الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 374/إلى أرض النبوة!

مجلة الرسالة/العدد 374/إلى أرض النبوة!

بتاريخ: 02 - 09 - 1940

7 - إلى أرض النبوة!

للأستاذ علي الطنطاوي

كان أجدادنا الشاميون المتمسكون بالسنة، إذا دخلوا تبوك أخذوا (كما يزعم ابن بطوطة) أسلحتهم، وجردوا سيوفهم وحملوا على المنزل، وضربوا النخيل بسيوفهم. . . يقولون هكذا دخلها رسول الله.

ولو كان أجدادنا (أعقل) من ذلك، لضربوا بسيوف كسيوف خطباء المنابر في مصر، التي وصفها الإمام الرافعي رحمه الله في تلك المقالة (الدماعة)، لتكون آية أخرى على أنهم يفهمون (السنة. . .) كفهم الشيخ الدمشقي الذي خرج مرة من باب الجامع يمشي في الأسواق حافياً ومن وراءه تلامذته يحملون نعالهم بأيديهم، نشراً للسنة. . . وكفهم كثير من المسلمين اليوم!

أما نحن فلم نكن قد تعلمنا هذه البطولة (الدنكشوتية)، فدخلنا تبوك كما يدخل عامة إخواننا من بني آدم بلداً من البلدان ولم نضرب النخل البريء بسيف أبي حية النميري الذي أخذه من وزارة أوقاف مصر لما ولى الخطابة في مساجدها، وإنما ضربنا بأكفنا في قصاع الرز واللحم التي كان يكرمنا بها أمير البلد. ولبثنا في تبوك يومين أنسنا في اليوم الأول واطمأننا وتفيأنا ظلال الأمن والدعة، بعد ما صلينا بشمس الصحراء أياما اكتوينا فيها بنار الجوع والعطش والخوف والتعب فأحببنا تبوك، وتمنينا لو أقمنا فيها الدهر فما فارقناها، وعشنا في كنف أميرها المهذب الكريم العمر كله. . . نعم بيمن نقيبته، ونور طلعته، وخصب مائدته. . . ولكنه لم يأت اليوم الثاني حتى مللناها، ورأينا من ضيقها آخذة بمخانقنا. وقال قائلنا: أهذه تبوك التي طالما شوقنا إليها الدليل، وطالما منانا الوصول إليها، وحط الرحال بفنائها؟ أمن أجل هذه القرية ذات الستين بيتاً حملنا ما حملنا من الأين والعناء؟

لقد جلنا أنحاء (البلدة. . .) ورأينا تخيلها الذي كان يقطعه أجدادنا الأبطال بأسيافهم!! فلم يبقوا منه إلا بمقدار بستان صغير من بساتين البصرة! وزرنا قصر الأمير المبني بالآجر المطلي بالطين، ودخلنا المسجد الذي فرش بالرمل، حتى ليغوص فيه أنف الساجد ويدخل في خياشيمه، ووقفنا على المحطة الخالية الخاوية، فبكينا فيها (السكة) التي أنشأناها بأموالنا، ثم خربناها بأيدينا وأيدي القوم الذين أثاروها بيننا جاهلية جهلاء، فكان لهم ثمارها، وكان أن حرقتنا نارها. . . رأينا ذلك كله فما ثواؤنا في تبوك، وعلام نقيم فيها؟ ألنأكل على مائدة الأمير، ونثقل عليه؟

وتهيأنا للرحيل، لنقطع النصف الثاني من الطريق، وهو النصف الصعب المتعب، الذي وصف أبن بطوطة ومن كان قبله ومن جاء بعده صعوبته وهوله. . . وسرنا متوكلين على الله.

قال أبن بطوطة:

(يرحل الركب من تبوك ويجدون السير ليلاً ونهاراً خوفاً من هذه البرية وفي وسطها الوادي الأخيضر كأنه وادي جهنم أعاذنا الله منها، وأصاب الحجاج به في بعض السنين مشقة بسبب ريح السموم التي تهب، فانشقت المياه وانتهت شربة الماء إلى ألف دينار ومات مشتريها وبائعها. وكتب ذلك في صخر الوادي ومن هناك ينزلون بركة المعظم وهي ضخمة نسبتها إلى الملك المعظم من أولاد أيوب، ويجتمع بها ماء المطر وربما جف في بعض السنين).

أما نحن فلم نخش هذه البرية خشية البطوطي، بل وجدناها هينة بالنسبة لما مر علينا قبل تبوك، ولم نعرف شدتها وقسوتها حتى ضربنا فيها أياماً؛ فأدركنا أن أبن بطوطة كان صادقاً.

ولقد كنا خرجنا من دمشق بشيء عظيم من الزاد، وبمائتي صفيحة من البنزين، فنفذ كله قبل تبوك فجددناه فيها، وحملنا ما استطعنا حمله من الماء، وصحبنا دليلاً جديداً (اسمه محمد الأعرج) طويلاً مخيفاً شيطاناً من شياطين البادية، خبرونا أنه له عند الإمام عبد العزيز منزلة دانية، وودعنا الدليل الثاني صلبي الذي حدثتك عنه من قبل

ومن أغرب ما شاهدت في هذه الرحلة، أنه لم أجتمع الدليلان، وكلاهما شيخ قبيلته، طفقا يذكران الماضي، ويستعيد أخباره. ففهمنا أنهما كانا عدويين يتقاتلان ويتغازيان؛ فلما تدينا (أي تبع الشيخ أبن عبد الوهاب مصلح الجزيرة) نبذا ذلك كله، وتمسكا بالأخوة الإسلامية، وألف الله بين قلوبهم بالإسلام كما ألف بين أجدادنا عرب الجاهلية، فرحم الله أبن عبد الوهاب ورضى عنه وعن كل قائم لله بحجة، وداع إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، آمر بالمعروف ناه عن المنكر، ناصر للسنة قامع للبدعة ومشينا وخرجنا من تبوك سبعين كيلاً لم نجد فيها ما نتحدث عنه، أو نشكو منه، فقد كانت الأرض متماسكة شديدة درجت عليها السيارة بسهولة، وكل ما وجدناه فيها من الصعاب ثلاثة شعاب رملية لا يتجاوز عرض الواحد منها كيلاً ونصف كيل، ورياح شديدة خبرنا الدليل أنها لا تكاد تنقطع من ذلك المكان، ثم بلغنا أوائل الجبال، فدخلنا وادياً متسعاً فيه تلال من الرمال، فلم نسر فيه إلا قليلاً حتى كثرت فيه الصخور، وأزداد ارتفاع الجبال من حولنا، وكانت الصخور هرمة بالية مؤلفة من صحائف رقيقة كصحائف الكتاب، تتفتت من مس الأيدي، والوادي ممتلئ بفتاتها، ثم ظهرت في الوادي تلال من الرمل الأحمر الناعم المتموج، لها منظر أخاذ. واستمرت هذه المشاهد من حولنا مسيرة ثلاثين كيلاً، ثم عرضت لنا جبال فيها الصخر الأسود تخالطه بقع حمراء، وصلنا بعدها إلى أرض مستوية تشبه (بسيطة) التي مررنا عليها قبل أن نصل إلى جبال الطبيق في طرقنا إلى تبوك، ثم أمسى علينا المساء في بقعة أسمها (ساح الغزوان) فبتنا فيها، وبينها وبين تبوك (144) كيلاً، سجلها راقم السيارة (الكيلو متراج) ومعنى (ساح الغزوان) عندهم ميدان المعركة. نزلنا نشهد الشمس هي تجر ذيلها الذهبي على الوهاد والنجاد ثم تتوارى وراء الأفق البعيد، فجلسنا نمتع الطرف بمحاسن المساء في الصحراء ونريح النفس إلى سكونها وصفائها حتى إذا لف الكون الظلام أوقدنا النار وأشعلنا المصابيح وفرشنا الفرش، وكنا في أول الرحلة ننصب سرادقاً نبيت فيه فصرنا ننام تحت السماء بين أحدنا والآخر أكثر من عشرين متراً لا نخاف وحشاً ولا نخشى لصاً، فقد أمن الله الجزيرة بابن السعود حتى صار أمنها حديث الناس، وأنعقد عليه إجماع من أم الحجاز أو جال في بواديها، ولقد ترك أصحابنا التجار (وقد كانوا يسيرون على أثرنا بيننا وبينهم مسيرة ثلاثة) سيارة مترعة بالثياب والطعام وكل ما يرغب فيه البدوي، ويسيل لتصوره لعابه، ورجعوا إليها بعد شهر فما وجدوا شعرة منها أزيحت من مكانها على كثرة من مر بها من أعراب! وما أذكر أننا خفنا أو ارتعنا إلا ليلة واحدة نزلنا فيها على طرف واد، وكانت ليلة حالكة السواد فما شعرت إلا الدليل محمداً الأعرج يجر بيدي، فتبعته حتى ابتعدنا عن الرفقة، فأشار إلى جهة رأيت فيها كمثل المصباحين، فارتعت ودنوت منه فقلت: ما هذا؟ فقال وهو غير مكترث ولا مبال: هذا نمر! فنظرت إليه فإذا هو ساكن الطائر، وهادئ الجوارح كأنه حين يقول نمر يقول كلب أو قط، ولم أكن رأيت نمراً من قبل إلا في حديقة الجيزة بالقاهرة. فجفت والله وشعرت من الفزع كأن العقال طار عن رأسي ورجع، وما أنا بالجبان ولا الرعديد، ولقد عرضت لي الضبع مرة، فما رأيت فيها كبير شيء، ولكن النمر في البادية في الليل لا يرى منه إلا عينان كأنهما جمرتان؛ لا، إن هذا مخيف، أما الأعرج فما كان منه إلا أن مد بندقيته وأطلق رصاصها على عيني النمر فأخطئهما وانتقل ضوئهما المرعب إلى جهة أخرى، فماد فأطلق ناره فأخطئه، وأبتعد النمر. . . فالتفت الأعرج ليعود فقلت: ويلك ماذا تصنع؟ فقال: وماذا تريد أن اصنع؟ لقد ذهب! قلت: أفلا أوقظ الركب؟ قال: لا، بل نم أنت أيضاً وتركني الخبيث وذهب فنام وأنا اسمع غطيطه؛ ومرت عليَّ ليلة وأين منها ليلة النابغة؟ كاد يقتلني النعاس، وكلما غفوت توهمت النمر يحملني بين أسنانه كما تحمل الهرة الفأرة، فأفيق مضطرباً أنظر حوالي وأنا أتعوذ حتى طلع الفجر وما أدري كيف طلع! هذه هي ليلة الخوف عندي، فمن سخر من خوفي فأنا اسأل الله أن يريه نمراً في المنام لا في اليقظة لينظر ماذا يكون من أمره. قمنا - على عادتنا - في الغلس فشهدنا طلوع الفجر ونحن نعد الطعام ونهيأ للرحيل، ولقد كنا نسمع بالفجر سماعاً ونقرأ صفته في الكتب، ونعلم أن في الدنيا فجراً كاذباً وفجراً صادقاً ولكنا لم نره عياناً ونعرف صادقه وكاذبه إلا في الصحراء؛ وتركنا ساح الغزوان قبل أن تطل الشمس على الدنيا متوجهين إلى الجنوب. فلم نسر إلا قليلاً حتى كثرت من حولنا الهضاب، فكنا نوالي الصعود والهبوط، واستمر ذلك نحو تسعة أكيال، ثم انقطعت الهضاب وابتدأت القور وهي كالأكم ولكنها مؤلفة من الصخر الأسود، وربما كانت القارة صخرة واحدة عظيمة أشبه شيء بالمخروط الناقص (عند أهل الهندسة)، وكانت هذه القور صخوراً مطبقة هرمة كالتي وصفنا آنفاً، فكنا ندور بالسيارات فيما بينها ونمشي خلالها، وامتدت بنا ستة أكيال، ثم انتهينا إلى سهل مبسوط كالكف سرنا فيه كيلين، ثم عادت الهضاب والقور تتخللها أراضٍ منبسطة وامتد بنا ذلك عشرة أكيال، ثم عرضت لنا حجارة كبيرة ملئت الأرض ولقيت منها السيارات شدة وبلاء، ثم أخذنا بالصعود، نرتقي سفوحاً وعرة صعبة، إلى أن غبنا بين جبلين عاليين صخرهما من ذلك الصخر المطبق الهرم الذي يتفتت، فسرنا خمسة أكيال فانتهينا إلى بقعة قال الدليل إنها ملتقى طريق الجوف (أي دومة الجندل) بطريق المدينة خلفنا طريق الدومة عن شمالنا ووالينا الصعود خمسة وثلاثين كيلاً أخرى، التقينا بعدها بالخط الحديدي، ووقفنا قبالة محطة صنعاء، وهي قائمة وحدها في البادية، وقد نزعت منها أبوابها وشبابيكها ولم يبق منها إلا جدرانها مائلة تستبكي من كان له قلب، وكان في قلبه إيمان. . . وماذا لعمري يجدي البكاء؟

(لها بقايا)

علي الطنطاوي