الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 374/إلى معالي وزير المعارف

مجلة الرسالة/العدد 374/إلى معالي وزير المعارف

مجلة الرسالة - العدد 374
إلى معالي وزير المعارف
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 02 - 09 - 1940


التعليم الزراعي

دعوتك لما يراني البلاء ... وأوهن رجلي ثقل الحديد

وقد كان مشيهما في النعال ... فقد صار مشيهما في القيود

وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود

فلا تسمعن من الكاشحين ... ولا تعبأن بعجل اليهود

وكن فارقاً بين دعوى أردت ... ودعوى فعلت بشأو بعيد

(المتنبي)

مضى ربع قرن والتعليم الزراعي في مصر - عدا الجامعي منه - واقف في مكانه لا يتحرك ولا يتزحزح، ولا يشعر بأن الحوادث حواليه تنطلق إلى غايتها في عنفوان وتشتد إلى غرضها في عزم. أما هو فقد تخلف في سبات عميق لا يخضع لسنة الطبيعة ولا ينزل على حكم التطور. ولشد ما آلمني - حين قدر لي أن أغتمر في غمار هذا النوع من التعليم - أن أجده متفككاً يتداعى من هوان ومن ضعف؛ ولبثت ما لبثت أسوق النفس سوقاً إلى غاية، وأنا أرى وأحمل النفس على الصمت، ثم أنشر رأيي على صحابتي - بين الحين والحين - فلا أجد إلا الجمود الذي نفثه الاستسلام، والخمود الذي ولدته سخرية الرئيس من آراء مرءوسيه والتهكم بها والامتهان لها، نتيجة التزمت والكبرياء. والآن هبت الوزارة، أو بالأحرى مراقبة التعليم الزراعي، تسعى إلى تهذيب هذا النوع من التعليم وتريد إصلاحه، فأردت أن أتغلغل إلى قراره على أستطيع أن أبدي سوءاته أو أن أنفي عنه خبثه، وما لي بعد ذلك إلا أجر العامل المجد أو جزاء الناصح الأمين. والتعليم الزراعي في مصر - عدا الجامعي منه - يتكون من المكاتب الزراعية ومن المدارس المتوسطة، وسأحاول جهدي أن ألم شعث الموضوع في نظرة فاحصة سريعة.

أولاً: المكتب الزراعي

فكرة الإنشاء

نشأت فكرة المكتب الزراعي - أول ما نشأت - سنة 1935، وابتدأ تنفيذ هذه التجربة سنة 1936. وفي الحق لقد كانت الفكرة جميلة تختلب النظر والقلب معاً وتستحق الثناء والشكر، لأنها تحقق غرضاً سامياً، وتملأ فراغاً استشعرته مصر الزراعية منذ زمان. وهي في لبها ترمي إلى أن تنشئ طائفة من أبناء صغار الزراع تنشئة تتفق والنهضة الحديثة التي قطعت البلاد فيها شوطاً غير قريب، ثم تدس بهم بين آبائهم وأهليهم لينهضوا بهم وليكونوا نواة للعمل العظيم الذي ينتظرهم بعد، وهو اطراح الطرق الزراعية العتيقة والأخذ بالحديث منها. غير أن شيئاً عدل بالغرض عن وجهته الأولى فأصبح يرمي إلى تخريج فئة من أشباه الموظفين والعمال يقومون على إدارة الدوائر والضياع والبساتين. واتخذت التجربة سبيلها في مكتبين ملحقين بمدرستي الزراعة المتوسطة بالمنيا ودمنهور، والتحق بالمكتبين صبيان أتموا التعليم الإلزامي ليتخرجوا بعد سنوات ثلاث

وارتطم المشروع بالصدمة الأولى، بقلة عدد التلاميذ، فكاد يهوي، أو لا أن حكمة القائمين على العمل تداركته ففتحت أبواب المكتبين عل مصاريعها لأبناء الفعلة والعمال والصناع والزراع على السواء، فتم عدد التلاميذ عشرة في كل من المكتبين وسار دولاب العمل. . .

نظام الدراسة ومدتها

الآن حق لأبن الصانع والعامل و. . . أن يلتحق بالمكتب الزراعي ليخرج بعد ثلاث سنوات عاطلاً لا يستطيع أن يجد عملاً أو أن يعين أباه أو أن يفيد وطنه أو يحقق الغرض الذي من أجله أنشئ المكتب. وماذا يفيد الصانع أو العامل أو الزراع نفسه أن يلقى أبنه - وهو شب وترعرع - يغدو إلى المكتب ويروح إلى الدار وهو في حاجة شديدة إليه، فراح كل منهم يحول بين ابنه وبين المكتب؛ فأوشك هذا العمل - وهو جليل - أن يتوارى عن الأنظار لولا أن أدركته حكمة الرؤساء مرة أخرى، فخلوا للتلاميذ أن يحضروا متى شاءوا وان يمتنعوا عن الدراسة متى أرادوا، دون أن يبدى الواحد منهم عذراً، أو أن يحتمل لوماً وتأنيباً، أو أن يؤاخذ أبوه؛ فانطلق التلميذ إلى غيه يهرب حين يلذ له الهرب، ويسكن إلى أمه أو أبيه حين يطيب له ذلك. وهكذا تداعت أبسط مبادئ الأنظمة، وأختل نظام العمل، أنهد الركن الركين في سير الدراسة، ولست أدري، ماذا عسى أن يكون هذا الطفل بعد حين وقد تدرج على ألا يأبه لنظام ولا أن يهتم بميعاد! وأندفع الصبي وأبوه يتغاليان - وقد نام الرقيب - فينطوي العام الدراسي كله ولما يحضر التلميذ غير شهر أو بعض شهر، ثم هو لا يحمل مئونة الاختبار ولا نصب الاستذكار والمطالعة ولا يصبر على قسوة العمل، فهو منقول إلى السنة التالية بدون شرط ولا قيد، وتنقضي السنوات الثلاث فإذا الصبي المتخرج في المكتب جاهل يرتدغ في جهله

وتساهل القانون مرة أخرى وأغضى، فصرح للتلاميذ أن يحضروا دروسهم في أسمال بالية، حفاة عراة الرءوس، تأكلهم الوساخة و. . . على حين أن الصوت قد بح من طول ما نادى بوجوب تنظيف الفلاح وترتيب حياته على نسق، أما هنا فأصبح الإهمال والقذارة قانوناً. . . وانطوت السنون فإذا المكتب كله ينظم على أحد عشر بينهم الناظر وليس بينهم أي مدرس، فمدرسو المكتب هم بعض مدرسي مدرسة الزراعة المتوسطة

ومن غريب ما يروى أن ناظر هذا المكتب كان يقضي يومه لا عمل له إلا أن يكتب الرسائل إلى الوزارة ويستقبل الرسائل منها. ولِمَ؟ لأن الصبية يقضون يومهم في الحقل أو في مدرسة الزراعة المتوسطة، فهناك يشهدون التجارب العملية ويعملون بأيديهم، وهنا يتلقون دروسهم على أساتذتهم

عجيب أن نخطئ فنقول إن التلميذ في هذه السن الصغيرة يستطيع أن يدرك التجارب الزراعية الحديثة، أو أن يطبقها ويقارنها بينها وبين القديمة ليعرف الغث من السمين، وعجيب أن نخطئ - مرة أخرى - فنقول أننا نستطيع أن نهيئ هذا الصبي في ثلاث سنوات ليكون زارعاً من الطراز الأول! وإذن يتراءى لنا - لأول وهلة - قصر مدة الدراسة، فما التلميذ بمستطيع أن يستوعب شيئاً، ولا المدرس بمستطيع أن يحشو ذهنه الغض.

منهاج الدراسة

هذا الصبي الصغير قد تثقف ثقافة أولية بحتة لم يلمس فيها رهقاً ولا عنتاً، وهو حين التحق بالمكتب الزراعي لم يقدر أن يحمل ما لا طاقة له به

هنا، في هذا المكتب، يرزح الصبي تحت ثقل ينوء به، فالعلوم كثيرة متراكبة ومتشابكة، ومواد العلم الواحد أو فرع العلم طويلة مملة، فماذا وراء أن يدرس التلميذ في المكتب - مثلاً - منهجاً طويلاً في مسك الدفتر فيه: اليومية، واليومية الزفرة، والأستاذ، وحساب الأرباح والخسائر، والميزانية، والأوراق المالية و. . . مما يهبط عقل التلميذ ويتركه في حيرة من أمره ويطغي على وقته؟ وماذا وراء أن يتلقن الصبي في مكتبه ما يتلقاه طالب الزراعة المتوسطة سواء بسواء؟ وهكذا نرى المنهاج في كل فروع الدراسة طويلاً ومعقداً ومملاً، حتى منهاج الزراعة نفسها؛ وقد لا يرتبط في كثير من الأحايين بالناحية العملية، وهو إن مت إليها بسبب فلكي يرى التلميذ التجربة مرة واحدة ثم لا يعود؛ في حين أن ما نبتغي هو أن يشهد التجربة ويعملها بيده مرة ومرة ثم لا يبتعد عنها، وأن يعرف أشياء كثيرة عن منتجات الألبان وتربية الماشية ودودة القز والنحل ثم الصناعات الزراعية مما يجهله الزارع أو يهمله أو لا يعترف بفائدته الحيوية والمادية

ثم كيف يأخذ المدرس على عاتقه تدريس مادة لهؤلاء التلاميذ الصغار إن لم يكن بين أيديهم مراجع يرجعون إليها إن أعوزهم الأمر أو خانهم الذاكرة؟ لا ريب أن التلميذ لا يستطيع أن يحفظ ما يلقى عليه وهو كثر؛ والمدرس لا يستطيع أن يرهق التلاميذ بالشراء أو الطبع وهو يعلم أنهم فقراء يجدون مس العوز، وأن المكتب يقوم على تربيتهم مجاناً، بل ويحبوهم بالمأكل والملبس. لابد أن يجد أسهل سبيل يبلغ به غايته، وهو الإملاء

وهنا. . . هنا فقط شغلت الإملاء - دون الشرح - كل وقت الصبي، وانمحى كل مبدأ أو مذهب يرتكن إليه التدريس الفني؛ وإذن ذهب التلميذ يكد ذهنه ليحفظ تجارب وعمليات وأسماء وموضوعات سطرت على القرطاس وعمى بصره عن أن يراها في الحقل. وانتهت الحياة به إلى ما ينتهي إليه كل طالب حين يخرج من مدرسته، لا يتعلم إلا أنه فوق مستوى الفلاح فهو يأبى أن ينزل إليه وهو لا يعرف أن يسمو عنه.

(للموضوع تكملة)

(*)