مجلة الرسالة/العدد 370/في الاجتماع اللغوي
→ الحديث ذو شجون | مجلة الرسالة - العدد 370 في الاجتماع اللغوي [[مؤلف:|]] |
الحضارة المتبرجة ← |
بتاريخ: 05 - 08 - 1940 |
تطور اللغة وارتقاؤها
للدكتور علي عبد الواحد وافي
مدرس العلوم الاجتماعية بكلية الآداب بجامعة الفؤاد الأول
انتقال اللغة من السلف إلى الخلف: التطور الجبري؛ مظاهره
في لغة الحديث ولغة الكتابة
تتأثر اللغة في تطورها وارتقائها بعوامل كثير يرجع أهمها إلى أربعة طوائف:
(إحداها) انتقال اللغة من السلف إلى الخلف
(وثانيتها) تأثر اللغة بلغة أخرى
(وثالثتها) عوامل اجتماعية نفسية وطبيعية، كحضارة الأمة ونظمها وعاداتها وتقاليدها وعقائدها، وثقافتها واتجاهاتها الفكرية، ومناحي وجدانها ونزوعها، وبيئتها الجغرافية. . وما إلى ذلك.
(ورابعتها) عوامل أدبية، تتمثل فيما تنتجه قرائح الناطقين باللغة، وما تبذله معاهد التعليم والمجامع اللغوية وما إليها في سبيل حمايتها والارتقاء بها.
وسنعالج بإجمال في هذه الكلمة الطائفة الأولى من هذه العوامل، مرجئين الكلام عن العوامل الأخرى إلى المقالات التالية
على الرغم من أن الطفل يأخذ اللغة عن أبويه والمحيطين به، فإن لغة الخلف في كل أمة تختلف عن لغة السلف في كثير من المظاهر، وبخاصة مظاهر الصوت.
ويرجع جزء يسير من نواحي هذا الاختلاف إلى أمور خاصة مقصورة على بعض الأفراد كالعيوب الصوتية التي يصاب بها بعض الناس، وضعف السمع، واختلال أعضاء النطق. . . وما إلى ذلك؛ وليس لمثل هذه الأمور شأن كبير في تطور اللغة؛ لأن آثارها مقصورة على أصحابها، تبقى معهم وحدهم في حياتهم وتختفي بموتهم.
أما معظم نواحي هذا الاختلاف وأكبرها أثراً في تطور اللغة فترجع إلى أمور عامة يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة ويمتازون بها عن أفراد الطبقة السابقة لهم، كالارتقاء الطبيعي لأعضاء النطق في الفصيلة الإنسانية (لأن أعضاء النطق في تطور طبيعي مطرد، فتختلف في كل طبقة عنها في الطبقة السابقة لها) والارتقاء الطبيعي للظواهر النفسية (فالقوى العقلية بمختلف أنواعها في تطور مطرد، شأنها في ذلك شأن أعضاء النطق. ومن الواضح أن كل تطور يحدث في هذه القوى ينبعث صداه في اللغة) والأخطاء التي تنتشر بين الصغار في طبقة ما ولا يقطن لها الكبار لدقتها وخفائها أو يهلون إصلاحها ولا يعنون بالقضاء عليها. فالفروق اللغوية الناشئة عن هذه الطائفة من العوامل يشترك فيها جميع أفراد الطبقة الواحدة وتمتاز بها لغتهم عن لغة الطبقة السابقة لهم.
ومن هذا يظهر أن ناحية هامة من نواحي التطور اللغوي ترجع إلى عوامل جبرية لا اختيارية للإنسان فيها، ولا يد له على وقف آثارها أو تغيير ما تؤدي إليه.
ومن هذا يظهر أنه ليس في قدرة الأفراد أن يقفوا تطور لغة، أو يجعلوها تجمد على وضع خاص. فمهما أجادوا في وضع معجماتها وتحديد ألفاظها ومدلولاتها، وضبط قواعدها وأصواتها. . .، ومهما أجهدوا أنفسهم في إتقان تعليمها للأطفال قراءة وكتابة ونطقاً وفي وضع طرق ثابتة سليمة يسير عليها المعلمون بهذا الصدد، ومهما بذلوا من قوة في محاربة ما يطرأ عليها من لجن وخطأ وتحريف، فإنها لا تلبث أن تحطم هذه الأغلال، وتفلت من هذه القيود، وتسير في السبيل الذي تريدها على السير فيه سنن التطور والاتقاء الطبيعيين.
حقاً إنه يمكن أحياناً التحكم في لغة الكتابة والجمود بها زمناً طويلاً على أصولها القديمة أو ما يقرب منها؛ ولكن لغة الكتابة التي تجمد بهذا الشكل لا تمثل تمثيلاً صحيحاً حالة الحياة اللغوية في الأمة، وتتسع كثيراً مسافة الخلف بينها وبين لغة المحادثة، لأن هذه اللغة الأخيرة في تطور مطرد، ولا تستطيع أية قوة إلى تعويق تطورها سبيلاً. فلا تنفك تبعد عن لغة الكتابة الجامدة، حتى تصبح كل منهما غريبة عن الأخرى، ويصبح تعليم لغة الكتابة في الأمة أشبه شيء بتعليم لغة أجنبية. هذا هو ما كان عليه الحال بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال أيام أن كانت لغة الكتابة هي اللاتينية، وكانت لهجاتها المحلية مقصورة على شئون المحادثة؛ وما عليه الحال الآن في مصر وبلاد العرب وشمال أفريقيا بصدد العلاقة بين لهجات المحادثة واللغة العربية الفصحى المتخذة لغة كتابة في هذه الممالك.
على أن ظاهرة كهذه لا تكاد تبدو إلا حيث تكون لغة المحادثة غير تامة التكون ولا كاملة النمو؛ ولا تبقى إلا ما بقيت لغة المحادثة على هذه الحال. فإذا ما بلغت هذه اللغة أشدها، وتم تكونها، واكتمل نموها، واتسع متنها، ووضحت دلالة مفرداتها ووجوه استخدامها، وتشعبت فيها فنون القول، ودقت مناحي التعبير، وقويت على تأدية حقائق الآداب والعلوم، أخذت تطارد لغة الكتابة وتستلبها وظائفها وظيفة وظيفة حتى تجردها منها جميعها، فتصبح هي لغة الكتابة، وتقذف بلغة الكتابة القديمة في زوايا اللغات الميتة. وهذا هو ما انتهى إليه أمر اللاتينية مع لغات المحادثة بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال.
فما أشبه لغة الكتابة الجامدة، في حالات كهذه، بجبل ثلج ثابت على سطح البحر؛ ولغات المحادثة المتطورة بالتيارات المائية التي تموج من تحته. فهمها طال بقاء هذا الثلج، فإن مصيره إلى التحطم والذوبان، وحينئذ تطفو تلك التيارات إلى سطح البحر، وتعيد إليه ما كان مستوراً تحت هذا الجيل الجامد من مظاهر النشاط والحياة: (سنة الله التي قد خلت في عباده ولن تجد لسنة الله تبديلا).
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون