مجلة الرسالة/العدد 372/رسالة العلم
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 372 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 19 - 08 - 1940 |
الأحياء في غير الأرض
هذه حدودنا فما حدود الغير؟
للدكتور محمد محمود غالي
الدهشة في تمييز الأشياء بالعين - تشابه رؤية الأشياء والاستماع للإذاعة - مملكتانا الحيوانية والنباتية بين ملايين الممالك الأخرى في الكون - جولات بين النجم القطبي ومجموعة ذنب الدجاجة - الحياة جائزة على غير الأرض.
تطل من النافذة فترى النيل عن يمينك ينساب مجراه في هذا الوادي منذ آلاف السنين وترى داراً عن يسارك يسكنها أهلها منذ أعوام طويلة، وتميز بالعين ذلك المجرى من تلك الدار، وقد اعتدنا ألا ندهش من هذه المقدرة على التمييز الذي تقوم به مداركنا في كل لحظات حياتنا، في يقظتنا وفي سباتنا، فعندما يقع ناظري على ابني أميزه عن ابنتي فإنني لا أفكر لحظة في أن هذه العملية، من تمييز النهر من الدار والابنة من الابن، من الأمور العجيبة التي تتصل بالحياة وما تحمل في طياتها من أسرار في التكوين.
إننا نميز الأشخاص بالعين باختلاف هؤلاء الأشخاص في الملامح، أو بالأذن باختلافهم في الصوت. هذا لصوته خشونة معينة، وهذه لصوتها نعومة تتفق مع خصائص جنسها وأنوثتها، وما هي عليه من ريعان الصبا، وهكذا نميز ما نراه وما نسمعه بحواسنا المختلفة التي تكونت أصولها فينا منذ أن كنا مادة حية تختلف عن المادة عادمة الحياة.
إنما أود أن ألفت النظر إلى أن إدراكنا لما تراه أو نسمعه أصبح من الأمور المألوفة التي لا نعجب لها، فنحن لا نفكر، ونحن نميز الأشياء أو المخلوقات. إن عملية التمييز تحمل في طياتها أموراً هي من أعجب ما نعرفه في الكون ولا نفكر أن في حاسة اللمس عمليات دقيقة وعديدة، وأن عدد الأعصاب الموجودة في الجلد والمتصلة بالمخ، والتي مهمتها نقل ما يحدث عند ملامسة الجلد إلى المخ - تبلغ في أجسامنا بضعة الملايين، ومع ذلك فثمة ظواهر أخرى نعجب لها رغم أنها أبسط في مصدرها أو في تفاصيلها من أجهزة اللمس الدقيقة والعديدة المتقدمة.
إنك تستمع للإذاعة اللاسكلية مثلا، ويعتذر المذيع عن خطأ وقع فيه وهو يطالع الأنباء فتسمع اعتذاره، فإذا طوى الورقة التي أمامه، أو وقعت من على النضد الذي هي عليه سمعت حفيف الورقة وهو يطويها وصوتها وهي تصطدم بالأرض، وكأنك معه رغم بعده عنك، فقد يكون المذيع في أمريكا وتكون أنت في القاهرة، وكأنكما تتحدان في المكان وإن اختلف وجودكما في الزمان، وإنك في كل ذلك تعجب أشد العجب لهذه المسألة التي تتلخص في أنك تسمع كل ما يحدث داخل عرفة الإذاعة مهما بعدت، إن تحرك بندول الساعة فيها سمعته وكأنه على مكتبك، وأنت تعجب من ذلك، ولا تعجب عندما ترى النيل وترى الدار المجاورة له فتميز بينهما دون أن تعجب من إتمام هذه العملية التي تتلخص في أنك رأيت النيل والدار وأدركت فارقاً بينهما، وعند ظني أنه يجب أن يكون للأمرين: سماع الإذاعة ورؤية الدار، الدرجة ذاتها من العجب.
أن يصبح وجود الدار في الكون الأثيري - حادثاً يعدل من شأن هذه التموجات الأثيرية حولها، فنرى الدار بما أحدثه وجودها من تعديل في كون خلا من قبل منها، فنراها بما ترسله أو بما ينعكس عليها من إشعاع، ونراها بألوانها المختلفة التي تصل العين والتي يعين كل لون منها عدداً معيناً من الذبذبات التي تصل إلينا في أزمنة متتابعة ومن مواقع مختلفة، كل يمثل لوناً معيناً وموضعاً مستقلاً، وتصل كل هذه الذبذبات المختلفة في عددها وفي طول أمواجها إلى العين، وبالتالي يصل أثرها تباعاً إلى المخ، فينشأ عن هذا الإحساس بالدر وألوانها وحدودها مع تبين موضعها. إن هذه أمور كلها تدعو إلى الإعجاب.
أن تحدث الأمواج الصوتية من المذيع أمواجاً كهربائية، نتيجة لاجتهادنا الشخصي، وأن تكون هذه الأمواج الكهربائية ضمن سلسلة الأمواج الضوئية المتقدمة، نتيجة للوضع الطبيعي في الكون، وأن تصل هذه الأمواج إلينا، مهما ابتعدنا عنها ما دمنا موجودين على ظهر ذلك الكوكب الصغير الذي يجذبنا إليه كما يجذب هذه الأمواج، كل هذه أمور لا يجوز أن تعتبرها أعجب من المسألة السابقة.
فالاستماع للإذاعة أو رؤية الدار أو غير ذلك مظاهر في الكون متشابهة، والمذياع جهاز أقل تعقيداً من العين، وأعظم ما في الأمر من دهشة، هو ما يحدثه وجود هذا الجسم الذي نسميه الدار من نتوء في هذا الكون، ومن حدث موجي يؤثر في أحد هذه الأجهزة وهو العين، بقدر ما أحدثه الجسم من نتوء واتساع.
ولا يعجبن القارئ كثيراً من عظم السرعة التي يقطع بها الضوء أو الكهرباء المسافات الكونية (للظاهرتين كما قدمنا في مقالات سابقة سرعة واحدة تقرب من 300 ألف كيلو متر في الثانية) لأننا اعتدنا أن نسمي الشيء عظيماً إذا كان عظيماً بالنسبة لنا، وما اعتدناه من خطوات متثاقلة وبطيئة لا شيء بجانب خطوات الضوء السريعة، ولكنا لسنا كل شيء في الكون ومن الحكمة ألا ننظر إلى الأشياء دائماً بالمقاييس التي اعتدناها، وقد لا نكون في الكون إلا نوعاً من المخلوقات بين بلايين المخلوقات الأخرى، وقد لا تكون مملكتانا الحيوانية والنباتية إلا مملكتين اثنتين بين ملايين الممالك الأخرى في الكون؛ وتختلف هذه الممالك عنا في الشبه وفي المميزات أو الخواص وقد لا نكون إلا مخلوقاً واحداً من هذه البلايين من المخلوقات. لنا درجة في الإحساس لا نتعداها؛ فنحن نستطيع أن نرى الدار ونميزها من النيل، كما نستطيع أن نرى الأشخاص فنميز الواحد منهم من الآخر، ولكننا لا نستطيع أن نعرف ما بلغته الحواس عند الغير، وأننا نستمع للإذاعة اللاسلكية، بفضل عمل الإنسان، ولا يفترق موضوع رؤيتنا للدار عن موضوع استماعنا للإذاعة إلا أننا نرى الدار بحواسنا بطريقة مباشرة، ونستمع لاسلكياً للبعيد بأجهزة بسيطة، هي صنع أدينا وثمرة تفكيرنا، وهي مهما بلغت لا تزيد في طبيعة حواسنا أو قوتها وإن كانت تعاون في محيط عملها، ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن نعرف اليوم ما يستطيع أن يعمله أو يستنبطه غيرنا من المخلوقات.
لماذا تميل إلى الاعتقاد بأننا الوحيدون في الكون؟ لماذا لا تكون هذه الدرجة من الإحساس وهذا المبلغ من المعرفة مراتب أولى فيما قد يحتويه الكون المنتشر من مراتب أخرى، وصلت إليها مخلوقات عديدة تعيش في ظروف غير التي نعيش فيها، ولها درجة في الحواس تختلف عن حواسنا، ولها حالة من المعرفة تختلف عن معارفنا؟
جُل بنظرك في السماء في ليلة من تلك الليالي التي لا ترى فيها القمر، وانظر إلى المريخ والمشتري والأول أصغر من الأرض قليلاً، والثاني يكبرها بألف وخمسمائة مرة، وهما في مجموعتنا الشمسية؛ فهما والأرض أبناء أم واحدة (الشمس) لا يبرحان مداريهما حولها، ثم ارفع البصر إلى حيث ترى مجموعة الدب الأكبر أو السبعة النجوم كما يُسمهيا الكثيرون، وهي مجموعة من النجوم لا تمت لشمسنا بأي صلة قريبة، بل هي بعيدة عن جد البعد. فبينما تبتعد الشمس عنا بمقدار ثمان دقائق ضوئية (أي يصل ضوء الشمس إلينا في ثمان دقائق) تبتعد هذه المجموعة عنا بمقدار يزيد في بعضها عن 200 سنة ضوئية، وأنظر ملياً إلى أخفض نجمين في هذه المجموعة واذهب إلى يمينك بنظرك مسافة تبلغ سبعة أضعاف المسافة بين هذين النجمين الخفيضين تر النجم القطبي ويبتعد عنا حوالي 70 سنة ضوئية، ويعين لنا جهة الشمال، وما الشمال إلا كلمة اصطلاحية لا تدل إلا على أمر اتفاقي، وهو الجهة التي يحددها لنا هذا النجم الذي نعتبره ثابتاً بالنسبة إلينا وبالنسبة للأحقاب التي يحيا فيها الجنس البشري، وإن كان أبعد الأشياء إلى الثبات بالنسبة لمجموع الكون، وبالنسبة لأحقاب أطول بكثير من ملايين السنين التي عاشها ويعيشها الإنسان، ومع ذلك فكل ما نراه من النجوم بعيداً عنا ثابت إلى حد ما بالنسبة لنا، وحركتنا حول أنفسنا وحول الشمس هي التي تجعلنا نرى تغييراً ظاهراً في مركز هذه النجوم، وما الشمال وتحديده بالنجم القطبي إلا اختيار كان يصح أن يقع على غيره من النجوم، فهو اتفاق يشبه اتفاقنا على أن اليوم 24 ساعة وأن الساعة ستون دقيقة. فقد كان يصح أن نعتبر اليوم عشر ساعات والساعة مائة دقيقة، وعندي أن اتفاقاً كهذا أقرب إلى منطق الأرقام عن اتفاق الأربعة والعشرين قسما السالفة الذكر ,
ثم جل بنظرك بعد ذلك بعيداً من النجم القطبي وجهة اليمين أيضاً تر (دنيب العظيم ويسمونه بالعربية الشعرة اليمانية في مجموعة ذنب الدجاجة تصطدم فوتوناته بشبكة العين بعد تسع سنوات ضوئية، وهي رحلة عظيمة بالنسبة إلينا ولكنها صغيرة في الكون المحدود، وإذا تركت هذه المجموعة القريبة رأيت مجموعات أخرى تبتعد عنا بآلاف وملايين من السنين الضوئية وساعدنا المنظار على رؤيتها.
إن هذه الفوتونات الضوئية التي تصل إليك الآن مسافرة من بعض هذه المجموعات قد بدأت رحلتها ولا شك قبل حروب نابليون، وقبل فتوحات الإسكندر بل وقبل مدنية المصريين، وشاءت الظروف ألا تصطدم طوال رحلتها بأي شيء تتعثر فيه وإلا كنا لا نرى هذه النجوم التي تبعث لنا أضواءها.
وأنت في نظرك إلى هذا النجم أو إلى غيره، وفي استطلاعك السماء ليلاً، تستطيع أن تُمَيِّز بين ما يسميه العلماء نجوماً وبين ما يسمونه كواكب سيارة، فضوء الأولى يتألق وتتغير شدته على العين، وضوء الثانية ناصع ثابت كضوء القمر، ووسط كل هذه العوالم نميز بسهولة كوكب المريخ، ذلك الكوكب الذي تشبه حالته إلى حد كبير حالة الأرض، والذي هو واحد من التسعة الكواكب التي تكون مجموعتنا الشمسية، نراه ينحدر في آخر الليل قليلاً قليلاً، ويتغير لونه على العين كما يتغير لون الشمس أو القمر عند غروبهما، حتى يتوارى عنا، أو بالأحرى حتى نتوارى نحن عنه.
وهكذا تنتقل العين من كوكب إلى آخر، من المريخ إلى المشتري، من كوكب أصغر من الأرض إلى آخر أكبر منها ومن شمس إلى أخرى، من واحدة أصغر من الشمس إلى شمس تكبرها آلاف المرات، بل من مجموعة نجمية كمجموعة المجرة التي تحوي ملايين الشموس والكواكب والتي تعد شمسنا واحدة منها إلى غيرها من المجموعات.
ويساعدك المنظار الفلكي في تجولك هذا. بحيث أنه إذا أمكنك أن ترى بالعين المجردة أكثر من ألفي نجم في نصف السماء التي تعلوك ويرى ساكن البرازيل عدداً مماثلاً في النصف الجنوبي الذي لا نراه، فإنك تستطيع أن تعين بالمنظار في السنتيمتر المربع الواحد آلافاً من هذه النجوم التي لكثير منها كواكب يشبه بضعها بلا شك كوكبنا الأرضي الذي نعيش عليه.
وفي أثناء ذلك نفكر أن لكثير من هذه النجوم التي تعد بالملايين سيارات تابعة لها، وتدور حولها وحول نفسها، ونفكر أنه لا بد لبعضها على كثرتها ظروف تشبه الظروف الطبيعية للأرض، أو تختلف عنها بما لا يتعارض مع نوع آخر من الحياة ونتساءل هل من حياة على هذه الكواكب؟ ولماذا تختص الأرض بالحياة؛ وما هي إلا ذرة من قطرة في محيط في الكون؟
وإذا كانت الأرض وما عليها تعتبر بالنسبة لما نعرفه عن الكون أصغر من حبة رمل بين رمال الصحاري الشاسعة وأقل من قطرة ماء مياه المحيط جميعها، فماذا تسكن الأحياء هذه القطرة بالذات وتخلو جميع القطرات منها؟
هذا سؤال لا يمكن للإنسان إذا اتبع منطقاً سليماً أن يجيب عليه بالنفي، وعند ظني أن الحياة جائزة على غير الأرض؛ فإن لم توجد في أحد كواكب مجموعتنا الشمسية، فلا أقل من أن توجد في كواكب أخرى تنتسب إلى غير هذه الشمس.
إما أن يكون بين حياتنا وحياة غرينا صلة فهو ما زال بعيداً جد البعد عن أن يكون من الموضوعات العلمية التي نتناولها بالبحث بالطريقة ذاتها التي نتناول بها مسألة احتمال وجود الحياة.
إنما ذكرنا للقارئ العين، وذكّرناه بما تنطوي عليه عملية رؤية الدار أو النيل من دهشة، وعرجنا على المذياع عند ذكرنا للحواس وفعلها، ثم صعَّدنا النظر مع القارئ إلى السماء نتأملها ونتجول في ربوعها، وتركنا حيناً ذلك المخلوق الذي تكلمنا عنه في مقال سابق والذي لا يرى من عربة الترام إلا مستطيلاً ينتقل في الطرقات، ولا يرى من الكمساري إلا دائرة تنزلق على حافة المستطيل ويرى من الركاب إلا دوائر متراصة في صفوف متوازية، ذلك أننا لسنا في حاجة إلى هذا المخلوق المسكين وحده، وإنما في حاجة أيضاً إلى التذكير بالعين وفعلها العجيب وإلى النظر إلى السماء وتأمل ما فيها من ملايين النجوم والكواكب لنذكر للقارئ موضوعاً قلنا إنه يلتمع في الذهن ويدور بالخاطر، وهو موضوع خاص بما عسى أن نفترضه أو نتخيله من صفات لغيرنا من الأحياء على الكواكب، وقد قادتنا إلى هذا الموضوع الذي يخرجنا قليلاً عن الدقة العلمية، مقالاتنا الأخيرة عن الاشعاع، ولم يكن في نيتنا يوماً أن نتجه هذا الاتجاه، ولكننا سنعود مع القارئ بعد المقال القادم إلى دراسة العلاقة بين المادة والضوء ليقف معنا على أحدث ما يعرفه العلماء اليوم عن الكون.
(يتبع)
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة