الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 369/تقديم السنين

مجلة الرسالة/العدد 369/تقديم السنين

مجلة الرسالة - العدد 369
تقديم السنين
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 29 - 07 - 1940


(على طريقة المقامات)

للأستاذ عباس محمود العقاد

قلت ونحن نقدم الساعة: غير هذا التقديم كنت أريد. فنحن لم نقدم الساعات ولكننا سمينا الحادية عشر ثانية عشرة وانتهينا عند هذا التبديل، وإن هي إلا أسماء!

وإنما التقديم الحقيقي بعنائه أن تتقدم الساعة في الزمان، فيصبح ما سيكون فيها وقد كان

فمن ركب الطيارة من القاهرة يصبح (على جناح السرعة) وهو في الإسكندرية

ومن أخذ في قراءة فصل من كتاب يصبح وقد فرغ من القراءة ووعى ما قرأ، أو في كتابة مقال يصبح وقد فرغ من كتابته كأنه قد جهد له طوال الدقائق الستين من تلك الساعة.

ومن غلبه الغضب يصبح وقد سرى عنه، أو من اطمأنت نفسه بالغبطة يصبح وقد تهيأت نفسه لغبطة جديدة

فهكذا يكون تقديم الساعات، أو هكذا يكون التقديم في الزمان

ثم قلت وقد سنح لي الخاطر وتمثلت الأمنية: أمن أجل ساعة واحدة تريد هذه الخارقة؟ كلا، هذا إسراف في التمني وافتيات على الخوارق. وساعة واحدة لا تستحق هذا الإسراف ولا هذا الافتيات. فما أيسر انتظارها على المتشوف، وما أسهل إغفالها أو نسيانها على المستطلع! إنما يستحق هذا الأمنية تقديم سنين لا تقديم ساعات، فمن لنا بمن يقدم الزمان في مجاهل المستقبل عشر سنين؟ ومن لنا بمن يميط هذا الحجاب الكثيف لعيون المتلهفين ونفوس المترقبين؟

عشر سنين فإذا الغد أمس والمجهول معلوم

عشر سنين فإذا الحرب الحاضرة وقد سماها الكاتبون حرباً ماضية، وإذا الناس قد عرفوا الغالب والمغلوب، وكشفوا الغشاوة عما وراء هذا الستار المضروب، من غبار الوقائع وعثيْر الحروب

عشر سنين فإذا بلاد قد طويت وبلاد قد نشرت، وإذا أعلام قد برزت وأعلام قد اندثرت، وإذا مذاهب من الإصلاح أو من الإفساد قد جربها المجربون، فمنهم راضون ومنهم ساخطون، ومنهم من يحكم على أصحابها بالحكمة ومن يحكم عليهم بالجنون؟ وفي مصر كم ذا يحدث في عشر سنين؟

وكم جاهل بحاضرة اليوم يصبح وهو من علم الغد وبعد الغد على أتم اليقين

عشر سنين!

فمن ذا الذي يدير لنا لوالب الزمان عشر سنين؟!

قال الراوي: وكأنما كانت أمنيتي هذه أمنية مرقوبة في العالم المجهول، فما سنحت في خاطري حتى تكشفت لبصيرتي ساحة فسيحة كأرحب ما تكون الساحات، مكظوظة باللوالب والتروس، مزحومة بالمحركين والمحركات؛ وعلى مقابض تلك اللوالب مردة أشداء، ظهر عليهم السأم ولا أقول ظهر عليهم الإعياء، وكبيرهم الذي يقبض على أكبر اللوالب يسألني سؤال العارفين: أأنت المقترح علينا تقديم الزمان عشر سنين؟

قلت: نعم. وأن شئت فعشرين أو خمسين!

قال: على رسلك. فما أجبت إلى الصغير حتى تطلب العظيم، فهل أنت وحدك طالب هذا التقديم؟

قلت: احسبني وحدي، فما زاد الأمر على أمنية في خلدي

قال: جزاك الله الحسنى، فليس أحب إلينا من إجابة ما تتمنى، فقد سئمنا والله وبرمنا، وشقت علينا الإدارة والدوران، وتاقت نفوسنا إلى اختزال واختزان، على شكل من الأشكال ولون من الألوان

إلا أنك وحيد. وماذا تغني أمنية الوحيد بين العدد العديد؟ فهلا ضممت إليك جمعاً من الطلاب، وحشداً من الزملاء والصحاب، فنسأل لك ولهم ونطمع إذن في أن نجاب؟

قال الراوي: ولم يكن أيسر عليَّ من جمع الألوف والمئين، ممن يشتهون تقديم السنين، فخرجت فناديت: إلينا يا طلاب الغيب المكنون، الذين يودون لو يعرفون ما أضمرت للدنيا سنة ألف وتسعمائة وخمسين، ففي لمحة واحدة تبصرونها اليوم فيما تبصرون، وتسمعونها اليوم فيما تسمعون. فما أتممتها حتى كان معي في الساحة الكبرى ملايين من ورائهم ملايين، يوشك أن يضيق بهم المكان، فلا تدور المحركات ولا يتحرك المحركون. وقلت لصاحب اللولب الكبير: دونك اللوالب فأدارها، فهؤلاء هم الراغبون المؤيدون

فنظر إليّ كالمنهمك وهو يقول: لوالبي فأديرها؟! أهكذا بغير شرط وبغير قبول؟ فاستغربت مقاله، وأعدت عليه سؤاله: بغير شرط وبغير قبول؟ فماذا تشترطون؟ وماذا وقد وصلنا إلى الساحة الكبرى يحول بيننا وبين الوصول إلى الغد المأمول؟

قال: الشرط معقول، والشرح لا يطول. . .!

قلت: هات ما عندك، فقد يهون الشرط المعلوم في سبيل الغيب المجهول

قال: إن هذه السنين تحسب من أعمار الناظرين

قلت: كيف؟ ألا تبين؟

قال: بلى، وإليكم البيان. فمن أباه فلينصرف ومن ارتضاه فليبق في هذا المكان

أيها المستطلعون والمستطلعات: إذا دارت اللوالب فمن بقى له من العمر خمس سنوات، فهو إذن مطوي في غياهب القبور منذ خمس سنوات، ومن بقى له من العمر اثنتا عشرة سنة فغايته بعد إدارة اللوالب سنتان، أو عشر مجرمات فهو ميت عند بداية الدوران

ثم نظر إليهم كما ينظر دلال المزاد، ونادى فيهم: أقابلون؟ (أنضبط) اللوالب على الميعاد؟

فما أتمها أو كاد، حتى خلا المكان إلا من خمسة أفراد: صاحب الأمنية، وفيلسوف، ومخترع، وفنان، ورجل من الزهاد

قال الراوي: فعجب أصحاب اللوالب من هذا الحشد الصاخب، والجيش اللاجب، ما بين زائغ ورائغ وهارب، وطفقوا يعجبون من قلة من يعيش للمعرفة والحكمة، وكثرة من يعيش للنفس واللقمة، وشاقهم أن يسألوا أولئك الخمسة ما بالهم قد طاب لهم المقام، فلم يتفرقوا مع الزحام؟

ومال صاحب اللولب على الفيلسوف يسأله: ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟

قال: إذا جمعت خلاصة العمر في لمحة فما أنا من الخاسرين

وسأل المخترع: وأنت ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟

قال: إذا حكيت لوالب الزمن فقد عفيت على المخترعين، وقبضت على زمام القرون، فإني إذن لمن الخالدين

وسأل الفنان: وأنت ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟

قال: لعلي أستخلص زبدة البقاء، من هذه السنين الجوفاء، فأصونها في رمز ثمين، أو تمثال مبين وسأل الزاهد: وأنت ما بالك لم تذهب مع الذاهبين؟

قال: لأن تذهب بي أقدام الزمن خير من أن تذهب بي هذه القدم الواهنة وهذا القلب الحزين

وسألهم جميعاً: ومن أدراكم وقد دارت اللوالب أنكم ستعيشون ولا تذهبون مع الغابرين؟

قالوا: هذا الذي نسألك عنه

قال: وهذا الذي أجهل سره

ثم عاد سائلاً: فهل قبلتم ما يكون وقد جهلتم أين تذهبون، يوم يدور دولاب السنين، وتطلع على الدنيا ستة تسعمائة وخمسين؟

فتلفتوا ثم تفلتوا

وانجلى الحشد الحاشد، عن شبح جامد، كأنه الجسد الهامد، لا يقارب ولا يباعد

. . . اذهب أيها الزاهد، أو أقعد حيث أنت قاعد، فما دارت طاحون من أجل واحد، فتدور من أجلك دواليب الزمن الخالد والأبد الآبد

قال الراوي: وإذا صدقتم هذه المقامة، فلا تقديم للسنين حتى القيامة، وعلى الله السلامة!. . .

عباس محمود العقاد