مجلة الرسالة/العدد 372/السير جمس جينز
→ نحن وفرنسا | مجلة الرسالة - العدد 372 السير جمس جينز [[مؤلف:|]] |
إلى أرض النبوة! ← |
بتاريخ: 19 - 08 - 1940 |
أمير الفلك في القرن العشرين
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لا يستطيع أحد من الذين يعنون بالعلوم الطبيعية والفلكية تبسيط بحوثها إلا إذا كان مالكا لناصيتها ضليعاً في اللغة واقفاً على أسرارها. فليس من السهل تقديم الموضوعات العويصة في قالب خال من التعقيد والغموض، كما أنه ليس من السهل أيضاً وضع النظريات والقوانين الكونية وما يتصل بها من ظواهر وحركات في أسلوب يستسيغه أصحاب الثقافة العامة وجمهور المتعلمين.
قد يتمكن الفلكي من أن يكتب مقالاً في النظام الشمسي لأمثاله من الذين يهتمون بالفلك والطبيعة، وقد لا يجد في ذلك صعوبة أو مشقة، ولكن إذا أراد أن يكتب للناس وللذين لا يعرفون شيئاً في الفلك، فهنا يجابه صعوبة وعناء في تقريب هذا البحث إلى أذهان القراء وجعله في متناول أفهامهم، وليس من الهين التغلب على هذا العناء وتلك الصعوبة.
ولهذا، فقليلون هم الذين يوفقون في عرض بحوث العلوم الدقيقة والعويصة (كالفلك والرياضيات والطبيعيات) في لغة سلسلة سهلة المأخذ بعيدة عن الغموض والإبهام.
ولقد امتاز السير جيمس جينز في هذه الناحية فبرز على غيره من علماء هذا العصر. ولا نكون مبالغين إذا قلنا إنه أول من استطاع أن يقرب بحوث الفلك إلى الأذهان، وأول من حبب الناس في الفلك وموضوعاته.
وضع العلماء كثيراً من المؤلفات الفلكية التي تتناول النظام الشمسي والنجوم وحركاتها وما يجري في الكون من ظواهر.
ولكن هذه الكتب خاصة بطبقة الذين يدرسون الفلك أو الذين يهتمون به، لا يجد فيها غيرهم متاعاً أو لذة. وجاء في هذا القرن السير جينز وخط طريقاً جديداً مبتكراً في التأليف فأخرج كتباً فلكية وجد فيها الناس على مختلف ميولهم العلمية متاعاً ولذة وطرافة وفائدة، فكثر الإقبال عليها وذاع صيته ودعته الإذاعات اللاسلكية لتحقيق رغبة الجمهور في إذاعة أحاديث فلكية لاقت كل الإقبال وجرى على طريقته بعض العلماء فحاولوا أن يبسطوا العلوم الطبيعية فوفقوا في ذلك بعض التوفيق، ولكن لم يصلوا إلى درجته من حيث العرض والسلاسة. . .
ولد جينز في لندن 1877 وتعلم في جامعة كمبردج وحصل في أثناء دراسته على جوائز علمية عديدة.
درّس الرياضة التطبيقية مدة في جامعة كمبردج، وكان أستاذاً للرياضيات في جامعة برنستون.
وفي سنة 1919 عين سكرتيراً للجمعية الملكية.
إن السير جينز رياضي من الطبقة الأولى، وقد استطاع أن يسخر الرياضيات في العلوم الفلكية والطبيعية وخرج بنتائج رائعة لم يسبق إليها. أتى ببراهين رياضية لنظريات (حركة الغازات ولقانون ماكسويل في سرعة الذرات.
وأوجد معادلة حسب منها الطاقة التي تصدر عن الأجسام السوداء.
بحث في الإشعاع والكهارب، واستعمل القوانين الرياضية في الفلك فوصل إلى نظريات مبتكرة زادت في ثروة العلم الحديث زيادة أدت إلى تقدم الفلك وما يتصل به من فروع الطبيعة.
بيّن جينز أن نظرية (لابلاس) في النظام الشمسي غير صحيحة، وأتى ببحوث جديدة في النجوم ونشوئها وفي الجاذبية وما إليها. كتب في النجوم المزدوجة وفي أصل السدم اللولبية. وله نظريات جديدة في ألوان النجوم وأقدارها، وفي الأقزام البيضاء والمردة الحمراء والطاقة النجومية ونشوء النظام الشمسي والكوني ومولد السدائم وجفولها. وله آراء مبتكرة في عمر الكون واتساعه. ولهذه البحوث والآراء الأثر الكبير في تقدم علم الفلك الحديث. ولا أكون مبالغاً إذا قلت إن الفلك (في هذا العصر) قائم على مآثر جينز وعلى جمعه بين الفلك والطبيعة والرياضة، فلولا هذا الجمع لما توصل إلى هذه النتائج الباهرة لتي توصل إليها.
إن مآثر جينز لا تزال (وستبقى) منهلاً ينهل منه العلماء من مختلف الأقطار. ولا تجد كتاباً حديثاً في الفلك يخلو من نتائج جينز كما أنك لا تجد مؤلفاً لا يعتمد على آرائه ونظرياته ونتائج تجاربه وأرصاده وحساباته في الموضوعات الفلكية والطبيعية.
ألّف جينز في الغازات وفي النظريات الرياضية التي تتعلق بالكهرباء والمغناطيس ووضع كتاباً في مسائل الديناميكا السماوية وله بحوث وآراء في الإشعاع ونظرية الكم وأيضاً عنى بوضع الكتب الفلكية ككتاب (العالم حولنا) وكتاب (النجوم في مسالكها) وغيرهما.
وقد بسط في هذه الكتب خلاصة ما انتهى إليه العلم الحديث في الكون وأنظمته والقوانين التي تسيطر عليه وما يتصل بها من نظريات النسبية والإشعاع والطاقة. وقد لاقت إقبالاً منقطع النظير، وبلغ متوسط المبيع منها كل يوم إبان ظهورها فوق الألف. تناول فيها بحوث النظام الشمسي والكون، وهل هو محدود أو غير محدود، متمدد أو منقبض. وكذلك تناول تركيب الذرات وتولدها وانحلالها والنجوم وما يتعلق بها من أقدار وألوان وحرارة وعدد وحركات. وحين وضع كتبه هذه فرض أن القراء ليس لديهم معرفة علمية سابقة، ولهذا عمل على عرضها في أسلوب استهوى به المتعلمين والمثقفين، وتمكن بذلك من إطلاع الناس على شيء من سحر علم الفلك الحديث وعلى شيء من عجائب الكون.
وفي مقدمة أحد كتبه (وهو كتاب النجوم في مسالكها) - وكان قد أذاع بحوثه في إذاعة لندن - ورد ما يلي: (. . . والكتاب الذي بيدك يحتوي على هذه الأحاديث متوسعاً فيها إلى ضعف طولها الأصلي. ولا تزال في أسلوبها ولغتها كالأحاديث اللاسلكية - بسيطة لا تكلف فيها ولا صعوبة فنية، فالكتاب لا طموح فيه إذ لم يقصد به سوى أن يكون مقدمة لأوفر العلوم حظاً من الشعر. مقدمة سهلة مقبولة غير مثقلة بالجد. . .) أي غير مثقلة بالمعادلات والحسابات.
وهكذا سار في بعض كتبه (التي وضعها للناس) والتي قصد منها وقف جمهور المتعلمين على خلاصة ما انتهى إليه العلم الحديث من أسرار وروائع وأعاجيب. وقد يلذ للسامع أن آتى له على نموذج من كتابات جينز الفلكية، ولعله من المستحسن أن أروي قصتين، إحداهما في نشوء الكون، والثانية في تكوين النظام الشمسي.
لقد علل نشوء السدائم ومولدها تعليلاً لم يسبق إليه ركب منه قصة ممتعة أخاذة سماها: (قصة نشوء الكون). وقد رجع إليها فلكيو العالم واعتمدوا عليها في بحوثهم، وهي كما يلي: (. . . سنبدأ عند مبدأ الزمن حين كانت جميع الذرات المقدر لها أن تكوّن الشمس والنجوم والأرض والسيارات وأجسامكم وأجسامي وأيضاً جميع الشعاع الذي انصب من الشمس والنجوم منذ ذلك الحين. سنبدأ حين كان ذلك كله مختلطاً بعضه ببعض ومكوّناً كتلة من الغاز فوضى تملأ الفضاء كله. ولما كانت جاذبية كل قطعة صغيرة من الغاز تؤثر في جميع القطع الأخرى فإن تيارات تنشأ بالتدريج. وأينما أحدثت هذه التيارات تدمعاً طفيفاً من الغاز ازدادت قوة الجاذبية، فأخذ كل من هذه المتجمعات الصغيرة يجذب نحوه مقداراً آخر من الغاز. إن الطبيعة تتصرف طبقاً لقانون (من كان يملك شيئاً أعطى زيادة)؛ فالقطع الناجحة من الغاز تنمو إلى تكاثفات ضخمة تزداد باستمرار على حساب القطع الخائبة حتى تبتلعها في النهاية. وكما اتخذت الأرض والشمس والسيارات أشكالاً منتظمة تحت تأثير الجاذبية، فإن هذه التكاثفات تبدأ الآن تتخذ أشكالاً منتظمة فتكوّن ما قد سميناه سدائم منتظمة الشكل. وتأتي التيارات الغاوية التي أوجدت هذه السدائم فتحملها الآن على الدوران، فلا تكون كرية الشكل تماماً بل يكون شكلها في مبدأ الأمر كالبرتقالة مثل أرضنا الدوارة. وكلما ضمرت تغيرت أشكالها باستمرار، وازداد تفرطحها ازدياداً مطرداً. ثم نعود فنرى الغاز الذي عند حوافها الخارجية يتكاثف إلى مدائن نجومية تكون عند ولادتها مفرطحة وتظل مفرطحة بسبب دورانها. . .)
ثم يأتي إلى قصة تكوين النظام الشمسي، وهي كما يلي: (. . . يقترب من شمسنا نجم اقتراباً لم يسبق لأي نجم آخر قط أن اقتربه؛ فينشئ فيه من قبل - مدوداً كجبال عظيمة غازي ناري تسير فوق سطح الشمس. وأخيراً يزداد اقتراب النجم الثاني من الشمس بحيث لو كان شخص واقفاً على سطحها لبدا له ذلك النجم مالئاً جزءاً كبيراً من السماء، وبينا هو يقترب هكذا تصير قوة جاذبيته من العظم بحيث تنتزع قمة الموجة المدّية من الشمس وتتكاثف ذاتها قطرات. هذه القطرات هي السيارات والأرض واحد من أصغرها، وهي في أول الأمر تكون كتلة فوضى من غاز ناري لكنها تأخذ تبرد فيستحيل وسطها إلى سائل، ثم تصير بمرور الزمن إلى درجة من البرودة تتكون معها قشرة صلبة على سطحها، ثم بعد ذلك إذا ما ازدادت برودتها يبدو على هذه القشرة الصلبة ظاهرة جديدة عجيبة: تأخذ طوائف من الذرات تتحد فتكون هيئات منظمة متماسكة من النوع الذي لمّا نعرف شيئاً عن طبيعته ولا عن الطريق التي ظهر بها أول مرة في الوجود سميناه بالحياة. . .)
(نابلس)
قدري حافظ طوقان