مجلة الرسالة/العدد 370/الحديث ذو شجون
→ نهاية أديب. . . | مجلة الرسالة - العدد 370 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
في الاجتماع اللغوي ← |
بتاريخ: 05 - 08 - 1940 |
للدكتور زكي مبارك
موجة صوفية تثيرها رحلة الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى سنتريس - بين القناطر الخيرية وسدة الهندية - خطاب ضائع - ثمرة شهية من ثمار المطابع.
موجة صوفية
في عصرية الاثنين (2271940) تَوجَّه جماعة من الأصفياء
إلى سنتريس، وفيهم المسيو دي كومنين والمسيو جوزيه
كانيري والدكتور إبراهاميان والمسيو بولْدريني والموسيقار
محمد عبد الوهاب وسِربٌ من كرائم الفرنسيات.
ولم تكن تلك القافلة تحتاج إلى دليل فقد شرَّفتْ سنتريس بزياراتها مرات كثيرة، ولا سيما مدام دي كومنين التي تأنس كل الأنس بزيارة سنتريس، والتي تُعَدُّ زيارتها لداري من مواسم الفرح عند أبنائي.
إنما يحتاج إلى الدليل ذلك الموسيقارُ السابح في لُجج الأحلام محمد عبد الوهاب، وكذلك أُتيحت الفرصة لأن يترفق فيدعوني لمرافقته في طريقنا إلى سنتريس.
وماذا أستفيد من مرافقة عبد الوهاب؟
وهل يُفيق هذا الحالم حتى يعرف رفيقه في الطريق؟
ابتدأ صاحياً في المرحلة الأولى، فسأل عن منازل الكتْاب المصريين وعن مبلغ تأثيرهم في مصر والشرق، وما كدنا ننتهي من الكلام عن طه حسين والزيات والعقاد وتوفيق الحكيم حتى أسلم خياله لأحلام أوابد لا يَقْنُصها غير القلب الذي راضه الحب على التمرُّس بملاحقة أبكار المعاني. ومحمد عبد الوهاب قنّاص أحلام وألباب، وإن كان أرقّ من الزهر المطلول.
ونظرتُ إليه في غيبوبته الروحية فرأيته يُغمغم بأجراس صوتيه لا تُبِين عن لفظ مُعيَّن أو غرض محدود.
وفي لمحة من لمحات الوجد تمثَّلتْ لي شفتان ورديتان لو سبَّح لله بهما مسبَّحٌ لكان فيهما غَناءٌ عن تسبيح كل ما حوَى الملكوت من أرواح وأشباح.
أَيصير عبد الوهاب إلى مثل هذا الحُسن الفاتن كلما نقله الخيال إلى عالم الروح؟
ثم انتبه بغتة، وقد وخزَته به نظراتي فقال: أتزور سنتريس في كل أسبوع؟
فقلت: وما الذي يهمك من ذلك؟
فأجاب: إن هذا إن صح قد يفسِّر نزعتك الصوفية، فما شعرتُ بمثل هذه الأقباس الروحية إلا في هذا الطريق الذي يصل بالأفئدة إلى سنتريس.
وما كاد يُتم هذه الجملة حتى هوَى إلى الغيبوبة من جديد، وحتى عُدتُ إلى التأمل في أسارير ذلك الوجه الذي خلق ليكون مَصدَر هداية ومبعَث فُتُون.
وبعد لحظات كانت أقصر من ومضة القلب بالتشوق إلى موعد غرام وصلنا إلى القناطر الخيرية، ثم وقفنا عند قنطرة الرَّيْاح المنوفي لننتظر سيارات الأصفياء قبل أن تُغذَّ السير إلى سنتريس. وهناك وجدنا على غير موعد جماعة من الشبان الفنانين يترنمون بأغاريد عبد الوهاب، وهم ينتظرون وفود القمر لمصافحة النيل؟
ثم وصل الأصدقاء الفرنسيون فطربوا لذلك المنظر الجذاب، وسرّهم أن يكون في مصر فنَّان يرى طلائع فنه في مكان يتوجه إليه على غير ميعاد.
ودخلنا سنتريس والشمس تجنح للغروب والناس يرجعون إلى دورهم وفي أيديهم مقاود المال الناطق، وتلك طلائع نعيم تكون أوفر ما تكون في سنتريس: فأخصبُ أقاليم مصر هو إقليم المنوفية، وأخضب مراكز المنوفية هو مركز أشمون، وأخضب البلاد في مركز أشمون هو سنتريس، وأخضب بقاع سنتريس هو ما ورثته عن أبى وجدي، وأجمل دار في سنتريس هي دار شاعر سنتريس.
فإن ضاق بعض الناس صدراً بهذا الازدهاء، فليذكر أني تحدثت عن الريف وجمال الريف قبل أن تُخلَق وزارة الشؤون الاجتماعية بأعوام طوال. يضاف إلى ذلك أن بلدي أجمل البلاد حقّاً وصدقاً، وهو الشاهد على أن مصر موطن الخيرات والثمرات ومهد الأفئدة والعقول. ولو قلت: إن بلدي يفوق جميع البلاد من الوجهة العلمية لكنت أصدق الصادقين.
ثم جلسنا نتجاذب أطراف الأحاديث مع الأهل والأصدقاء، وقد ذاع في أرجاء البلد أن عبد الوهاب حضر ومعه عوده الحنّان فأقبلوا يتسابقون لتزويد أفئدتهم بأطايب البواكير من أغاريد الخلود.
ثم وقع ما لم يكن في الحسبان: فقد قيل إن في سنتريس مغنين يغنُّون أصوات عبد الوهاب بأطيب وأوقع مما يغنيها عبد الوهاب.
وتَنَادى أولئك المغنّون ليَباروا مطرب الأمراء والملوك، وليروضوه على الاقتناع بأن التواضع خُلُقٌ جميل، فانسحب من الميدان قبل انتهاء السهرة ليرجع إلى القاهرة بحجة أن عنده موعداً في منتصف الليل!
وعند باب الحديقة سأل عبد الوهاب عن العود ليكون رفيقه في الإياب، ثم سارت به السيارة وهو يترنم بقول أحد الشعراء:
تنظُر الساعةَ من حينٍ لحين ... ليت شعري ما الذي يستعجُلكْ
إن هذا الوصل أحلاُم سِنينْ ... فاتق الحب وَدَع ما يَشغَلُك
وانصرف جمهور المعجبين بالموسيقار عبد الوهاب وبقيتُ مع الضيوف الأعزاء نتحدث عن الآداب والفنون، ونسمع مداعبات من كان في السهرة من الجنِّيات.
ومضينا نواجه النيل وقد طلع القمر وطاب النسيم فرأينا طوائف من أدباء سنتريس يَسمُرون هناك كما كنت أسُمر مع أصفيائي قبل أن يصنع الدهر بقلبي ما صنع، وقبل أن أُحرَم من قضاء ليالي الصيف في سنتريس، فما ذقت طعماً للحياة الهادئة منذ قضت الأيام بألا أزور سنتريس إلا كما يزور طيف الخيال.
ثم هتف هاتفٌ بأن الليل قد انتصف وآن أوان الرحيل عن سنتريس
وفي القناطر الخيرية وقفنا مرة ثانية نشهد صراع الأمواج في قنطرة الريّاح المنوفي، فأخذتُ المسيو كانري من يده، واقتربت به من معركة تلك الأمواج.
ثم وَثب القلب وهو يسأل: أين الموعد، موعد فلانة، الموعد الذي عقدتْه فوق (سَدَّة الهندية) منذ أكثر من عامين؟
فأجبتُ: تلك يا قلبي مواعيد البنان المخضوب!
وتلفتُّ إلى المسيو كانري وأنا أقول: ألا يكون النوم في ضيافة هذه الأمواج الصواخب أطيب من النوم في الغُرف المغلقة النوافذ؟ فأجاب: ذلك نعيمٌ خاصٌّ بأهل الرق.
فقلت: ومن أجل هذا النعيم يوصي بعض الفلاسفة بأن تكون مدافنهم في ثنايا الأمواج.
ثم رجعنا إلى القاهرة لنأنس بالعيش الرَّتيب من جديد.
فإن سألتموني: أين كنا؟
فأنا أجيب: كنا في رحلة صوفية، وكان معنا عقل دي كومنين وبلاغة كانري وعُذوبة عبد الوهاب، وكانت معنا أشياء، فلا تسألوا عن أشياءَ إن تُبْدَ لكم تزدكم أسفاً على الحرمان من أطايب الوجود. . . وهل كانت تلك الأشياء إلا القلوب الأواهل بأرواح الصفاء؟
خطاب ضائع
كان صديقنا الأستاذ صادق عنبر - طيب الله ثراه! - قد نشر في مجلة (النهضة النسائية) سنة 1927 خطابات غرامية قال إنه وجدها مُلقاة في الطريق، وصحَّ عندي يومئذ أنه ابتدع تلك الخطابات، فكتبتُ إليه من باريس أهنئه على ذلك البِدع الطريف، فأجاب بأنه لم يبتدع تلك الخطابات، وإنما وجدها مصادفةً في شارع الدواوين وهو ذاهب إلى جريدة الأهرام، ولم أصدِّقه فيما ادعاه فتعقبتُه في جريدة البلاغ بمقال لاذع بدَّد ما كان بيني وبينه من وداد.
ثم تشاء الأقدار أن تصحح رأيي في ذلك الصديق المظلوم فقد وجدت أن أيضاً خطاباً ضائعاً، وجدته في شارع فؤاد وأنا ذاهب للسَّمَر مع الأستاذ (وحيد بك الأيوبي) في قهوة السلام بميدان إبراهيم، وأطلعتُ عليه جماعة مت الفضلاء الذين صادفتهم هناك.
وإلى القارئ فقرات من ذلك الخطاب الضائع، ستَر الله كاتبه وهداه!:
(تعاتبين؟ تعاتبين؟ وما الموجب للعتاب وقد صدَّ قلبٌ عن قلب، وزهد روح في روح؟!
ومن تعاتبين، يا شقية، وقد انتهى عهد العتاب، ولم يبق من الذكريات غير أطلال؟
لا أراك الآن إلا حجراً أصم أبكم، لا يسمع ولا يتكلم، وإن كنتِ تحسنين زُخرفَ القول حين تكتبين إليّ من حين إلى حين. . .
وتقترحين أن أزورك في مدينة. . . فهل تظنين أني أطرب لزيارة مدائن الأموات؟
تلك غمرة من غمرات الكرب عانيتها حين توهمتك إنسانة لها وعي وإحساس، ثم لطف الله فأفقت، وما كنت احسبني أفيق كان غرامي نزوة من نزوات الطيش، وقد عقلت، والحمد لله على نعمة العقل!
أمثلُكِ يُزارُ بوحيٍ من القلب، وأنتِ رسمٌ من الرسوم الهوامد، وقد انتهى عهد البكاء على الرسوم والطلول؟
ما أبكي عليك، يا شقية، وإنما أبكي على النعيم الذي ذهب منذ اليوم الذي انزاحت فيه الغشاوة عن قلبي
كنت توهمت أني عشقت، وكانت الدنيا لا تسعني كلما خطر في البال أني أملك قلب امرأة لها في دولة الحسن تاريخ
ثم انجابت ظلمات الغواية فرأيتك مخلوقة من خزف، مخلوقة غبية بليدة حرمتها الأقدار نعمة القهم لسرائر الأرواح والقلوب.
خرجتُ من هواكِ كما دخلتُ، فما أمدَّني هواكِ بقصيدة رشيقة ولا مقال بليغ. والأديب لا يعشق ليقال إنه عشق، وإنما يعشق الأديب ليطلع على الآفاق المجهولة من ضمائر الوجود. وأنت أنت، أنت الأنثى الغبية البليدة التي لا ينتفع الأديب من صحبتها بشيء، إلا أن يصير اسمه إعلاناً عن جمالها المظنون، وأنت والله جميلة، ولكن جمالك لا يزيد عن جمال التماثيل!
إنما أبكي على نفسي، فقد كنت احسبني أهلاً لغرام أقوى وأعنف من الغرام الذي عانيت، ثم عرفت مع الأسف الموجع أنني شغلت قلبي بإنسانة ضعيفة لا تقدر على نقل القلب من مكان إلى مكان. فمتى تزحزح من مكانك يا قلبي؟ ومتى تعرف أن الهدى ليس أكرم عنصراً من الضلال؟
لا تكتبي إليّ بعد اليوم، يا شقية، فقلبك أصغر من قلبي، ولم تكوني إلا طفلة نضجت قبل الأوان فتوهمتْ أنها قادرة على مساورة الرجال)
تلك فقرات من ذلك الخطاب الضائع، الخطاب الذي وجدته في شارع فؤاد.
فهل رأيتم أسخف من كاتب هذا الخطاب؟
الدنيا في حرب وشقاء وبلاء، فكيف يجوز أن يكون فيها من يعشق ويلتاع؟
وفي قهوة بالميرا بمصر الجديدة صادفت الدكتور مشرَّفة بك عميد كلية العلوم فعرضت عليه هذا الخطاب على أنه نموذج من السفاهه والحُمق فابتسم، وقال: العواطف من القُوى الأساسية في حياة الإنسان، ولا بُدَّ لتلك القوى من غذاء. واستطرد فحدثني أنه طرب حين رجع إلى معاهد الطفولة بدمياط، يوم كان يتقرب إلى الله بتقبيل ضريح الشيخ مظلوم!
العواطف تحتاج إلى غذاء كما تحتاج العقول؟
هذه فلسفة لم أسمع بها من قبل
فإن صحت هذه الفلسفة فهي سِنادٌ لكاتب الخطاب الضائع، الخطاب الذي وجدته في شارع فؤاد
الدنيا في حرب، فلا تصدَّقوا الدكتور مشرَّفة، وإن كان عميد كلية العلوم، واقضوا أوقاتكم كلها في متابعة أخبار الحرب بين الإنجليز والألمان، فأخبار الحرب هي زاد العواطف والعقول في هذه الأيام العِجاف!
ثمرة شهية من ثمار المطابع
اليوم عرفت أن الأستاذ محمود بك تيمور وأخاه المرحوم محمد بك تيمور ورثا فنّ القَصَص عن أبيهما العظيم أحمد باشا تيمور.
أقول هذا وقد فرغت من قراءة كتاب نفيس اسمه (أعيان القرن الثالث عشر وأوائل الرابع عشر) تحدث فيه تيمور باشا عن جماعة من الشعراء والعلماء والأعيان بأسلوب هو القَصَص الحق، أو هو أحسنُ القَصَص، إذا صح الاستئناس بعبارة القرآن المجيد.
كتابٌ كله أقاصيص، ولكنه حقائق، وله جاذبية تجعله فوق القَصَص المعطَّر بأنفاس الخيال.
في هذا الكتاب أربعة وعشرون ترجمة لبستْ جميعاً ثوب الصدق في حدود ما وصل إلى المؤلف من أخبار مَن ترجم لهم. ومن المؤكد أن هذا الكتاب يسدّ فراغاً في تصوير بعض معالم العهد الذي عاش فيه المؤلف، ففيه أخبار سياسية وأدبية واجتماعية لم يتحدث عنها أحد من قبل هذه الدقة وبهذا التفصيل.
ونحن نأسف على أن لم يُكتَب لتيمور باشا أن يقف جهوده على هذا اللون من التاريخ، فلو أن الله كان وفقه إلى ذلك لأتى بالأعاجيب في تسجيل الحوادث وترجمة الرجال.
وقد التزم تيمور باشا في هذا الكتاب التواريخ الهجرية أو كاد، والتزم العبارات القديمة في وصف بعض الأشياء، فالعِزبة هي الضَّيعة، والجنيه هو الدنيار، ودخول الإنجليز مدينة القاهرة كان يوم الخميس مستهلّ ذي القِعدة سنة 1299. وتلك من لوازم تيمور باشا الذي كان يريد أن يجعلنا عرباً ومسلمين في جميع الشؤون، أحسن الله إليه بقدر ما أحسن إلى العروبة والإسلام!
وتيمور باشا في كتابه يجسِّم الحسنات ويتغافل عن السيئات. وإذا قهره التاريخ على تسجيل سيئة أحاطها بعبارة من عبارات التشكيك، أو أعتذر عنها بلطف ورفق، حتى ليمكن الحكم بأن الرجل أراد أن يكون كتابه من كتب الأخلاق الصِّحاح. وكيف لا يكون مراده كذلك وقد شهد عارفوه وشهدت آثاره بأنه كان من أرباب القلوب.
ولا تجد في هذا الكتاب عبارة تشير إلى أن تيمور باشا كان يرتب ويصنف ويؤلف، فهي أحاديث بعضها برقاب بعض في يسر وسهولة واتساق، وذلك شاهد القدرة على التعبير الخالي من التكلف والافتعال.
وقد أكثر تيمور باشا من الترحم على من ترجم لهم، فعليه رحمة الله، وعلي الهراوي رحمة الله، وعلى عبد المطلب رحمة الله، فقد كانا يريانه إماماً في الأدب واللغة والتاريخ، ولهما في البكاء عليه قصائد جياد.
زكي مبارك