مجلة الرسالة/العدد 372/من عجائب الاجتهاد!
→ خواطر في الحرب | مجلة الرسالة - العدد 372 من عجائب الاجتهاد! [[مؤلف:|]] |
على هامش الحرب ← |
بتاريخ: 19 - 08 - 1940 |
(لناقد أديب)
قرأت كلمة الأستاذ زكي طليمات في الذود عن مسرحية مفرق الطريق، فسرني والله إعجاب الكاتب بهذه المسرحية، وتسجيله هذا الإعجاب لثالث مرة. وليس أدعي إلى السرور من أن تكون آثار أدبائنا موضع هذا الاهتمام من كتابنا الناقدين، وان يدور الإعجاب بينهم مدار الأنخاب، فتنتفي الشكوك وتختفي الظنون ولا يكون هناك محل لعجائب الفهم أو عجائب الاجتهاد!
ومن الخير أن يكون لي نصيب من هذه الأنخاب، فأسجل إعجابي بالأستاذ طليمات؛ وفيما ذكره عن كانت وبرجسن وإبسن وغيرهم دليل على احتشاده للدفاع عن المسرحية أو عن رأيه الأول فيها.
والأدباء الذين يعرضون للنقد لا يتناولونه من الجانب الهين، ولكنهم لا يسعون إلى التعقيد أيضاً، فإنهم يذكرون مع الأستاذ طليمات أن قصيدة الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد في القمة الباردة ترجع إلى أصول من فلسفة (كانت) في المعرفة. يذكر الأدباء هذا ويذكرون أن أداة (كانت) في الوصول إلى حقائق الأشياء وما وراء الطبيعة هي (الشيء في ذاته) ويذكرون أيضاً أن فلسفة (برجسن) في المعرفة وحقائق الأشياء وما وراء الطبيعة تستعين بالبصيرة
فالمعرفة والوصول إلى حقائق الأشياء وما وراء الطبيعة غاية مشتركة، وإن اختلفت الوسيلة أو الأداة، وليست كما هي في مسرحية مفرق الطريق، هذه الأخيلة الذاوية أو الوجدان الكابي أو الصور المضطربة وإن ظنها البعض من مذاهب التصوف كما يقول الأستاذ ليروي في بحوثه الأخيرة وتعريفه لفلسفة برجسن. والإلمام بالفلسفات شيء، والتطبيق شيء آخر؛ فلو ذهبنا في التطبيق والمنطق لوجدنا أن هذه المسرحية تقوم على أشياء من هنا ومن هناك؛ فهي من (كانت)، وهي من (برجسن)، وهي من (إبسن)، وهي من أشياء أخرى لم يتحدث عنها النقاد ولا المؤلف، لأنه يمضي بينها على غير هدى، ولأن عجائب التحصيل والروية والاجتهاد لا بد أن تخلق عجيبة في عالم الفلسفات، وسبحان من يجمع العالم في واحد. هذه الأشياء الأخرى التي تحدثت عنها فلسفة قديمة يقضي مذ أنه لا يحق لنا أن تستدل على وجود الكائنات بحياتنا الخارجية، وأن العقل الفردي لا يثبت أي شيء خارج نطاق طائفة متلاحقة من الأحاسيس والتصورات والفكرات إلا إذا كانت في نفوسنا؛ فالموجودات لا وجود لها إلا بنا.
يقول بهذا جماعة السوليبزم ويقول به مؤلف المسرحية ص21: (إن الأشياء لا وجود لها إلا بنا)؛ ولا أغض من جهد المؤلف إذا قلت إن مسرحيته (تخريمة) في الفلسفات وتصنيف من حشو التأليف، فمن عجائب الفهم حقاً أن يتظنن بي الكاتب الفاضل وأن يخدعه إعجابه فيمضي إلى تعريف المذاهب الفلسفية وما بين الأستاذ العقاد ومؤلف المسرحية من فروق فيها؛ والأمر لا يحتاج إلى كل هذا العناء لأني لم أتناول غير جانب الاقتباس؛ والأستاذ زكي طليمات يقرر في ختام مقاله أن لا بأس في ذلك، وأن المعاني والأفكار أشياء مبذولة للناس.
وأنا لا أريد أن أخدع القراء بحديثي أو تخدعني الفلسفات بحديثها عما أسلفت البرهان عليه. فأنا لم أختر للمسرحية الرمزية هذه الصعود المثلوجة ولا الطريق المنار يمضي فيه العقل صاعداً؛ وأنا لم أختر هذا المنحدر المظلم يمضى فيه الشعور هابطاً؛ وأنا لم أخترع صراعاً بين قلب يحترق في الظلمة، وعقل يريد أن يمضي في صعوده المثلوجة وطريقه المنار ليحيا في هدوء وعمق وصفاء البحر؛ وأنا لم أدع في ختام المسرحية دعوة الأستاذ العقاد في ختام قصيدته إلى النزول والانحدار - لم أختر لهذه المسرحية كل هذه الأشياء، وإنما اختارها المؤلف نفسه، وتكلم عنها في تبيينه، فرأيت فيها قصيدة القمة الباردة وبيتين من قصيدة (قلبي). . .!
ولقد عملت هذه الأشياء عملها في نفس وعقل الفنانة الباريسية (سوزان جوفروا) فكانت الصورة المزدان بها غلاف المسرحية، وإذا الصورة جبل تغطي قمته الثلوج، ومفرق طريق تقوم فيه شجرة جرداء قد شظف عودها أو (فترت عندها الحياة)، وطريق منار ينتهي بين الثلوج إلى هذه القمة، ومنحدر يمضي في الظلام إلى أدنى الجبل حيث مشاهد الحياة وضرامها. هذا ما فهمته الآنسة الفنانة من المسرحية، صورته بريشتها رمزاً، فكون هذا الرسم من تصميمها وليس من عمل المؤلف دليل على صحة رأيي وليس دليلاً على غيره.
ولكن الأستاذ طليمات يقول في كلمته (وقد شرح المؤلف وضع المسرح في التبيين الذي صنعه للمسرحية ص140 مشيراً إلى رمز الغلاف، ولم ترد في تبيينه كلمة (قمة) ولا (غور) ورأى بعد الذي ذكرته أن الأمر لا يتطلب هذا التعريف، فبماذا تنتهي صعود مثلوجة على جانب جبل؟ ألا تنتهي (بقمة)! وإلى أين ينتهي منحدر على سفح جبل؟ ألا ينتهي إلى (غور)! فالقمم والأغوار يملأ حديثها الأدب العربي والآداب الأخرى، ولا يقابل القمة في الصعود والارتفاع غير الغور في الهبوط والانحدار.
وأريد أن اقف هنا قليلاً، وأقف عند كلام من تبيين المؤلف، ففي مفرق الطريق هذا يتصارع العقل والشعور، فإذا انتصر العقل فقد مضى صاعداً بين الثلوج، وإلى أين؟ أليس لهذا الصعود من غاية، أو ليس لهذا الطريق المنار من نهاية، أليست هي القمة الباردة أو ثلوج الذرى؟
ويقول الكاتب الأديب إن الثلج عند بشر فارس رمز إلى خلاص النفس من ألم الإحساس البشري، وهذا التفسير جزء من كل، لأنه إذا انعدم الشعور بالألم فقد انعدم أيضاً الشعور باللذة، هو انعدام الإحساس إطلاقاً بخلجات الحياة، وهو العقل المجرد في فلسفة (كانت)، لأن انعدام الشعور معناه أن لا قلب هنا، وإنما يوجد عقل موغل في طريق المعرفة، فالمؤلف قد أخذ لنفسه من قصيدة العقاد ما رآه موائماً لموضوعه، ملائماً لصور المسرحية. ولا يعني الكلام شيئاً حين نقول إن المسرحية تدور حول قضايا النفس البشرية، فإن العقل له أثره الظاهر في هذه القضايا، وسبق الكلام على ذلك في مستهل هذه الكلمة، وفي حديث فلسفات
وووأخيراً فإني لم أتناول هذه المسرحية إلا من جانب واحد، هو جانب الاقتباس، ولم أبد فيها رأياً كما أبداه الكثيرون ومنهم الأستاذ طليمات، ولم أتعرض لهذه الرمزية في المصنوعة بعد التحصيل والروية والاجتهاد؛ والأصل في الرمزية أن تنشأ مع النفس وفي التفكير، لأنها التعبير عما وراء الطبيعة، أو ما وراء أفق الشعور، بما تعجز الألفاظ عن إبانته والإفصاح عنه؛ فإذا كان التعبير مستطاعاً، وإذا كانت الألفاظ قادرة أن تؤدي معاني النفس وخطرات العقل في يسر وإيضاح، فلا موجب إذن لهذا الاصطناع.
ولم أر في المسرحية إلا حواراً عادياً، ومعاني لا ترتفع عن أفق الشعور، وصوراً من الأحاسيس لا تضيق بها الألفاظ، وإشارات لا تجد اللغة عسراً في الإبانة عنها وهي في سعة، لم أجد شيئاً غير هذا، ولكني وجدت أديباً يؤلف ليقال عنه إنه رمزي.
نشأت الرمزية مع النفس ولم تصنع، نشأت في الأدب كما نشأت الواقعية والبار ناسية وغيرها، ومحال أن يكون في استطاعة الكاتب أن يكتب، وأن يكون مجال الإشراق والطلاقة مهيأ له، فيغمض ويبهم ويظلم، ويسعى إلى الرموز والكفايات عمداً وكدِّا، لا اضطراراً ولا فنِّا فيفقد طلاقته الفنية، وإشراقه الوجداني، كما صنع مؤلف مسرحية مفرق الطريق. بينما الطريق أمامه عريض ومتسع وممتد إلى غايات كثيرة في المسرحية الرمزية، وفي استحداث التشابيه والأغراب فيها كما شاء مع لطف الإشارة ورشاقة التخلص؛ وهذا الغموض الذي يلقي ظلاله أحياناً فيبهر ويسحر، وخصوصاً إذا كانت القضية هي قضية القلب والعقل بين امرأة ورجل!، ولا أنسى حديث الرمزية عن المقبرة البحرية للشاعر الفرنسي بول فاليري، وقد ذهب إليه جماعة من النقاد والكتاب يستوضحونه ما استغلق عليهم من معاني هذه القصيدة الرمزية وكلماتها، فكان جوابه لهم أنه لا يملك إيضاحاً ولا إبانة أكثر مما عبر عنه من الكلمات والعبارات في قصيدته.
وهأنذا قد خلصت من ضباب هذا الإبهام أو الإيهام، وما أراني إلا كهذا الإنجليزي الذي كان يسمع عن أشباح هائلة تظهر في الضباب كل صباح، فلما كان ذات يوم نُضبٍّ رأى في طريقه عن بعد شبحاً يروع منظره، وكان كلما اقترب منه تضاءل هذا الشبح حتى إذا ما التقى به لم يكن غير إنسان عادي، عرف في وجهه أحد معارفه!!
ولقد مشيت وسط هذا الضباب وبين حديث الفلسفات إلى مسرحية (مفرق الطريق)، فلما دنوت منها وتبينت سماتها واستظهرت دقائقها، لم أجد شيئاً يروع ويعجب، وإنما رأيت شيئاً عادياً كالذي رآه ذلك الإنجليزي.
(ناقد أديب)