الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 372/إلى أرض النبوة!

مجلة الرسالة/العدد 372/إلى أرض النبوة!

مجلة الرسالة - العدد 372
إلى أرض النبوة!
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 19 - 08 - 1940

6 - إلى أرض النبوة!

للأستاذ علي الطنطاوي

أبصرنا الشمس وهي تغيب في آخر السهل، ورأينا سواد الليل يمتد حيال الأفق الشرقي، ونحن لا نزال في أعالي الجبال المطلة على تبوك، والفضاء الأرحب الذي يحيط بها فتنازعنا الرأي واختلفنا: أنبيت مكاننا فنهبط تبوك مصبحين، أم نصبر على ما نجد من السغب واللغب، ولا نبالي الليل وظلمته، ونتّم طريقنا إليها، فننام فيها نوم الآمن. . . وطال الخلاف ولم يكن علينا أمير منا، مع أن ذلك من السنة، واليمن والبركة فيه. فقطعتْ سيارتنا كل قول حين أخذت طريقها هابطة، وتبعتها السيارات بلا جدال، وكان ضوء السيارات وهي فوق الجبل متوجهة إلى تبوك يبدو قوياً منظوراً، وكان أمير تبوك على علم بقدومنا، فبعث إلينا بسيارته تستقبلنا وتهدينا، فعرفناها بضوئها، فتبعناها حتى بلغت بنا السهل، ثم أوصلتنا البلد، وقد كاد ينتصف الليل. . .

وصلنا البلد على حال لم نكن نملك معها ملاحظة ولا نظراً، ولقد شغلنا ما نجد من الجوع والتعب عن أن نبصر المدينة، أو نرى مسالكها، وما عرفت إلا الدار التي أنزلونا فيها، وليست داراً كالتي عرفنا في القريات، ولكن بناء حضري واسع منظم، مبني على طراز فني مقبول، ذو ردهات وغرف وأبهاء، فأدخلونا بهواً فيه، مفروشاً بالبسط والوسائد و (الطراريح). استقبلنا فيه الأمير (السديري) وهو شاب مهذب، على غاية من اللطف والنبل والرقة ودقة الملاحظة، وقد علمت أنه من أنسباء جلالة الإمام (عبد العزيز) أعزه الله. فلما استقر بنا المقام ووجدنا بعض الراحة، أحببت أن أقوم فأجول في القصر، فلما خرجت من البهو عرض لي أحد العبيد وهم كثر في القصر، فقال لي: من هنا. فتبعته وأنا لا أدري إلى أين يسير بي، حتى انتهى إلى باب، فأشار إليه وتخلَّى عنه، فدخلت، فإذا أنا في حمَّام ما ظننت أني ألقى مثله في دمشق، له ظاهر وباطن، وفيه الماء البارد والحار والرشَّاش (الدوش) والمناشف معلقة والصابون مهيأ، فدهشت وفرحت فرحاً ما أفرح مثله لو أعطيت مائة دينار، مع أني لم أرها قط ولم تحتوها يدي إلى الساعة التي أكتب فيها هذه الكلمة. . . فعدت فاستخرجت من حقيبتي ثوباً نظيفاً، ولم أرض لثيابي التي كانت عليّ إلا بيت النار - أحرقتها وأبيك - ودخلت الحمام وأنا أنظر إلى الباب أخشى أن ينزل علي من يشاطرني في هذه النعمة أو ينغّصها عليّ فلا أهنأ بها، وأقبلت أصبّ على جسمي من الماء الحار فأحسّ له بعد هذا التعب بما تحس الأرض اليابسة هطل عليها المطر. . حتى إذا انتهيت عدت إلى أصحابي بوجه متورد، وثياب نظيفة. فجنّ جنونهم عجباً ودهشة، ولكن وجود الأمير أمسك ألسنتهم؛ فلما جلست أفضيت إلى جاري بالأمر فتسلل من مكانه إلى الحمام، وما زالوا يذهبون واحداً بعد واحد حتى اغتسلوا جميعاً. وكان إعداد الحمام أول ما شهدنا من لطف الأمير السديري - أمير المدينة المنورة الآن - وتهذيبه. . .

فلما انتهوا وكان الهزيع الأخير من الليل دعينا إلى المائدة، وكان فيها الخروف (المعهود) برأسه. . . ولكن حوله ألواناً من الخضر كالفاصولياء والباذنجان والطماطم موضوعة في أطباق صغار، وعلى المائدة الملاعق لمن شاء، فجلس الأمير وجلسنا، وأكلنا أكل من لا يخشى البشم!

ولم نفق إلا في ضحى الغد، فأفطرنا ورأينا البلد، فإذا الدار التي نزلناها مستشفى كبير كان العثمانيون قد أقاموه عندما مدّ الخط الحجازي، وأمامه رحبة واسعة جداً، ويقابله من آخر الرحبة المحطة العظيمة، وبينهما على يسار من يقف على باب المستشفى ويستقبل المحطة بساتين النخيل تتخللها البلدة، وهي ستون بيتاً، فيها مسجد كمسجد القريات، وفيها قصر الإمارة؛ والبساتين تسقى من عيون ثلاث بارك الله فيها إكراماً لنبيه ﷺ، على ما هو مقرر في كتب المغازي.

هذه هي تبوك ومن حولها الصحراء وهي نصف طريق المدينة.

ذهبنا نزور الأمير في قصره الزيارة الرسمية، فدخلنا منزلاً صغيراً جدرانه من الطين، لا يختلف عن منازل الفلاحين في القرى الفقيرة من قرى الشام، فصعدنا درجاً ضيقاً ملتوياً إلى ردهة صغيرة تطل على أرض الدار، ولها داربزين من خشب عادي ليس فيه زخرفة ولم يَعله صبغ، قم ولجنا غرفة ضيقة لم تكد تسعنا في صدرها مكتب صغير، وليس فيها إلا مقاعد من الخشب وكان الأمير وراء مكتبه فنهض لاستقبالنا بلطفه الذي وصفت.

وكنت قد أبصرت على الدرج وفي أرض الدار، وفي الردهة العالية عدداً عديداً من العبيد، فعجبت من كثرتهم ولم أدر ما عملهم، فلما قال الأمير بصوت منخفض: قْهَوَة. سمعت العبد الذي يقوم على رأسه يقول بصوت ارفع: قهوة، فيقول الذي على الباب: قهوة. فيصرخ الذي في الردهة: قهوة. فينقلها الذي على الدرج، ثم الذين في أرض الدار، حتى يبلغ الصوت صانع القهوة. وكانت تلك عادتهم ولكما لم نكن نعرفها، فما راعنا ونحن نسلم على الأمير ونتحدث إلا ستون قهوة. . . قهوة. . . بأصوات كالصوت الذي ذكره ربنا في القرآن، تخرج متعاقبة متلاحقة كصراخ الجن، لا يفهم منها شيء. فلم ندر ماذا حدث، وعملت المفاجأة عملها في نفوسنا، فمنا من صاح، ومنا من ابتدر الباب، ومنا من سقط على الأرض، ومنا من وضع يده على سلاحه. . . وكان الأمير مبتسما مسروراً من هذه الدعابة. . .

وليس كثيراً أن نحمل في سبيل القهوة هذا الفزع، فإن للقهوة عند العرب اليوم من الشأن ما يقل معه كل تعب ينال من أجلها، ولها عندهم قواعد قوانين لا معدل عنها ولا ترخيص فيها، فمن قوانينها أن البن يدق بالهاون دقاً حتى يسمعه الضيفان فيهرعوا إليها، ولا يجوز أن يطحن طحناً لأن ذلك من اللؤم، وأنهم يتخذون لها أواني كثيرة يصبون القهوة من إناء إلى آخر ليصفوها ويرققوها، ويسمون كل دلّة من هذه الدلال باسم، فهذه العروسة، وهذه الأم. . . ولقد رأيت عند أمير تبوك أكثر من عشرة أوان (دلال) كلها مملوءة، والساقي يحبها حباً شديداً، ويراها في معدلة أولاده. . .

وهم يخلطونها بحب الهيل، ويضعون قطعة من الليف في فم الدّلة تقوم مقام المصفاة، فإذا نضجت القهوة قام الساقي فأخذ الإناء باليسرى وقدم الفناجين باليمنى، ويرون تقديمها باليسرى كما يفعل الشاميون إهانة للضيف قد تجر إلى سفك الدم والعياذ بالله تعالى. . . فيأخذ الضيف الفنجان بيمينه فيشربه ويدفعه إليه، فلا يزال يصب فيه حتى يهزه الضيف ثلاث هزات علامة على أنه قد اكتفى ولا يصبون في كل مرة إلا رشفة واحدة لا تكاد تستر قعر الفنجان وعندهم أن هذا من الإكرام، وإذ ملأ الساقي فنجان أحدهم كان ذلك احتقاراً له. ويبدأ الساقي ممن على يمينه ثم يعطي من يليه، وإذا هو تخطى واحداً فقد أهانه إهانة بالغة لا يصبر عليها إذا كان شريفاً، وإذا اكتفى الضيف ولم يأخذ الفنجان بعد أن يصبَّه الساقي وجب على الساقي أن يشربه هو أو يريقه على الأرض ولو كان على الأرض بساط قيم أو سجاد ثمين، ولا يدفعه إلى الذي بعده. . .

هذا جانب من قوانين القهوة، وللقهوة عند العرب شأن كبير فقد يستغني البدوي عن الطعام والماء، ولكنه لا يستغني عن القهوة ولا يعدل بها شيئاً، وقد يميل عن الطريق مسيرة يوم ليشربها. وقد حدثنا أستاذنا شكري الشربجي، وقد كان على رأس فرقة عسكرية من العرب أيام الملك حسين رحمه الله: أنه افتقد جنده في ساعة حرجة فلم يجدهم، فلما عادوا سألهم، فحبروه أنهم افتقدوا القهوة فذهبوا ليشربوها؛ فقال: في مثل هذه الساعة تهتمون بالقهوة؟ قالوا: والله يا بيك نتقهوى ولو كان في خشم الأسد.

وللعرب بالقهوة اهتمام عظيم حتى أنهم من اهتمامهم بها نحتوا من اسمها فعلاً هو تقهوى يتقهوى تقهوياً، وتوسعوا في معنى هذا الفعل حتى شمل الشاهي والطعام يؤكل في الصباح فهم يقولون (أُقلط تقهوى) أي تفضل اشرب القهوة أو اشرب الشاهي أو كل. . . وقد يقولون اتقهوى شاهي. . .

هذه هي القهوة، وهي لذيذة نافعة لا يقوم مقامها شيء في إراحة الجسم بعد التعب الشديد والسير في الصحراء تحت الشمس المحرقة، وقد جربنا ذلك بأنفسنا. أما الشاهي - اعتنى النجدي منه - فسمّ ناقع يشرب فيه شاربه المرض والحمّى. ذلك أنهم يأخذون الشاي الأحمر فيغلونه على النار، ثم يغلونه حتى يصير أسود مثل دم الغزال - على حد تعبيرهم - ويشربون منه كؤوساً كثيرة، ولو أنك كنت في ضيافة أمير أو شيخ من مشايخ البدو لم يمر عليك دقيقتان لا يقدم لك فيهما قهوة أو شاهي ولا تفتأ تسمع الأمير أو الشيخ يصفق وينادي:

قهوة. شاهي. شاهي. قهوة، فتصور مجلساً على هذه الحال يمتد ساعتين أو ثلاثاً.

تلك هي القوة. وذلك مبلغ غرامهم بها. . .

(لها بقايا)

علي الطنطاوي