: اطراد النمو، المناعة ضد الأمراض الناقلة وغيرها، بناء العظام، منع النزيف الدموي، حفظ نشاط مركز الجهاز العصبي، قوة التوالد والنسل.

ويبلغ عدد الفيتامينات التي عرفت للآن أو على الأقل عرفت مصادرها ومدى عملها وتأثيرها أربعة عشر فيتاميناً، وهذا في مدى ربع قرن من الزمان، وسنكتفي هنا بالفيتامينات الهامة ذات الأثر الفعال في حياة الإنسان وهي المواد الحيوية , , , , ونبدأ أولاً بالفيتامين الذي كان سبباً في البحث وراء المواد الشافية الموجودة في الغذاء، وبه بُدئ درس هذه المواد الحيوية، ألا وهو الفيتامين

(يتبع)

عبد اللطيف حسن الشامي

مهندس