مجلة الرسالة/العدد 363/رسالة الفن
→ رسالة الشعر | مجلة الرسالة - العدد 363 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 17 - 06 - 1940 |
تأملات
في الأنتراكت
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يقضي الأستاذ عزيز عيد في هذه الأيام فترة من حياته تشبه فترة (الأنتراكت) في عمله. وهو لا يقضيها متكاسل العقل راكد الحس، وإنما هو يشغل نفسه فيها بالإقبال على معاشرة حيوان، والتأمل في شعوره وأسلوبه، وتعبيره عن هذا الشعور وطريقته فيه، وما قد يصاحب هذا من تفكير يسير أو كبير
وهذا الحيوان الذي يعاشره الأستاذ عزيز ويدرسه في هذه الأيام كلب اسمه (بوي) وهو يربيه منذ سنوات ويعزه ويحبه حبه لأوفى ربيب كفله
والوقت الذي يقضيه هذان الصديقان الصدوقان معاً لا يختلف في شيء عن الوقت الذي يقضيه كل صديقين صدوقين فهما يجلسان معاً يتسامران، وهما يخرجان معاً يتريضان، وهما يتشاغبان ويتصارعان ويتلاكمان، وهما أيضاً يتصالحان ويتخاصمان، وبتعاتبان ويتقابلان ويتعارضان. . . أما (بوي) فهو مع صاحبه مخلص صادق نقي الإخلاص والصدق، وأما صاحبه فلا يقل عنه إخلاصاً وصدقاً وإنما هو يريد عنه التفاتاً إلى ما بينهما من الإخلاص والصدق، وإلى ما هما فيه من عناء الحياة والأحياء
يجلس الأستاذ عزيز مع صاحبه يحدثه عن آلامه مما فات وعن آماله فيما هو آت، والكلب قاعد ينظر إليه مصغياً منتبهاً إذا رأى صاحبه طرب فقد طرب معه، وإذا رآه أسف فقد يأسف معه حتى يمل الأستاذ عزيز عيد فيستأذن (بوي) في أن ينصرف، أو يرجو (بوي) لينصرف هو، وما أسرع (بوي) إلى أن يطيع وأن يلبي الرجاء كما يلبي النداء
فيه كل معاني الحياة ودلائلها، وليس ينقصه إلا أن يعرف الغريب المعقد منها كي يساوي الإنسان في موقفه فيها خرج يوماً مع صاحبه إلى رياضة في الخلاء على مقربة من طريق القطار، ولم يكن قبل ذلك قد رأى قطاراً. ويروى الأستاذ عزيز هذه القصة فيقول: (سمع (بوي) صوت القطار وهو مقبل من بعيد يصفر ويرعد فبدا عليه الذعر وصاح فيَّ ينبهني كأنما حسبني في غفلة عنه، وكأنما حسبه وحشاً ضارياً جباراً يعدو إلينا ليفتك بنا، وكأنما هالته قوة ذلك الوحش كما هاله ضعفنا جنبه، وكأنما كان بصراخه يريد أن يقول لي: خذ حذرك وأتق هذه النازلة، وأنقذني معك إذا استطعت، فلست بقادر على صده عنه ولا دفعه عن نفسه، حتى ولا عرقلته عنك ريثما تفر. . . لقد كان (بوي) يقول لي هذا كله في صراخه فقلت له: لا تخف يا (بوي) فهذا قطار. . . ورآني (بوي) مطمئناً فاطمأن إذ أدرك أنه لا يمكن أن يملأني هذا الاطمئنان كله لو كان هذا القطار المقبل وحشاً ضارياً مفترساً. ولكن القطار اقترب وضجته تعالت فتوسط (بوي) ما بيني وبين القطار وهاج وجن نباحاً، فاضطررت إلى أن أقف وأن أضمه إلي ريثما يمر القطار، فضممته ونظرت في عينيه أؤكد له الأمان والسلامة، فإذا بعينيه ترسلان إلي نظرة معناها: هاأنذا معك، وإن كنت تراني خائفاً فإنما خوفي عليك أكثر من خوفي على نفسي). . . ويسترسل الأستاذ عزيز في وصف نظرات (بوي) بما لم يصف به نظرات ممثل ولا ممثلة
ويروى الأستاذ عن صاحبه قصة أخرى فيقول: (كان لنا جار وكان لجارنا كلبه، وكان بين بوي وبين هذه الكلبة غزل وغرام لم يرض عنهما الجار، فكان يطرد (بوي) كلما رآه يحوم حول معشوقته، حتى كان يوم ضرب فيه الرجل (بوي) بعصاه ضربة قاسية آلمته ولم يستطيع معها إلا أن يفر هارباً، وليس من عادة (بوي) أن يهرب ولا أن يفر. ومضى الرجل إلى حاله في ذلك اليوم. ولكن بوي كان يعرف مواعيد دخوله وخروجه، فبدأ ينتظره ويتعمد انتظاره ليفجأه يوماً فينهشه نهشاً، ولكن الرجل كان يتقي دائماً هجمات بوي بعصاه يلوح له بها، والعصا أداة كفاح إنسانية يخشاها كل كلب ويعجز حيالها. وشكا لي الجار (بوي)، وقال لي: صحيح إن العصا تقيني هجماته ولكني قد أغفل يوماً عنها فلا اسلم منه، فأرجوك أن نتنبه إليه وأن تمنعه عني، فقلت لجاري: أنت الذي وقفت نفسك هذا الموقف، فقد كان عليك أن تعرف أن لهذا الكلب كرامه، وأنه يعلم تمام العلم أن الذي يعلقنا به هو رغبتنا في حمايته، فإذا ثبت لنا وله ولك أنه عاجز عن حماية نفسه فقد نتخلى عنه وهو يكره هذا، لأنه عاشرنا مدة ما فأحبنا كما رأى أننا نحبه. . . فعليك إذن أن تحمي منه نفسك، لأني لو نهرته عنك بعد الذي كان منك أغراه ذلك بقبول الذل والضيم، وكنت أنا محرضه ودافعه إلى هذا. . . فقال لي الرجل: إن هذا لا يمنعك من أن تحول بين كلبك وبيني. . . وكنت من يومها أنتظر خروج الجار ودخوله مع كلبي لأشغل الكلب عنه ولأمنعه من الفتك به أو الهجوم عليه، وكنت أرى في الكلب تعجباً من موقفي هذا ودهشة لو كان ينطق لعبر لي عنهما بقوله: فيم حيلولتك بيني وبين هذا القاسي، وقد رأيت أنه ضربني ولو رأيت أنا أحداً ضربك لما حلت بينك وبينه وإنما كنت عليه معك؟. . . ثم خطر لي أن أصلح ما بينهما، فانتظرت مرور الرجل يوماً فاستوقفته وناديت (بوي) وأخذت أربت على كتفي الرجل، واربت على كتفي الكلب، وأقول لكل منهما إن الصلح خير، وأقول لكل منهما إن الصفح والعفو من شيم الكرام، وأقول لكل منهما إنه من الممكن أن يتناسيا الماضي وأن يستأنفا الصداقة من جديد، ثم أشرت إلى الرجل فبدأ يمسح للكلب ظهره، فراغ الكلب في أول الأمر رافضاً هذا الصلح، ولكنه لما رآني أستحسنه وأطلبه منه مسح رأسه هو أيضاً في ساق الرجل ثم نظر إلى يقول بنظرته: لقد صفحت عنه لكي ترضى. . .
وتجر هذه القصة إلى ذاكرة الأستاذ عزيز قصة أخرى فيقول: وقد تخاصمت أنا ذات مرة مع بوي، فقد كنا نلعب معاً، ومن عادتنا إذا لعبنا معاً أن أضربه ضرباً خفيفاً وأن يعضني عضَّاً خفيفاً، وأن يسامح كل منا الآخر فيما يناله من ألم الضرب الخفيف أو العض الخفيف، لأن كلا منا يعلم أن هذا مزاح ولعب ولا أكثر، غير أني في تلك المرة برعت في مشاكسة (بوي) حتى اغتاظ غيظاً شديداً فعضني عضة أسالت الدم من إصبعي. . . فرأيت هذا ذنباً لا يمكن أن يغتفر لأني إذا اغتفرته فقد لا يحسبه (بوي) ذنباً، وقد لا يجد بعد ذلك مانعاً من أن يعضني عضة أقوى من هذه العضة، وقد يكون في ذلك ضرر من الخير أن أتقيه وألا أنتظر حتى يحدث فأعالجه. . . فأمسكت في يسراي بكرسي جعلته درعاً، وفي اليمين عصا انهلت على (بوي) ضرباً موجعاً مبرحاً علم الله أن كل ضربة منه كانت تنزل على قلبي قبل أن تنزل على جسمه، ولكني كنت أرى أنه لا مفر من هذا الضرب عقاباً وردعاً. . . وبعدها خاصمت (بوي) وخاصمني (بوي) أيضاً. . . خاصمته: فلم أعد أكلمه، ولم أعد أناديه، ولم أعد أسامره، ولم أعد ألعب معه. وخاصمني: فلم يعد ينتظرني ليلاً، ولم يعد يدنو مني نهاراً، ولم يعد يمس طعامه الذي كان يوضع له. . . وصام هكذا ثلاثة أيام، كان خلالها كلما رآني ألقى إلي نظرة معناها عند من يفهمون النظرات: لا تكلمني، ولا أكلمك، وأنت تعرفني وأنا أعرفك. . . أنت لم تسامحني ولكني سامحتك. . . وكنت أنا أنظر إليه وأقول له بعينيّ: الذنب ذنبك والبادئ أظلم. . . ومع هذا الخصام، وفي عزه وشدته، كنت ألمح (بوي) وأنا أرتدي ملابسي أمام المرآة، يدنو من باب الحجرة مخفياً جسمه كله ويطل إلى بعينيه كمن يريد أن يراني صحيحاً سليماً معافى، وكمن يكفيه أن يراني كذلك. . . وكنت أنا أتغاضى عن نظرته هذه ولا أبدي له التفاتي إليها. . . حتى كان اليوم الثالث، فالتقت أعيننا، فإذا بهذا الذي كان في عينيه يذوب ويتلاشى، وإذا بعينيه تلمعان عوضاً عنه بقوله: أما اكتفيت خصاماً؟! إنه ليس لي أن أبدأك بالصلح فربما كنت لا تزال غاضباً أو مستاء. . .! عندئذ انخذلت أمام هذا الوفاء الصامت، وابتسمت وناديته وقلت: لقد كانت عضة مؤلمة يا (بوي)، وأظنك لا تذكر أني ضربتك قبلها ضربة مؤلمة. . . صحيح أن (بوي) لم يكن ليفهم معاني هذه الكلمات جميعاً مفصلة. . . ولكن (بوي) أدرك من صوتي ومن بريق عيني - كما يدرك دائماً - أي حالة نفسية أنا فيها. . وفي هذه الساعة أدرك (بوي) أني أعاتبه، كما أدرك أن الموقف يقتضيه الاعتذار عما بدر منه، فأطرق برأسه وبعينيه البليغتين إلى الأرض، واقترب مني متباطئاً متذللاً مسترضياً فمسحت له ظهره بيدي، فقبل يدي بلسانه، فعانقته وعانقني وعدنا صديقين حبيبين)
بهذا الوضوح، وبأكثر منه تفصيلاً يتحدث الأستاذ عزيز عيد عن كلبه (بوي)، وهو كلب من ذلك النوع الضخم الذي يسمونه (وولف) والذي كان منه فقيد السينما (رن تن تن)
وليس (بوي) ولا (رن تن تن) بمفردين في الكلاب فهما يدركان مالا يدركه غيرهما من أفراد جنسهما، بل ولا جنس الكلاب بمفرد في الحيوان فهو وحده الذي يشعر بالحياة، والذي يعبر عن شعوره فيها والذي يتفهمها فهماً يسيراً أو فهماً كبيراً، وإنما كل الكلاب مثل (بوي) و (رن تن تن) وكل الحيوانات مثل الكلاب وإن كانت تختلف في أنصبتها من الحياة. وإذا كان الناس متشاغلين عن الحيوانات، فإن لها من الشعراء والفنانين نصراء وأصدقاء يعاشرونها ويتفاهمون معها، ويدرسونها الدراسة الحية القائمة على المعاشرة وتبادل العواطف، وهذه الدراسة أشرف بكثير من تلك الدراسة التي يعمد إليها العلماء مع الحيوان
وقد يعاني الفنانون استهزاءً كبيراً من العامة والمثقفين لهذه النزعة، وهذه النزعة وحدها هي التي ستكشف للبشرية بعد جيل أو أجيال عن حقيقة موقف الإنسان من هذه الأحياء التي شاء الله أن تعيش معه على ظهر هذه الأرض. وإذا كان الإنسان يدعي أن له في هذه الأرض السيادة، فإن عليه أن يستكمل لهذه السيادة شروطها، وأول شرط منها أن ينظر فيما سخره الله له من الخلائق، وأن يفهم طبائعها حتى يستطيع أن يركن إلى كل منها يطلب عنده علماً بما يجهله وبما آتاه الله الحيوان من قوى
وإذا كان الإنسان يرى في بعض الحيوان بأساً وقوة يخشاهما فكل حيوان يرى في الإنسان دهاء وخبثاً يخشاهما هو أيضاً ويمقتهما ويقاسي منهما الأمرين، وعندما يأمن الحيوان جانب الإنسان فإنه من غير شك يوليه بذلك أماناً وصداقة، والإنسان يستغل في نفسه هذا الامتياز منذ القدم، ولقد استأنس به أسوداً وفيلة وطيراً ووحشاً، ولعل القدماء كانوا أحسن عشرة للحيوان منا، فنحن قد غرتنا مدنيتنا وشغلتنا حتى لم نعد نعبأ إلا بأن نكون سادة، ولو كنا الطغاة الجاهلين. . .
عزيز أحمد فهمي