مجلة الرسالة/العدد 372/رسالة الفن
→ من جحيم القيود | مجلة الرسالة - العدد 372 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 19 - 08 - 1940 |
من أي فن؟
فكر يفكر تفكيراً
فهو إذن مفكر
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
أردت أن أكيد لصاحبتي فجعلت إليها (حمار الحكيم) وقلت لها: (أقرئي هذا الكتاب وستجدين فيع فصلاً يذكر المرأة المصرية بما أحب أن أعرف رأيك فيه) وقد كنت أعلم أن صاحبتي لن يسرها شيء مما أريدها أن تقرأه، فقد نال (حمار الحكيم) من المرأة المصرية نيلاً موجعاً، وقد كنت أعلم أيضاً أن صاحبتي طويلة اللسان لا تسكت على الضيم ولا الأذى، وانتظرت بعد أن تفرغ صاحبتي من القراءة أن استمتع بثورة من ثوراتها التي تشنها على خصومها، وكل ثوراتها حريفة تنفح النفس وتوقظ العقل.
كنت أنتظر ثورة ما، مهما تكن فإنها ثورة لا نظام لها ولا خطة ولا هدف محدد. ولكن الذي حدث شيء لم أكن أتوقعه، فقد كتبت لي بنت حواء فصلاً هو هادئ حقاً ولكنه مسمم نفثت فيه المرتورة كل ما احتبس في نفسها من الغل الذي ظل صاحب الحمار يلهبه ويشعله في نفوس بنات حواء منذ انطلق يكتب. . . وعلى ما في هذا الفصل من السم، فإن فيه لذة، وإني لذلك أعرضه على القراء لعل فيهم صديقاً للأستاذ توفيق الحكيم ينقذه من بين براثن هذه (الغولة) العاتية التي ترى بعينيها الحمراوين ما لا نراه نحن بعيوننا البريئة السالمة. . .
قالت وقانا الله شر أقوالها:
(يا حضرة الرجل
لا تحية ولا سلام. أول ما قرأت في هديتك هو هذا الكلام المطبوع على الشريط من الورق الذي لف به الأستاذ توفيق وبأمثاله نسخ كتابه. وهذا الكلام هو بنصه: (الأمة الحية) هي الأمة التي يبقي فيها (الفكر) قائماً بوظيفته و (الإنتاج الفكري) مستمراً على الرغم من نوازل العلل والخطوب والأهوال. . . ثم علامة استفهام، ونقطتان. . . فقلت في نفسي: لابد أن تكون في هذا الكتاب فكرة يلفت الأستاذ الحكيم النظر إليها بهذا الكلام، ولابد أن تكون هذه الفكرة من الجلال بحيث تعتبر من علامات الحياة في أمتنا المصرية أو أمتنا العربية التي استمر واحد من مفكريها الكبار (ينتج) على الرغم من نوازل العلل أولاً، ومن الخطوب ثانياً، ومن الأهوال ثالثاً، ومن علامة الاستفهام والنقطتين بعد ذلك. كله. . . ولكني لما قرأت الكتاب لم أجد فيه من هذا كله إلا ما سأذكره لك يا حضرة الرجل وهو بعيد كل البعد عن نوازل العلل والخطوب الأهوال وما إلى ذلك.
على أني أسمي هذا الكتاب كتاباً تجوزاً. فأنا اعرف الكتاب كلاماً متجهاً إلى قصد معين يستطيع الإنسان أن يلخصه في جملة مفيدة إذا فرغ من قراءته، ولكن (حمار الحكيم) هذا كلام لا يستطيع أحد أن يلخصه لأنه مجموعة من الحكايات كل منها مستقل بذاته يمكنك أن تقرأها من الآخر إلى الأول كما يمكنك أن تقرأها من الأول إلى الآخر فلا تشعر إن كانت اضطربت أو ارتبكت، ثم إني لا أستطيع أن أسمي هذا الكلام قصة لأنه كما رأيت مجموعة حكايات، ولأنه يتخلله إلى جانب ذلك مقالات صغيرة، وبحوث تاريخية تشعر بأن الأستاذ الحكيم تصيدها تصيداً وضمنها الكتاب غصباً حتى تضخم الكتاب وكبر.
وإن لي ملحوظة أخرى على ضخامة الكتاب وكبر حجمه لا أحب أن أغفلها، وهي أن الورق الذي اختير فطبع عليه هذا الكتاب ورق غليظ، الورقة منه سمكها سمك أربع ورقات من الورق العادي، زد على ذلك الفراغ الذي بين كل سطر من هذا الكتاب يتسع لسطر كان يمكن أن يوضع بين السطرين فيقل حجم الكتاب كثيراً، وهذا شيء يظهر أن مؤلف الكتاب لا يستحسنه لسببين: أحدهما مادي والآخر أدبي، أما السبب المادي فهو أن الكتاب الضخم يباع بسعر أعلى من السعر الذي يباع به الكتاب النحيف، وأما السبب الأدبي فهو أن الكتاب الضخم يغتصب احترام القارئ أكثر مما يغتصبه الكتاب النحيف صحيح أن هذه ملحوظة ماكرة ولكن الذي دبرها هو الأمكر ممن لحظها. والذي دبرها هو الذي دبر معها عنوان الكتاب فجعله هذا العنوان الجذاب الذي يغري الجمهور بالتهافت على الكتاب، فالحمار (شخصية فنية) يحب الناس أن يعرفوا آراء الكتاب المحدثين فيها، ونظرتهم إليها، كما اطلعوا على أقوال القدماء فيها وتعليقاتهم عليها، والأستاذ توفيق الحكيم معتبر من هؤلاء المفكرين، وقد شوقني عنوانه فعلاً إلى قراءة الكتاب ولكني لم أجد في الكتاب شيئاً عن الحمار الفني، وإنما وجدت أن الأستاذ اشترى جحشاً في القاهرة ثم صحبه إلى الريف فتركه يموت هناك جوعاً لأنه لم يجد حمارة ترضعه، ولذلك أبيح لنفسي بأن أتهم الأستاذ بأنه استدرج القراء إلى كتابه بخدعة هي أبلغ من خدع النساء جميعاً.
وكما دبر الأستاذ الحكيم هذه الخدعة في العنوان فقد حاك خدعة أخرى نصب شباكها في بقاع عديدة متفرقة من الكتاب، تلك أنه ما فتئ يلح على القارئ بين كل صفحة وأخرى بترديده القول بأنه مفكر، وبأنه يفكر، وبأنه فكر، وبأنه سيفكر؛ حتى خفت على نفسي وأنا المتيقظة له بأن أقتنع بأنه يفكر حقاً مع أنه لم يدلني على هذا بدليل واحد غير قوله: إني أستغرق في تأملاتي، وإن ذهني يمتلئ بالمعاني والأفكار، وإني. . . وإني. . . وقد كنت أحب من غير شك أن أعرف في أي شيء يفكر الأستاذ كل هذا التفكير، ولكن لم اقف في طول الكتاب وعرضه على شيء غير هذه الأقول، اللهم إلا قوله في مرة من هذه المرات: والمعاني، إذا كانت هناك معان تذوب قبل أن تبلغ ذهني. فقلت في نفسي: لعل أفكار الأستاذ كلها من هذا النوع، فهو يفكر فيها طويلاً، ولكنها تذوب منه قبل أن يمسكها، فهو معذور إذن إذا عجز عن أن يعرضها على قرائه.
ولننتقل بعد ذلك إلى الكتاب أو القصة، ولنقف فيها وقفات عاجلة لنرى فيها مواطن البراعة في هذا الكتاب الذي يكيد للنساء والذي كنت تريد أن تكيد لي به. وفي سبيل هذا لابد أن نهمل الحمار فهو بطل محشور في القصة حشراً ليستعار اسمه عنواناً لها لغرابته وطرافته لا أكثر ولا أقل.
أما بطل القصة الحقيقي فهو الأستاذ توفيق الحكيم نفسه الكاتب الذي جاءه مخرج فرنسي ليضع له حوار قصة ريفية مصرية، وكان موسم (الإنتاج الفكري) لهذا الكاتب قد انتهى، فاعتذر للمخرج بذلك مؤكداً له أنه لا يستطيع أن ينتج إلا في (الموسم فقط) كأنما الفكر فول أو قطن أو مشمش، فأغراه المخرج بالمال وصحبه إلى الريف ليهيئ له الجو، ومع ذلك فإنه قعد عن صنع الحوار واضطر في آخر الأمر إلى أن يلجأ إلى اعتذار جديد، وهو أن الكاتب الحق لا يستطيع أن يكتب للسينما، لأن الكاتب الحق الذي مثل الأستاذ توفيق الحكيم لا يصنع كلاماً لأشخاص، وإنما هو يصنع أشخاصاً يتكلمون.
هذا هو صلب الحكاية التي أوردها الأستاذ في هذا الباب وأنا أعلم من هذه الحكاية شيئاً لم يورده الأستاذ في هذا الباب وإن كان حدث في الحكاية. ذلك أنه بعيد كل البعد عن إتقان الحوار الريفي، ودليلي على ذلك أن الأستاذ عرض في الكتاب لمواقف أجرى فيها الحديث بين بعض أبناء الريف فما كان يزيد على جملة أو جملتين، ثم يقف الحوار الريفي بعدهما ويسترسل يكتب بلغته الغريبة الفصحى راويا بقلمه ما كان يريد أن يرويه أبناء الريف بألسنتهم، ومثال ذلك قصة المعلم ملطي التي رواها واحد من الفلاحين للأستاذ وقال له فيها إن قتيلاً قتل في الحجرة التي أعدت له. فقد مهد الأستاذ لهذه القصة بحوار بينه وبين ذلك الفلاح، فلما جاء الفرح ليروي القصة خطفها الأستاذ منه ورواها هو، وما من سبب عندي دعاه إلى ذلك إلا شعوره بالتعب من الكتابة بلغة الريف. وقد ظهر هذا التعب للمخرج - وإن لم يرد الأستاذ ذلك - فعدل عنه وعهد بكتابة هذا الحوار إلى الأستاذ محمود بيرم التونسي وقد قطع فيه الأستاذ بيرم شوطاً بعيداً وإن لم يؤلف كتاباً أو حماراً يروي فيه قصة ذلك السيناريو.
وليس هذا التعب عجيباً من الأستاذ توفيق فهو كاتب لم ينس الناس أن أحب صورة كان يحب من الناس أن يتصوروه بها هو صورة ذلك القاعد في البرج العاجي تحت ضوء المصباح الأخضر يسمع الاسطوانات الألمانية والفرنسية، ويقرأ الكتب الغربية، ويسرح بعد ذلك بين سحابات الفكر الذي لا أعلم ما هو ولا كيف تكون سحاباته. . . والواقع أن الأستاذ الحكيم من هذا النوع حقاً فهو متأثر بالقراءة بعيد عن الدنيا، وآية تأثره بالكتابة الغربية والصور الأوربية هو قوله عن نفسه في (الحمار): (فما أنا في الحقيقة دائماً سوى كوخ مقفر وسط صحراء من الجليد)، وهذه صورة روسية؛ ثم قوله على لسان واحد الفلاحين تصوره يناجي محبوبته: (إني لست ملاحاً، ولكنك لو كنت شاطئاً في بحر من البحار النائية لنشرت في الحال شراعي وانطلقت أجوب إليك البحار)، وهذه صورة إنجليزية أحس الأستاذ أنها إنجليزية فجعل المخرج وهو أحد أبطال قصته يعلق عليها بقوله: ذاك حوار من شكسبير. . .
ومع أن الأستاذ يدعي أنه من أصحاب الفكر والتأمل، ومع أني أعترف له أنه من أهل الوحدة الذين يحبون الانفراد بأنفسهم، فإني لا أظنه من أولئك المتصوفين الذين يريد أن يتصوره الناس منهم؛ فهو يقول عن نفسه: (إني لا أملك صفة من تلك الصفات التي تجذب الناس إليّ أو تغريهم بصحبتي، فإذا أنفقت الوقت بحثاً وتنقيباً في أرجاء نفسي الموحشة المقفرة فإنما يدفعني إلى ذلك الأمل في أن أستكشف في بعض شعابها معدناً نفيساً له شيء من البريق) فهذه صورة صبيانية للتأمل والتفكير، فالذين يستغرقون في التأمل في أنفسهم إنما يجدون فيها ما يغنيهم عن الاختلاط بالناس، فهي ليست نفوساً مقفرة موحشة، وإنما هي نفوس غنية ملأى بالحياة، وبما في الحياة من خير ومن شر، ملأى بالعواطف والنزعات على اختلاف ألوانها، ملأى بالعزائم، ملأى بالمآسي، ملأى بالأفراح. . . ثم إن أولئك الذين يعمدون إلى أنفسهم ليستخلصوا منها العلم لا يأخذهم مطلقاً البريق، ولا يطلبون مطلقاً ما هو لماع. . . فكل ما يطلبونه هو المفيد النافع الذي يستطيعون باستغلاله وتنميته أن يربوا إنسانيتهم. . . ولكن الأستاذ يظن الفنانين (مخابيل) ويظن أنه إذا أدعى الخبل اعتبره الناس فناناً، وإنه يدعي الخبل في أكثر من موضع في هذا الكتاب، فهو إذا كان في مجتمع نام، وهو إذا عهد إليه بعمل أهمله، وهو إذا كان في سيارته لم يعرف أين هو ولا متى خرج من بيته ولا متى يعود إليه، وهو حين يسمو جداً جداً في الفن يحادث بائع الذرة وكناس الجهة متبسطاً متواضعاً، وهذه أعمال تصدر عن الناس عفواً فلا يذكرونها، وتصدر عن الفنانين دوماً فلا يعلقون عليها، ولكن الذين يهتمون بها هم الهواة، وهؤلاء الهواة يحبون أن يقال عنهم إنهم مبعثرون، وإنهم متواضعون، وإنهم وإنهم. . . لأنهم يظنون أن الفن هو هذا، أو أن هذا هو أهم ما في الفن.
والآن تعال إلى هذه الدعوى العجيبة التي يدعيها الأستاذ إذ يقول إن الكاتب الحق لا يستطيع أن يكتب للسينما. . . وقل لي ما رأيك في شكسبير، وهيجو، وشو، ومارك توين، وتولستوي، وغير هؤلاء من الكتاب الذين أخرجت السينما آثارهم الفنية ووصلت بها إلى قمة المجد الفني. . . أليس هؤلاء كتاباً حقيقيين مساوين للأستاذ توفيق الحكيم؟. . . إنه يفر من هذا المأزق ويقول إن الكاتب الحق هو الذي يتجه إلى الكليات ولا يتجه إلى الجزئيات، فهو الذي يضع أشخاصاً يتكلمون، لا كلاماً لأشخاص. وأنا لا أدري هل الخياط الحق هو الذي يستطيع أن يصنع الأزياء للناس، أو هو ذلك الذي يصنع الناس للأزياء. إني موقنة أنه الأول، لأن الثاني هو الله سبحانه وتعالى وحده.
وأخيراً أختم خطابي هذا بالرد على ما يطعن به الأستاذ الحكيم المرأة المصرية إذ يقول إنها (حريم) لا أكثر ولا أقل، بينما الفن والشعر والأدب قد علم المرأة الأوربية ماذا تقول وماذا تفعل إذا أحبت. ولا يزيد ردي على هذا عن أن أقول له: إن الحب شيء لا يتعلمه الناس من الكتب ولا من الشعر ولا من الفن ولا من الأدب، وإنما هو الذي يعلم الناس هذا جميعاً، وهو موجود في مصر كما أنه موجود في سرنديب، وقد بعث في مصر من الشعر والأدب ما أعجب لتغافل الأستاذ عنه، فما كنت أحسبه ينسى هذا المواليا المصرة وهذا (الواو) المصري، وتلك الأغاني التي تنبعث من أصفى النفوس في أصفى القول وأبلغه وأصدقه. . . صحيح أن أدبنا وفننا ليس فيهما من أدلة الثقافة شيء كثير، ولكن الحب لا يحتاج إلى ثقافة في العبير عنه. . .
خبط الهواع الباب جلت الحبيب جاني
تاريك يا باب كداب تتهز بالعاني
. . . وليس الغرام وحده ما يصوره الأدب الشعبي المصري، وإنما هو يصور سائر ألوان الحياة المصرية، ففيه ملاحم، وفيه معارك، وفيه قضايا، وفيه بطولات، وفيه وفيه، ولعلك أنت يا حضرة الرجل تعرف مما فيه مثلما أعرف، ولعلك تكتب فيه قريباً فترفع عنه هذه التهمة الباطلة التي يتهمه بها الأستاذ الحكيم الذي يعيش في البرج العاجي تحت المصباح الأخضر. . . هنيئاً له. . .)
هذا هو الفصل الذي أرسلته إليَّ صديقتي، وأنا لا اشك مطلقاً في أن الذي أملاه عليها هو غيظها من الأستاذ الحكيم لأنه يخاصمها ويخاصم بنات جنسها جميعاً. . . ولكنني أيضاً لا اشك مطلقاً في أن كلامها واضح الصدق فيه.
وهي صديقتي، ولا أحب أن أخسرها في سبيل الأستاذ الحكيم؛ فإذا كان للأستاذ أصدقاء، فليردوا عليهم هم. . . أما أنا (فموافقون)!. . .
عزيز أحمد فهمي