مجلة الرسالة/العدد 369/الحديث ذو شجون
→ تقديم السنين | مجلة الرسالة - العدد 369 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
على هامش الحرب ← |
بتاريخ: 29 - 07 - 1940 |
للدكتور زكي مبارك
إليك أعتذر، أيها الغزالي، فما كنت أحسب أن السياسة ستجني علينا كما جنت عليك - حصار مزعج! - اللهم اجعل هيكل باشا هو الدكتور هيكل - عواطف نبيلة من شعب نبيل
إليك أعتذر، أيها الغزالي!
في سنة 1922 كنت أقضي أكثر الوقت في تحرير كتاب (الأخلاق عند الغزالي) وكان ذلك في أعقاب أعوام شداد واجهت بها نار الثورة المصرية، واكتوت يدي بلهب الجدل والصيال حول المطالب الوطنية، فأثر ذلك في عقلي وتفكيري إلى أبعد الحدود، وحملني ذلك التأثير على السخرية من اعتزال الغزالي للمجتمع السياسي وابتعاده عن الضجيج الذي كانت تثيره الحروب الصليبية في ذلك الحين
ثم مرت أعوام راضني فيها الدهر بعد الجموح، فعرفت أن الغزالي لم يكن من الجبناء، وإنما كان من الحكماء
وهل أخطأ أبن خلدون حين نهى العلماء عن الاشتغال بالسياسة؟ وهل أخطأ محمد عبده حين استعاذ بالله من مادة: ساس يسوس؟
دلوني على رجل واحد غمس يده في السياسة ثم سلم من الأقاويل والأراجيف؟
لا بأس من تجريح الرجل الآثم، ولكني أستطيع أن أذكر عدداً من الرجال أهينوا في السياسة بغير حق. وأعجب من ذلك أن أستطيع الإشارة إلى عدد من الرجال أهينوا بسبب الانسحاب من ميدان السياسة، فهي عقرب تلسع بلا تمييز بين الغويِّ والرشيد
إن أقطاب السياسة في مصر هم عيون الأمة من الوجهة القومية، وهم أيضاً من الأقطاب في ميادين العلم والأدب والذكاء، ولكن ما نصيب الأديب من الاستفادة بعقول هؤلاء الزعماء؟
الريبة تلاحقك إن فكرت في زيارة هذا الزعيم أو ذاك، والشبهات تحيط بك إن رأيت أن تزود عقلك بمعرفة أهل زمانك فتزور الأندية السياسية من وقت إلى وقت، وسمعتك غرض رجيم لأهل الظنون إن طاب لك أن تحفظ الأدب مع أقطاب عصرك فتؤدي واجب التهنئة أو واجب العزاء في بعض الظروف لك أن تجالس الفارغين من أحلاس القهوات، وليس لك أن تظفر بمجالسة رجل كبير له منزلة سياسية، فإن فعلت فأنت وصولي ينتظر الجزاء القريب أو البعيد
أليس هذا هو الواقع في هذه البلاد؟
بأي حق يحرم الأديب في مصر من التعرف الصحيح إلى من يسيطرون على السياسية المصرية؟
وعمن يأخذ معاني التفكير في مصاير الأمور الوطنية إذا حرم التزود بأفكار أولئك الرجال؟
لو اتصل أدباؤنا بالزعماء لوجدوا لأدبهم آفاقاً أوسع من الآفاق التي يعرفون، الآفاق المحدودة التي لا تمتع غير البصر الكليل، الآفاق المزدحمة بأهل العقم والنضوب من الأشباح التي تغدو وتروح وليس لها زاد غير مضغ الحديث المعاد من فتات الزور والبهتان
كيف يجوز لأديب أن يقول إنه عاش في هذا العصر مع أنه لم يعرف أحداً من أمثال مصطفى النحاس ومحمد محمود وعلي ماهر وحلمي عيسى وعلي الشمسي وعبد الفتاح يحيى ومحمود النقراشي ومحمد هيكل ومصطفى عبد الرزاق وحسن صبري وعبد الرحمن عزام وحافظ رمضان ولطفي السيد وأحمد ماهر ومكرم عبيد وصبري أبو علم ونجيب الهلالي ومحمود بسيوني، ومن إلى هؤلاء من الوزراء والنواب والشيوخ، فإنما نريد التمثيل لا الاستقصاء؟
الأديب الذي لا يعرف أمثال هؤلاء معرفة صحيحة ليس بأهل لمعرفة روح العصر الذي يعيش فيه، وهو أيضاً أكذب الكاذبين حين يدعي أنه أثر في عصره تأثيراً قوياً أو ضعيفاً، فما يمكن لأديب أن يكون من أصحاب السلطة الأدبية إلا حين يستطيع بلسانه أو بقلمه أن يوجه المسيطرون على مصاير البلاد إلى غاية سامية أو مطلب شريف
ثم ماذا؟
ثم تقع البشاعة التي تشهد آثارها في كثير من الأحايين فالزعماء ناس كسائر الناس، وعندهم أوقات يزجونها بالسمر والحديث، فماذا يصنعون وقد غاب عن ناديهم كبار الأدباء؟
يلتفتون فيرون أنديتهم قد اكتظت بأهل اللغو والفضول من الذين يؤذيهم أن يكون لرجل من أهل الأدب أديم صحيح، وعندئذ يصح عند الزعماء أن دنيا الأدب دنيا حقد غيظ وليس فيها مجال للفكر الثاقب والرأي الرشيد، فيكتفون بالزاد الخبيث الذي يقدمه إليهم الأفاكون من أشباه الأدباء. قاتلهم الله أنى يؤفكون:
سعد زغلول أعز أدب مصطفى المنفلوطي
وعبد الخالق ثروت أعز أدب طه حسين
ومحمد عبده أعز أدب حافظ إبراهيم
فهل تعرفون بعد هذه الأسماء أن زعيماً مصرياً عاون على خلق الفرص لأديب جديد؟
وكيف نصل إلى التعاون المنشود والعوائق تقوم من الجانبين؟
فالأدباء ينفرون من الاتصال برجال السياسة خوفاً من تهمة الوصولية
والساسة لا يعرفون من الأدب إلا أنه وسيلة للدعايات الحزبية وبين خوف أولئك وغرض هؤلاء تضيع الفرص على الأدب الصحيح الذي يمثل ما في المجتمع من آراء وأهواء، وحقائق وأباطيل.
أما بعد فالأدب في خطر، لأن أصحابه في عزلة عن الساسة، والساسة يملكون أكثر الوسائل في توجيه المجتمع، لأن الحاكم يملك في اليوم الواحد ما لا يملك الأديب في الأعوام الطوال
فإن كنتم في ريب مما أقول فتذكروا حوادث التاريخ، فقد كان الناس منذ أقدم العصور يعرفون أن الأدب لا بد له من سناد ليؤدي واجبه على الوجه الصحيح، وسناد الأدب هو الدولة، والدولة هي الساسة الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأحسن القول هو التوجيه الذي يصدر عن كبار الأدباء
أليس من العجب أن يكون قدماء اليونان أعقل منا وبيننا وبينهم أجيال وأجيال؟
ومن أجل هذا كان الأدب اليوناني القديم غنياً بالحديث عن سياسة الأمم والشعوب، كذلك كان الأدب العربي في العصور التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية، فلما خمدت جذوة العرب تخاذل الأدب وترك الحديث عن السياسة العالية ليتحدث عن المنافسة بين الربيع والخريف، وليكثر القول في الألغاز وخصائص الأيام والأسابيع
أين ما دعوت إليه ألف مرة من خلق الصلات الروحية والذوقية والقومية بين الساسة والأدباء؟
إن طالت هذه الجفوة بين هاتين الطائفتين فسيكون مصير الأدب من أقبح المصاير، فسيحصر وهو راغم في الحديث عن مشكلات الحاجة خدوجة والمعلم مشحوت!
وأين الأديب الذي قضى سهرته في منزل سعد زغلول ليلة الحادث الذي خرج به الجيش المصري من السودان ليخلق منه قصة أروع من قصة الزوج الذي خانته زوجته الحسناء؟!
وأين الأديب الذي قضى سهرته في منزل علي ماهر في الليلة التي مات فيها جلالة الملك فؤاد ليصور عواطف الوزراء في قلقلات التاريخ؟
وأين؟ وأين؟
تلك أيام خلت، فليستعد الأدباء لفهم هذا القول، فقد ينفعهم في الأيام المقبلات
حصار مزعج
ويمكن بعد هذا أن ندرك بوضوح أن الأدباء يعانون ضرباً من الحصار المزعج، فهم بعيدون عن الأوساط السياسة خوفاً من تهمة الوصولية، وهم بعيدون من الأجواء الشعبية خوفاً من تهمة الإسفاف، وهم بعيدون من الأوساط الفنية خوفاً من تهمة النزق والطيش، فقد شاع صدقاً أو كذباً أن الفنانين لهم بدوات تخرج عن الوقار في بعض الأحيان
نحن إذاً في حصار. ومع ذلك يطلب منا أن نصف جميع طبقات المجتمع، وأن يكون أدبنا صورة صحيحة لما يثور في ضمير المجتمع من عواطف وآمال
وأنا أشهد على نفسي بالمرض من هذه الناحية، فأنا أجانب رجال السياسة مجانبة مقصودة، لأني أتوهم أن اتصالي برجال السياسة قد يصورني أمام الجمهور بصورة من يطلب الصيد. وقد حاولت إبراء نفسي من هذا المرض فلم أفلح، وكان من آثار هذه العلة أن تمضي الأعوام ولا أنتفع بمحادثة زعيم أنقل عنه وينقل عني، فعندنا بالتأكيد آراء وأفكار قد تنفع الزعماء بعض النفع، وقد توجههم إلى التعصب للأدب الرفيع، وهو في حاجة إلى عصبية قوية ترفع ما يعترض طريقه من عقبات وأشواك
وقد أزعجت قراء الرسالة مرات كثيرة باقتراح لم أجد من يصغي إليه، وهو أن يكون للأدباء مكان في الحفلات الرسمية، فجميع الطوائف تمر في خواطر رجال الدولة عند المناسبات الخطيرة ولا ينسى غير الأدباء. وإلا فأين الأديب الذي دعي بصفته الأدبية إلى حضور إحدى الحفلات في قصر عابدين أو قصر الزعفران؟
ويزيد الحرج حين يكون الأديب موظفاً، فهو لا يدعى لأية حفلة رسمية إلا حين يصل إلى درجة مالية تضيفه إلى طبقات الأعيان، والعياذ بالذوق!
والدرجات المالية للموظفين هي الميزان في كثير من الشؤون، ولا سيما شئون التشريف. ويكاد يكون من المستحيل أن يمر الموظف في خاطر أية جهة رسمية إلا بعد أن يصل مرتبه إلى كيت وكيت، ولو كان من أقطاب الأدب والبيان
وكان المأمون أن يعتدل الميزان في وزارة مثل وزارة المعارف وقد تولى شؤونها وزراء من رجال الأدب أمثال: محمد علي علوية، ومحمود فهمي النقراشي، ومحمد حسين هيكل. ولكن الأمور ظلت تسير في طريقها القديم، فلم يستفد الأدب شيئاً من الوزراء الأدباء، وإن كنت أذكر بالخير الكثير أن بعض هؤلاء راعى منزلتي الأدبية فتناسى أني تطاولت عليه في إحدى المجلات!
قد يقال: إن الدولة تفتح باباً من الشر حين تفكر في الاعتراف الرسمي بالقيمة الأدبية، فكل إنسان يدعي أنه أديب، وأن له حقاً في حضور الحفلات الرسمية!
وأجيب بأن الأدب لم يعد فوضى كما كان في الأزمان الخوالي، فالجمهور يكاد يتفق على الإعجاب بأفراد معدودين هم عنده الطبقة الأولى من الأدباء، وهو كذلك يعرف من هم رجال الطبقة الثانية ومن هم رجال الطبقة الثالثة، فما الذي يمنع من أن يكون في ذهن الدولة صورة لأدباء الطبقة الأولى لتفكر في دعوتهم إلى الحفلات الرسمية، كما تفكر في دعوة من يمثلون بعض الجوانب من حياة المجتمع؟
أليس من العجيب أن يشهد الحفلات الرسمية بعض المجهولين من موظفي السفارات والقنصليات، ثم يحرم رجال الأقلام من شهود تلك الحفلات، ولهم فيها زاد نفيس هو تذوق ما في المجتمع العالي من دقائق تعود على القلم بأجزل النفع؟
إن وزير المعارف اليوم هو صاحب المعالي محمد حسين هيكل باشا، وقد سألت عنه زملائي بالمعارف فأكدوا لي أنه الدكتور هيكل، الأديب المشهور الذي كان يحامي عن الأدب وأهله في جريدة السياسة، وأجمعوا على أنه هو بعينه صاحب كتاب (ثورة الأدب)
والحق أن وزيرنا الجديد فيه مشابه من الدكتور هيكل، وإن كنت أخشى ألا يكون إياه، فمن واجبي نحو الأدب الذي أتشرف بالانتساب إليه أن أطلب من الوزير الذي يشبه الدكتور هيكل أن يتفضل فيخص الأدب بنظرة من نظراته الثواقب، ونحن بكل تواضع نقترح أن يكون لكبار الأدباء بعض ما لكبار العلماء من منازل التشريف. فإن كان العلماء - وهم اصطلاحاً رجال الدين - أولى منا بالرعاية لأنهم من أهل الآخرة، فنحن أحق بالعطف العاجل لئلا يكتب علينا الحرمان في الدارين!
وليكن مفهوماً جداً أني أقول هذا الكلام وأنا أتوهم أن هيكل باشا هو الدكتور هيكل، فإن ثبت أن زملائي بوزارة المعارف خدعوني وأن هيكل باشا شخص غير الدكتور هيكل، فأنا أعتذر لمعالي الوزير عن هذه الكلمات الجافية، وأرجوه أن يثق بأني برئ من الأدب والأدباء!
لو صح أن هيكل باشا هو الدكتور هيكل لكانت فرصة ذهبية لنصرة الأدب الرفيع، فقد نغريه بالوعود فنزعم أن أهل الأدب يحفظون الجميل، وأنهم لن ينسوا فضله في إعزاز الشخصية الأدبية بالديار المصرية
اللهم اجعل هيكل باشا هو الدكتور هيكل!
عواطف نبيلة من شعب نبيل
في صباح اليوم السادس عشر من حزيران تلقيت إشارة تليفونية من وزارة الخارجية المصرية تسألني عن اسمي الكامل وعن منصبي بوزارة المعارف، وأردت أن اعرف الموجب لهذه الأسئلة المفاجئة، فقيل: إن أجوبتها ستقدم إلى قصر جلالة الملك تمهيداً لوسام سأتلقاه من حكومة العراق
وفي صباح اليوم الخامس عشر من تموز تلقيت برقية من الصديق الكريم السيد عبد القادر أحمد الموظف بمديرية الدعاية في بغداد يهنئني بوسام الرافدين
ومعنى تلك الإشارة وهذه البرقية أنني خطرت في بال أهل الصدق والوفاء من أقطاب بغداد
وأنا مع ذلك لا أعد (وسام الرافدين) تحية شخصية، وإنما أعده رمزاً لتوكيد الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق، وقد جاهدت في ذلك جهاد الصادقين
وإذا كان الله أراد أن أتشرف بعضوية نادي القلم العراقي، وأن أتشرف بعضوية نادي المثنى، وأن أتشرف بهدية من جلالة الملك غازي الأول، وأن أتشرف بحمل وسام الرافدين، فإن الله تباركت أسماؤه خصني بمزية جليلة هي وسام الود الصحيح الذي شرفني به الشعب العراقي، الشعب النبيل الذي قيدني في هواه بقيود متينة من شرف الحب وكرم الإخاء
وإذا قيل إن العراق يجزيني وفاء بوفاء، وإخلاصاً بإخلاص فأنا أقول إني سأقضي دهري كله مديناً للعراق. ولن أستطيع أداء ما للعراق في عنقي من ديون، ولو بذلت دمي وروحي في حب العراق وأهل العراق
ومن واجبي في هذا المقام أن أقدم واجب التحية لحضرة صاحب السمو الأمير عبد الإله، الرجل العظيم القلب والروح، وقد عرفته معرفة صحيحة في جلال شخصيته الذاتية قبل أن يضاف إليها جلال الوصاية على عرش العراق، ثم زرته بعد ذلك فلم أره زاد إلا كرماً إلى كرم، وصفاء إلى صفاء، وكذلك تكون المعادن الكريمة لعظماء الرجال
ومن واجبي أيضاً أن اقدم التحية لفخامة رئيس الوزراء ومعالي وزير المعارف، وفخامة وزير الخارجية وسعادة رئيس الديوان الملكي في بغداد، راجياً أن يكون عهد جلالة الملك فيصل الثاني من العهود البواسم في بلاد الرافدين، بلاد دجلة والفرات
المرء كثير بأخيه، ولي في العراق أخوة يعدون بالألوف فلله الحمد وعليه الثناء.
زكي مبارك