مجلة الرسالة/العدد 372/على هامش الحرب
→ من عجائب الاجتهاد! | مجلة الرسالة - العدد 372 على هامش الحرب [[مؤلف:|]] |
نحن وفرنسا ← |
بتاريخ: 19 - 08 - 1940 |
الطابور الخامس في القرآن
للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة
- 3 -
أهل الكتاب
أعمالهم والحرب معهم: إجلاء بني قينقاع وبني النضير.
انتقاض بني قريظة في غزوة الخندق. غزو خيبر
نتحدث اليوم عن عداوة اليهود المسلحة بعد دسائسهم وكيدهم للرسول ولدينه ولأصحابه في أوقات السلم:
كان من أول ما فعله الرسول بالمدينة أن عاهد اليهود، وأقرهم على دينهم وأموالهم. ومن عهده لهم كما تقدم: وإن من تبعنا من يهود فله النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وما كان بينهم من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله ورسوله.
غير أن هذا العهد الذي يوحد بينهم في السلم والحرب، ويقضي عليهم بالتناصر وبالعيش معاً في أمن وراحة، لم يكن مرعيَّا إلا من جانب محمد. أما اليهود فلم يرعوه إلا مضطرين؛ فإذا سنحت الفرصة تحللوا منه، ورأوا نقضه فرضاً عيهم، (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأُميين سبيلٌ) ومن أمثلة تسترهم على المغيرين ونقضهم بذلك عهدهم للرسول أن أبا سفيان كان قد حلف بعد هزيمة قريش في بدر ألا يمس طيباً حتى يغزو محمداً، ثم خرج لذلك في مائتي راكب من قريش يود لو يصيب من المسلمين دماً أو مغنماً، ونزل على بني النضير المعاهدين لرسول الله؛ وعرفوا غايته، وكان الواجب يقضي عليهم أن يخبروا محمداً بذلك، ولكنهم لم يفعلوا. وسار أبو سفيان حتى نزل ناحية يقال لها (العريض) فحرق نخلها وقتل اثنين من الأنصار، وأحس المسلمون بأمر أبي سفيان فخرجوا للقائه ففر فتعقبوه، فألقى هو ومن معه زادهم في الطريق، وكان من السويق فسميت الغزوة غزوة السويق.
بنو قينقاع
ثم إن يهود بني قينقاع - وهم أول من جاهر بنقض العهد من اليهود - أظهروا ما خفي في نفوسهم بعد بدر، وهددوا الرسول، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، نزلوا في آخرها على حكم حليفهم عبد الله بن أبي، فحكم أن يجلوا عن المدينة، فخرجوا منها إلى أذرعات بالشام.
بنو النضير
ثم جاء دور بني النضير، فإن النبي ذهب إليهم يستقرضهم دية قتيلين مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري وهو يحسبهما مشركين، فأظهروا حسن استعدادهم لإجابة طلبة. ولكنهم ائتمروا به ليقتلوه، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة، وأراد أن يقليها على رأس النبي من أعلى الجدار الذي كان مستنداً إليه، فأمسك الله يده، وأخبر رسوله بكيدهم وسلطه عليهم، وفي ذلك يقول الله: (يا أيها آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ هَمَّ قومٌ أن يبسُطوا إليكم أيدَيهم فكَفَّ أيدَيهمْ عنكم)
ويقال إنهم كانوا صالحوا النبي ﷺ على ألا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر المسلمون في بدر قالوا هو الرسول الذي نعته في التوراة؛ فلما هُزم المسلمون في (أُحد) ارتاب اليهود ونكثوا عهدهم، وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالفوا عليه قريشاً، وتلك محالفة تجعلهم خطراً عظيماً على المسلمين لأنهم من المدينة، وفي استطاعتهم التجسس لقريش على المسلمين، وإرشادهم إلى مواطن الضعف في الجيش الإسلامي، وأحسن الأوقات للهجوم، وغير ذلك من أعمال الطابور الخامس.
عرف النبي الكريم بأمر هؤلاء القوم ونياتهم، وسلطه الله عليهم فصبحهم بالكتائب ودعاهم إلى الخروج من المدينة، فقالوا: الموت أحب إلينا. وتنادوا بالحرب، فحاصرهم النبي؛ ويقال إنهم استمهلوه عشرة أيام يتجهزون فيها للخروج، وفي تلك الفترة أرسل إليهم المنافقون أنهم ناصروهم إن قاتلهم المسلمون، وأنهم سيخرجون معهم إن أُخرِجوا. فتحصنوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، ولكن الحصار اشتد عليهم، وقعد المنافقون عن نصرتهم وقذف الله الرعب في قلوبهم؛ وطلبوا الصلح، فأبى الرسول إلا الجلاء، فجلوا إلى الشام: إلى أريحا وأذرعات، وجلا آل حيي بن أخطب إلى خيبر.
ونزل في هذا الجلاء والمفئ الذي ظفر به المسلمون، والمنافقين الذي غروا اليهود أكثر سورة الحشر: (هو الذي أخرجَ الذي كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يَخْرُجوا، وظنوا أنهم مانِعتُهِمِ حُصُونهُمْ من الله. فأناهم الله من حيث لم يَحْتسِبوا، وقَذَف في قلوبهم الرعبَ. يُخْربون بُيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار). ثم بين سبب ما حل بهم وما أعده لهم من عذاب النار فقال: (ذلك بأنهم شاقُّوا اللهَ ورسولَهُ ومن يُشَاقِّ الله فإن الله شديد العقاب)
أما المنافقون الذين وعدوا اليهود النصر فحديثهم في هذه السورة قوله تعالى: (ألم ترى إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أُخْرِجتُمْ لَنَخْرُجَنْ معكم، ولا نُطيعُ فيكم أحداً أبداً، وإن قوتلتم لَنَنُصرنَّكم، والله يشهد إنهم لكاذبون. لئن أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم، ولئن نصروهم لَيُوَلُّنَّ الأدبار)
ثم بين حالهم من اليهود وخذلانهم لهم فقال: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالِديْنِ فيها، وذلك جزاء الظالمين)
الأحزاب
لم يترك اليهود فكرة الانتقام من محمد لحظة واحدة، وقد هداهم تفكيرهم إلى أن خير وسيلة للانتقام منه هي تخريب الأحزاب عليه واستئصاله هو ومن معه من المسلمين، فخرج بعض من نزل خيبر من بني النضير إلى مكة، وحالفوا قريشاً عليه، ودعوهم إلى حربه؛ فقالت قريش: يا معشر يهود، أنتم أهل الكتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منا، وهو أقرب منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا. فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقالت اليهود: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى وأولى بالحق منه. وذلك افتراء على محمد وكذب على الله وعلى التوراة، ولكن الحقد أضلهم أو لعلهم رأوا الغاية التي يرجونها، وهي استئصال المسلمين، تبرر الوسيلة، ولو كانت الكفر بكتابهم وربهم.
ثم ساروا إلى غطفان فأعدوها لحرب النبي، وخرجت قريش وغطفان يريدون المدينة؛ فلما علم النبي بخبرهم استشار أصحابه في الوسيلة التي يتقي بها تلك الأحزاب العظيمة والجموع المحشودة لاستئصاله. فأشار عليه المسلمون أن يحفر خندقاً في الناحية المخوفة من المدينة، فقبل ولم يكن للعرب عهد به؛ فلما وصلوا حجز بينهم الخندق. ولكن هل اكتفى اليهود بتلك الجموع وحدها؟ إن لهم في المدينة إخواناً في الدين يصح استغلالهم ليكون خطرهم على المؤمنين شديداً، أولئك هم بنو قريظة.
بنو قريظة
هذب حي بن أخطب إلى سعد بن كعب سيد بني قريظة، وصاحب عهدهم، وكان بين سعد وبين النبي عهد أن ينصره إذا حورب كما تقدم، وأن يكون معه على من دهم يثرب، فأغلق سعد بن كعب الباب دون حي، ولكنه استجاب أخيراً لدعوته، ونقض عهده، وانضم إلى الأحزاب، وسمع النبي بذلك فأرسل سعد بن معاذ سيد الأوس وحليف بني قريظة وأرسل معه سعد ابن عبادة سيد الخزرج ليعلما له صدق الخبر، وكان أمر بني قريظة يهمه أكثر مما يهمه أمر الأحزاب، لأن بني قريظة في بلده لا يفصل بينه وبينهم خندق ولا غيره، وخيانتهم في هذا الوقت الحرج تؤثر أثراً بالغاً في جيشه.
ولما بلغ الرسولان بني قريظة وجداهم على أخبث حال من الغدر والخيانة، نالوا من رسول الله بألسنتهم ونقضوا عهدهم، وقالوا لا عهد بيننا وبين محمد. فشاتمهم سعد بن معاذ؛ فقال له سعد بن عبادة: إن ما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم عادا إلى رسول الله وأخبراه بما عليه القوم فعظم البلاء على المسلمين، واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديدا.
وأقام المسلمون على ذلك الحال من الخوف والحذر بضعا وعشرين ليلة، ثم قبض الله لهم نعيم ابن مسعود الأشجعي فجاء النبي مسلماً، وقال له إني أريد مساعدتك وإني رجل واحد؛ فقال له الرسول: خذَّل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة، فاستطاع بحسن حيلته تدبيره أن يوقع الفرقة بين الأحزاب. وأرسل الله على هؤلاء ريحاً اقتلعت خيامهم، فعادوا إلى بلادهم من غير حرب، وفي ذلك كله يقول الله تعالى في سورة الأحزاب: (يأيها الذين آمنوا اذْكُروا نعمةَ اللهِ عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وُجنُودًا لم تَرَوْها، وكان الهُ بما تعملونَ بصيرا، إذ جَاءُكم مِنْ فوقِكم) وهم بنو قريظة، (ومن أَسْفلَ منكم) وهم الأحزاب، (وإذْ زَاغتِ الأبصارُ وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظُّنونَا. هنالِك ابتُليَ المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)
أليس عمل بني قريظة من أخبث الغدر، وأخطر الأعمال؟ وأي فرق بينهم وبين جماعة النازي من الطابور الخامس في تشكوسلوفاكيا وهولندا والنرويج؟ وماذا يكون جزاؤهم من الرسول بعد أن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وأعانوا العدو على حليفهم في أشد الأوقات حرجاً؟ لابد من التخلص منهم سريعاً. ولهذا أمر الرسول المسلمين بعد انصراف الأحزاب ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة. وذهب إليهم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله الرعب في قلوبهم وطلبوا الصلح، فقال رسول الله: تنزلون على حكمي؟ فطلبوا أن يحكم فيهم حليفهم (سعد بن معاذ) سيد الأوس، فحكم بقتل رجالهم، وسبي نسائهم وذراريهم، ثم نفذ القتل في سوق من أسواق المدينة. وفي عاقبة بني قريظة يقول الله في سورة الأحزاب: (وأنزَلَ الذينَ ظاهروهمْ من أهلِ الكتابِ من صَياصِيهِمْ، وقذفَ في قلوبهمُ الرُّعبَ، فريقاً تقتُلون وتأسِرون فريقاً، وأورثكم أرَضهُم ودِيارَهم وأموالَهم وأرضاً لم تَطئُوها، وكان الله على كل شيء قديرا)
لم يبق من أهل الكتاب - اليهود - إلا أهل خيبر، فرأى الرسول أن يأخذ بالأحوط وأن يستريح منهم بقوة السلاح،. فسار إليهم بعد صلح الحديبية ونزل بساحتهم وحاصرهم فامتنعوا بحصونهم، فشدد المسلمون عليهم الحصار حتى استولوا على حصونهم واحداً بعد الآخر، وطلبوا الصلح، فصالحهم على نصف ما تغله أرضهم على أن تبقى في أيديهم، وللمسلمين أن يخرجوهم منها إذا شاءوا. ثم صالح أهل فدك على مثل ما صالح عليه أهل خيبر.
من هذا نرى أن جماعة الطابور الخامس من أهل الكتاب هم اليهود، وقد قدمنا عملهم في السلم في المقال السابق، أما عملهم في الحرب فهو - كما في هذا المقال - أنهم كانوا ينقضون العهود في أشد الأوقات حرجاً، ويخونون الله ورسوله عندما يكون المسلمون في أشد الاطمئنان إليهم، وفي أعظم الحاجة إلى نصرتهم أو حيادهم، وأنهم دبروا قتل النبي في حين أمنه إليهم وثقته بعودهم.
بقي من الطابور الخامس في القرآن المنافقون وحديثنا عنهم قريب إن شاء الله.
(القاهرة) عبد الرزاق إبراهيم حميدة