الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 366/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 366/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 08 - 07 - 1940


للدكتور زكي مبارك

أوهام أدبية تخلقها الحوادث - أسرار الجزع على باريس - الأدب هو سفيرنا في الشرق - الهجرة إلى الريف - ابدأ بنفسك - الأحزاب السياسية والأدبية

أوهام أدبية تخلقها الحوادث

للحوادث العنيفة تأثيرٌ شديد في تلوين الحقائق والأباطيل، وفي خلق الآراء والأضاليل. . . والمرء حين تصدمه الحوادث، يتلفت ليرى كيف صار إلى ما صار إليه من بؤس وشقاء، وكيف استهدف للمعاطب وتعرَّض للأرزاء، وذلك هو الفرق بين اليقظ والغافل من الرجال. وحكاية (السمكات الثلاث) في كتاب (كليلة ودمنة) تؤيد هذا الرأي، إن كان يفتقر إلى تأييد

أقول هذا، وقد قرأت في هذه الأيام كلمات نفيسة لجماعة من أدبائنا في تعليل الهزيمة التي مُنيتْ بها فرنسا، وهم يكادون يُجمعون على أن تلك الهزيمة ترجع إلى ما درَج عليه الفرنسيون بعد انتصارهم في الحرب الماضية من إيثار الدَّعة والسلامة والإقبال على الخلاعة والمجون

والأدباء الذين قالوا هذه الكلمات لم يقولوها إلا لغرض شريف، وهو تحذير أمتهم من عواقب البطالة والفراغ، ومآثم الترف واللين. والأديب ينتهز الفُرص ليضرب لأمته الأمثال

ولكن تلك الكلمات النفيسة وقعتْ فيها أغلاط تستوجب التصحيح

فهل من الحق أن فرنسا كانت فسقتْ عن أوامر الأخلاق؟

هل من الحق أن باريس لم تكن إلا ملاعب صبابة ومدارج فُتُون؟ هل من الحق أن الأندية الفرنسية لم تكن تعرف غير قول السوء ولغو الحديث؟

تلك أوهام يقول بها من لم يعش في فرنسا زمناً يسمح بالتعرف إلى أخلاق أولئك الناس، ليدرك المستور من شمائلهم الصَّحاح. تلك أوهام يقول بها من يعرف فرنسا بالسماع لا بالعِيان

ولو كانت فرنسا كما وصفوا، لكان من المستحيل أن تملك السيطرة الأدبية والحربية في تلك الأزمان الطوال التي سبقت محنتها الدامية في هذه الأيام الس إن الخُلُق الفرنسي نموذجٌ للخلُق الصحيح، فالرجل الفرنسي يلعب في حين، ويجدُّ في أحيان، وهو في لعبه وِجدْه مثالٌ للرجل الذي تنأى به رجولتُه عن اصطناع أخلاق الضعفاء الذين يرون سلامتهم في التستر والتصنع والرياء

والأدب الفرنسي هو في جوهره صورة صحيحة للأدب الإنساني، لأنه ينزع إلى الصدق في تصوير ما تخضع له الإنسانية من قوة وضعف، ويقين وارتياب، وهدىً وضلال

وإذا اندحرت فرنسا السياسية فلن تندحر فرنسا الأدبية

ولو صدقت فرنسا في السياسة كما صدقت في الأدب لكانت هزيمتها من المستحيلات. وقد قلت في مقال قدمته لمجلة الهلال إني أنتظر اليوم الذي تسمح فيه الظروف بأن أُعلل هزيمة فرنسا السياسية

فهل أجد اليوم منفذاً لكلمة وجيزة بعد أن استباح المسيو بيتان ما استباح في تعليل تلك الهزيمة النَّكراء؟

إن المسيو بيتان ردَّ أسباب الهزيمة إلى ما تخلَّق به الشعب الفرنسي بعد الانتصار في الحرب الماضية من إيثار المرَح على التضحية وتقديم الحقوق على الواجبات

فما الذي يمنع من تصحيح رأي المسيو بيتان؟

ما الذي يمنع من القول بأن ساسة فرنسا كانوا أضعف بصراً من ساسة الألمان؟

إن السياسي الألماني قدَّم لجنوده قضية تستوجب الاستقتال فهل قدَّم السياسي الفرنسي لجنوده قضية تستوجب الاستقتال؟

قال السياسي الألماني لجنوده: أنتم جِياع ويجب أن تقاتلوا لتجدوا القوت

أما السياسي الفرنسي فقال لجنوده: هَلُمُّوا للدفاع عن الشعوب الصغيرة

وكذلك شبَّت الحرب بين جنديين أحدهما جائع موتور، والثاني شبعان ريَّان يتكلف الغيرة على مبدأ لا يفقه ما يعبِّر عنه من ألفاظ وحروف

فإلى متى تؤذون شعوبكم بلا موجب أيها الساسة (المحنَّكون)؟

لو أعلن ساسة فرنسا أنهم يدافعون عن بلادهم ومستعمراتهم لا ستبسل الجندي الفرنسي واستمات، لأنه عندئذ يعرف أنه يدافع عن الشرف والقوت؛ ولكنهم ساقوه إلى الميادين لاعتبارات مِثالية لا تثير النخوة في أشجع الجنود وقد قال الفرنسيون ما قالوا في غدر ملك البلجيك، وفات ساستهم أن الوقوف على الحدود كان أنفع وأمنع، ولو فعلوا ذلك لكان من الجائز أن يتغير مصير الحرب، ولكان من المحقَّق أن يستبْقوا من الجيش قوةً يدفعون بها شرّ العدوّ المجتاح

ولكن من الذي يملك القدرة على توجيه آراء الساسة والزعماء؟

أما بعد فلهذا الحديث حواشٍ وذيول سنَعرِضُ لها بالتفصيل بعد حين

والمهمُّ هو تذكير بعض الأدباء بحق الأدب، فما نريد أن يخضع الأدب لأي اعتبار من الاعتبارات، وإن كان من واجبه أن يتعرض لجميع الشؤون

الأدب لا يزدهر إلا إذا تحرَّر من جميع القيود

الأدب هو الترجمان الصادق للغرائز الإنسانية، ولا يجوز أن نطالب الأديب بأن يكون عبداً لزمانه وأهل زمانه، وإنما يجب أن يُسيطر الأديب على الزمان وأهل الزمان ليؤدي رسالته في قوة وصراحة وإخلاص

الأديب أقوى من الناس ومن الزمان، وإنه لا يصوِّر غاية زمنية أو محلية، وإنما يتسامى إلى غايات تُشرِف على طوائف الإنسانية ومراحل التاريخ

ليس الأديب مِزماراً مأجوراً يترنم بما توحي أحوالكم من إطراب وأشجان، وإنما هو قيثارة سماوية يحقّ لها أن تصدح بغير ما تشتهون في أيام الفَرَح وما تبتغون في أيام البكاء، وإن كانت أُخُوَّنه لكم تفرض عليه أن يكون سناداً لآمالكم في جميع الأحايين

ألحان الأديب كأزهار الربيع

فإن كنتم سمعتم أن أزاهير التفاح في نورمنديا تلفَّتت إلى المعارك الدموية بين الفرنسيين والألمان فانتظروا أن يكفّ الأدباء عن التغريد فوق أفنان الوجود، لأن دنياكم عجزتْ عن تذوُّق المَرَح الذي يتموَّج في أعطاف الوجود

أيها الناس

أسمعوا، وعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا

الأديب يُسيطر على الحوادث، ويرفض الاستعباد للحوادث. والأديب أشجع منكم جميعاً لأنه لا يبالي متى يموت. وهل نسيتم أن الأديب هو الذي صنع بقلبه ولسانه وقلمه حوادث التاريخ؟ ستذكرون يوماً أن أعظم المعارك قامت أو كُسبِتْ بسبب لفتة ذوقية صَدَرتْ عن شاعر مُجيد أو كاتب بليغ أو خطيب صَدَّاح. وستعرفون يوماً أن ضمائر الأمم لم تخلقها غير أفكار الأدباء الموهوبين.

الأديب ليس جنديَّا يتلقَّى الأوامر، وإنما هو بَطَلٌ يُطاع. فليكُفَّ قومٌ عن التنديد بأهل الأدب، وليذكروا أنهم لم يكونوا إلا حاكين لأقوال أهل الأدب في الوطنية. ولولا أقلامنا لعجز أولئك اللائمون عن صياغة عبارات الملام

أسرار الجزع على باريس

وبهذه المناسبة أذكر أن في أهل مصر من شكت جفونهم قسوة الأرق حين سمعوا بسقوط باريس بين أيدي الألمان

فبأي حق جزع الجازعون على باريس وهي المدينة الوحيدة التي يموت فيها الرجل من الجوع حين يعوزه القوت؟

جزع المصريون على باريس وليس لهم فيها أعمام ولا أخوال، لأنهم سمعوا أنها كانت مثابة للحرية الفكرية والروحية والذوقية. جزعوا على مدينة سمعوا أن أهلها في أمان من أوزار النفاق. جزعوا على المدينة التي سمعوا أن الرجل قد يعيش فيها طول عمره بدون أن يتعرض للهوان ما دام معتصما بالأدب والحياء

وتلك معان لم يسمع عنها في غير باريس

وإلا ففي أي أرض يستطيع الرجل أن يعيش وهو في أمان من أهل اللغو والفضول؟

في أي أرض يستطيع الرجل أن يعيش وهو من أدبه في حصن حصين؟

باريس هي البلد الوحيد الذي لا يجازَى فيه الرجل بغير ما تجترح يداه

الرجل المهذَّب يعيش ويموتُ في باريس بدون أن تتعرَّض سمعته للزُّور والبهتان

فمن أين نشأت هذه المعاني؟

أليست من ثمرات الأدب الرفيع؟

باريس هي البلد الوحيد الذي يتجاور فيه حزب الله وحزب الشيطان بلا بغي ولا عدوان. باريس هي البلد الذي لا يتقدم فيه رجل بغير حق إلا في النادر القليل

في باريس يقوم الملعب بجانب الكنيسة، ثم يلتقي اللاعبون والمصلون وهم يتبادلون تحيات المودة والاحترام

فإن كانت باريس ضيمت بجناية الأدب والذوق فهي ضحية كريمة للأدب والذوق

وهل يكون الانتصار في الغزو دلالة باقية على شرف المغيرين؟

إن كان ذلك فهل عدَّ التاريخ من الشرف أن ينتصر التتار على بغداد؟ وهل عدَّ التاريخ من الشرف أن ينتصر أعداء العرب على إطفاء نور الحضارة الإسلامية بالأندلس؟

وهل عدَّ التاريخ من الشرف أن ينجح نيرون في إحراق ذخائر الرومان؟

المعاني الروحية والأدبية هي الباقيات على وجه التاريخ. فمن كان يرى الفضل كل الفضل في أن ينتصر جيش على جيش بقوة النار والحديد فستريه الأيام عواقب ما رأى فكره المنخوب، والزمنُ كفيلٌ برفع الغِشاوة عن بعض القلوب

الأدب هو سفيرنا في الشرق

ويتحدث قومٌ عن صوت مصر في الشرق، وأقول إن الأدب هو سفيرنا في الشرق، ولكن أيّ أدب؟

هو الأدب الرفيع الذي يشرَّح جميع الأهواء الإنسانية بحيث يشعر كل امرئ في الشرق أن له نصيباً من العواطف التي يهتف بها أدباء وادي النيل

ولست بهذا القول أعادي أنصار الفكرية المصرية الذين يرون أن تكون مصر مثابة أفكارهم فيما ينظمون ويكتبون، فمن حق المصري أن يجعل مصر قِبلة هواه، ولكن من واجبه وهو أديب أن يذكر أنه أديب، والأديب أعظم وأرفع من أن يَقْصر أهواءه على الشؤون المحلية. الأديب المصريّ مسئول عن الطب لأدواء من وثقوا به من أهل الشرق. الأديب المصري مطالب بأن يكون صوته صدىً لجميع آمال الشرق، ولجميع آلام الشرق. الأديب المصريّ هو الآسي لجروح الشرق، وهو القيثارة التي تصدح بأفراح الشرق

وهذا هو واجب كفاية - كما يقول الفقهاء - فلست أطالب كل أديب بأن تكون نوازعه شرقية، وإنما أستنكر أن يعاب على رجل مثلي أن تكون له سياسة أدبية تتجه نحو الشرق، ولمصر في الشرق أهلٌ وأصدقاء

والواقع أني أتهم قومي بلا موجب، فأدباء مصر جميعاً يضمرون أصدق العواطف للشرق، ولكن يُعوزهم التعبير المقبول، فهم يُوهمون قراءهم أنهم لا يعرفون غير مصر، ولو نطقت الضمائر لقالت إن عواطف أدباء مصر لم تكن إلا جوارح تحسُّ آلام الشرق

وهل يلام أدباؤنا على إعلان هواهم لمصر في أوقات الشدائد والخطوب؟ نحن نغار على مصر لغرضين: لأنها مصر، ولأنها مفتاح الشرق. فإن أمدَّنا الله بالقوة والعافية والتوفيق فسنجعل من مصر قاعدة حربية تدفع عدوان الغرب على الشرق

آه ثم آه!!

إني أخاف طغيان الحوادث على مصير اللغة العربية، وعلى العقيدة الإسلامية. وأنا مع ذلك غير يائس، لأن مصر باقية، ولأن الشرق لن يزول. والله هو المستعان، على مكاره هذا الزمان

الهجرة إلى الريف

الهجرة في أصلها اللغويّ تدلّ على معنى المَشقْة، فهي تشهد بأن المُهاجر ينتقل من حال الاستقرار إلى حال القلَق، فهل يكون الأمر كذلك في الانتقال من المدن إلى الأرياف؟

أعترف مع الأسف بأن الأمر صار كذلك، لأننا بالغنا في تجميل الحواضر المصرية مبالغة مُرهقة، بحيث صار المسكن الواحد يتكلف من الماء والنور ما يكفي لتموين أسرتين من أهل الريف. وقد زادت الأمور الكمالية زيادة لا تطاق، ثم أمست تلك الكماليات وهي من الضروريات. فنحن اليوم بفضل الحضارة في شقاء وعناء

وكنت لأول عهدي بحياة القاهرة أعيش عشية بسيطة، فلم أكن أشعر بفوارق كثيرة حين أنتقل لقضاء الصيف في الريف. ثم تحضَّرت رُويداً رويداً إل أن صرت لا أستطيع قضاء ليلة واحدة بمنزلنا القديم في سنتريس. ولولا الأموال التي خاطرت بتبديدها في بناء منزل جديد هناك لكان من العسير أن (أهاجر) من وقت إلى وقت لزيارة أهلي

الحق أن الحواضر المصرية شلْت قدرتنا على الأُنس بالريف. فالأنهار الجارية في الأرياف لا تغنينا عن صنابير الماء التي ننعم بها في الحجرات والغرفات. والقمر الذي يسطع بأنواره الفضية في سهول الريف لا ينسينا جاذبية النور الذي نتلقاه عن مصابيح الكهرباء. ومن هنا صح القول بأن الذهاب إلى الريف هِجرةً فيها ما فيها من القسوة والعنف. فهل تكون هذه (الهجرة) فرصةً للتداوي من أمراض المدينة؟

إن كنت سمعتم أن الترف يقتل الممالك والشعوب فقد آن الأوان لشرح تلك النظرية.

فالحضري الذي يعجز عن المبيت بديار الريف هو أعجز الناس عن تحمُّل العيش في ميادين القتال

ولو شئت لاقترحتُ أن يُمنَع النوم فوق الأسرَّة في المعسكرات حتى لا يعرف الجنود طعم اللين. فمن الصعب على من تعوّد النوم فوق الحشايا أن يفترش الأرض الصمّاء حين تقهره على ذلك ظروف الهيْجاء

يرحم الله أيامي حين كنت فلاحاً لا يؤذيه النوم فوق الأرض الجرداء!

فقد وَقَذتني الحضارة وأضرعَتني حتى صارت جُنُوبي لا تطمئن إلا إلى حشايا تُنَجّد في العام الواحد مرتين أو مرات، وذلك داء عُضال

لا فائدة من النوم على ما فات. ثم أُوجِّه الكلام إلى أولئك المهاجرين فأقول:

أنتم تَفِدون على أقوام تحصنوا بالقناعة، فما يعرفون من ألوان الطعام غير لون أو لونين، فلا تفتنوهم برؤية الموائد المثقلة بأطايب الطعام والشراب، ولا تحملوهم على أن ينظروا إليكم نظر المحروم إلى المطعوم. فلذلك عواقب يخشاها من تهمهم سلامة القلوب في الريف

أنتم تفِدون على أقوام لا يملك الشخص منهم غير ثوب أو ثوبين، فلا تفتنوهم بكثرة الأثواب، ولا تشعروهم بأنكم أقدر منهم على الزينة، فلذلك آثام ستسوؤكم أوزارها بعد حين

وما الموجب لأن يتخطْر بعض الشبان (المهاجرين) فوق شطوط الجداول وقد لبسوا (البيجامات) وتركوا رؤوسهم العارية تداعب النسيم بالشعر المعطَّر المشكول؟

ألا يعرف هؤلاء الشبان أن أهل الريف لن يلقوهم بغير السخرية والازدراء؟

يجب أن تعيش في الريف بأخلاق أهل الريف، فتحلق رأسك وتكتفي في مطعمك وملبسك يما يتسق مع المأثور من شمائل أولئك الناس، فإن خالفت هذه الوصية فلست أهلاً لنعمة الله عليك، ولن تترك في الريف غير ذكريات لا يسرُّك أن تعاد

هل عندك من قوة الأخلاق ما تقدَّم به لأهل الريف زاداً جديداً من أدب النفس؟

هل تستطيع أن تروض أهل الريف على الاقتناع بأن لأهل المدن شمائل هي السبب في سبقهم إلى أطايب المنافع وكرائم الطيبات؟

هذا يومٌ من أيامك، أيها المهاجر إلى الريف، فكن قَبَساً من الهداية يدفع ما في الريف من ظلمات. وكن في سيرتك مثالاً يحتذيه مَن رحَّبوا بقُدومك أجمل ترحيب إن الذين يهاجرون إلى الريف بالألوف سيعرِّضون الريف لرجَّة اجتماعية؛ فما عسى أن تكون تلك الرجَّة؟ أتكون خيراً؟ أتكون شرّاً؟

عندك - أيها المُهاجر - جواب هذا السؤال. لطف الله بك وهداك!

ابدأ بنفسك

كَثُر التواصي بالوطنية في هذه الأيام، وأصبحت الجرائد والمجلات ميداناً لأقلام أهل الحَميَّة من أبناء الوطن العزيز

وهذه فرصة لامتحان النفوس والعزائم والقلوب، فكل امرئ يعرف ما يملك من زاد الوطنية، وكل امرئ يعرف ما عنده من عناصر الأمانة والصدق والإخلاص

والمهم هو أن تبدأ بإعداد نفسك لدعوة الواجب، وأن تؤمن بأنك المسئول الأول، وأنك وحدك المعني بالنداء يوم يدعو الوطن أبناءه لتفديته بالأموال والأرواح

ويلي ذلك في الأهمية أن تشعر بمعنى الأخوَّة الوطنية، وأن تثق بأن جميع من تصادفهم في غُدُوَّك ورواحك هم أخوتك وأنصارك، وإن لم تعرفهم من قبل، وأن تعرف في قرارة نفسك أن منافعهم هي بعض منافعك، وأنك عن تفديتهم مسئول

التماسك الأخوي هو الحجر الأول في بناء الوطنية، ويوم يصح هذا التماسك لا يضيرنا أن تَفْسُد الدنيا يوماً فينفرط عقد الأمان

هل سمعت بالقوانين التي تشرع للطوارئ؟

إن كنت سمعت فاعلم أن الأمة الكريمة هي التي لا تفتقر إلى مثل تلك القوانين في غياهب الأزمات وظلمات الخطوب

نحن لا نحتاج إلى أدب النفس في أيام السلام، وإنما نحتاج إلى أدب النفس في أيام الحرب، فمن أنت بين أصحاب النفوس؟

الوطن يعتمد بعد الله على نفسك العالية، فكن عند ظنه الجميل

الوطن يرجو أن تفي له في أيام الشدة كما وفى لك في أيام الرخاء

الوطن هو أنت، فمن أنت؟

إن في الدنيا ناساً يتخذون أيام الحرب وسيلةً لِوَرَم الجيوب، وأعيذك أن تكون من أولئك الناس لمثل هذه الأيام تُدَّخر الأخلاق، فكن من أقطاب الأخلاق

أبدأ بنفسك فنزِّها عن مآثم الجشع والخيانة والبهتان، فإن فعلت فستظفر بثروة روحية تدفع عنك ظلمات الحوادث، وتمنحك القدرة على الاستهانة بالخطوب

العاقبة للصادقين

العاقبة للصادقين

العاقبة للصادقين

فكن في جميع أحوالك من أهل الصدق. وأحذر أن يكون أحد في الدنيا أصدق منك، فما يليق برجل كريم أن يكون من أهل الطبقة الثانية في الصدق

الأحزاب السياسية والأدبية

في أعقاب الأزمة الوزارية الأخيرة أدركت قيمة الحياة الحزبية إدراكاً أوضح من الإدراك الذي كنت أتمثلها به من قبل، فقد صح عندي بصورة صريحة أنها تعاون على إظهار أقدار الرجال

ومن المؤكد أن في كل أمة رجالاً يصلحون للحكم بأفضل مما يصلح بعض رجال الأحزاب، ولكن حرمانهم من الأنصار يحول بينهم وبين أداء واجبهم عن طريق المناصب الوزارية، وهي مناصب تمكِّن الرجل المخلص من أداء الواجب الوطني على الوجه المنشود

قد يتفق في بعض الأحيان أن يصل الرجل المستقل إلى تلك المناصب، ولكنه مع ذلك يظل مقلقلاً مزعزعاً بسبب عزلته عن الأسندة الحزبية، وهي دعائم تحول الضعفاء إلى أقوياء. والمرء كثير بأخيه، كما قال الرسول:

من حق الرجل أن يتحزب، بل من واجبه أن يتحزب، على شرط أن يكون صحيح النية في خدمة المبدأ الذي ينتمي إليه، وعلى شرط أن يكون التضامن الحزبي وسيلة لغرض سليم هو استعجال الفرصة للاضطلاع بحمل الأعباء الثقال في خدمة الوطن عن طريق الوزارة أو طريق البرلمان

ولا يعاب التحزب إلا بآفة واحدة هي ما يقع من السَّرف في اللجاجة والعنف، كالذي نراه من بغي بعض الأحزاب على بعض من حين إلى حين ولكن من السهل على الرجل الحكيم أن يتجنب هذه الآفة فلا يَشتِم ولا يُشتَم، ويظلْ محترماً من الجميع، كأن يكون مِثل مصطفى عبد الرازق بين الدستوريين، ومثل زكي العرابي بين الوفديين، ولهذين الرجلين أمثال في سائر الأحزاب، وإليهم تتجه الأنظار في الظروف التي توجب أن يتقدم لحمل أعباء الحكم رجالٌ ليس في مسلكهم الحزبيّ ما يهيج الخصومة ويثير الخلاف

تلك هي الحال في الحياة السياسية، فكيف تكون الحال في الحياة الأدبية.

الواقع يشهد بأن النجاح في الأدب قام على إسناد من العصبيات الممثَّلة في الأندية والجمعيات، فعندنا في مصر أحزاب أدبية، وإن لم تصطبغ صراحة بالصيغة الحزبية، وبفضل ذلك التحزب المستور لمَعَتْ في عالَم الأدب أسماء كانت أهلاً للخمول لو واجَهت الحياة الأدبية بلا إسناد من الأصدقاء والحُلفاء

أقول هذا وقد فاتني التحزّب في السياسة والأدب، فأنا صديق الجميع، وعدو الجميع، ومن كان كذلك فهو خليق بأن يعيش بلا أنصار ولا أصفياء

سمعت أن في مصر حزباً يسمى حزب المستقلين، وهم الذين قرروا الاجتماع في حديقة الأزبكية ليعلنوا رأيهم في الصورة التي تؤلَّف بها الوزارة الجديدة. ثم سمعت أيضاً أن الوزارة أُلَّفت قيل أن ينفضّ اجتماعهم (المعقود)

وأنا في الأدب من حزب المستقلين، فليس من العجب أن تؤلَّف اللجان وتُعقد المؤتمرات بدون أن أخطر في البال، فتلك مزية الاستقلال!

سأتحزب، سأتحزب، سأتحزب

ولكن كيف؟

سأعقِد محالفة بيني وبين قلمي، وهو أقوى وأنفع من ألوف الأصدقاء

قضيتُ دهري بلا نصير ولا مُعين، وسأظل كذلك طول حياتي، لأقيم الدليل على أن من يستنصِر بالله لا يَخيب ولا يضيع

فإليك يا فاطر الأرض والسموات، وأنت وحدك الوليُّ النصير، أقدم واجب الحد والثناء

زكي مبارك