مجلة الرسالة/العدد 362/رسالة الفن
→ في موكب المحرومين | مجلة الرسالة - العدد 362 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
من هنا ومن هناك ← |
بتاريخ: 10 - 06 - 1940 |
تأملات
التفاحة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- ما هذه الهدية السخيفة التي أرسلتها إلي في خطابك الأخير؟؟
- أصورة (التفاحة) سخيفة؟ أو لا ترى فيها معنى، أو لا تثير فيكَ شيئاً؟ حقاً، إنكَ متأخر
- لماذا لا تقولين إنني شبعان؟
- وهلا يعجب بصورة التفاحة إلا الجياع؟! إنها يا هذا رمز لما لا يؤكل ولا يشرب
- يا للتعقيد! ولأي شيء ترمز التفاحة؟ لقد كنت أحسب إحساساً فنياً الذي بعثك على رسمها، وكنت أحسبك مخلصة في تصورها وتصويرها، ولم يكن يخطر في بال أنك تجعلين منها ستراً تسدلينه على أسرار في نفسك. . .
- ولكنه ستر خفيف شفاف، لا أظنه يحجب السر عن العين. . . إلا إذا كانت عيناً بلهاء تصدق ما ترى
- فهذا الستر إذن كغلالة الحرير التي نتشح بها الإبليسة تزعمها أمام الأتقياء البلهاء حشمة، وتقول بها لكل جارحة من الأعين هأنذا!
- يا للفراسة! هو هذا الذي تقول. . . فهل تستطيع بعد أن عرفت هذا أن تقرأ التفاحة؟. . .
- بل قولي رسم (التفاحة) فإني مع التفاحة لا أستطيع إلا أن آكلها. . .
- فليكن. . . ماذا تقرأ في رسم التفاحة. . .؟
- يجب أن تساعدني بأكثر من هذا. . . فإنك إلى الآن لم تقولي لي من أين أبدا القراءة. . . من اليمين أم من الشمال؟. . .
- يمين ماذا وشمال ماذا؟ ألهذا الرسم يمين وشمال؟ كل ما فيها ألوان. . . حمرة مفردة، وصفرة مفردة، وحمرة وصفرة ممتزجتان: تخف إحداهما في المزج مرة وتثقل مرة، وتخف في ناحية أكثر مما تخف في الأخرى، وتثقل في ناحية أكثرها تثقل في الأخرى. .
فهلا يحدثك هذا كله بشيء؟. . .
- انتظري قليلاً، ففي درس القراءة الأول يغفر الهجاء. . . لنبدأ بهذه الحمرة. . . هي لون الدم، وهي لون اللحم، فيها من الحياة، وفيها من الفحش، وفيها أيضاً من النار لذة الدفء وعذاب الحريق، وفيها من الورد شعر، وفيها من الخد صبا، وفيها من الشفاه حنين ونداء. . . وكلام. . .، وفيها من الخجل، وفيها من الغيظ منذ الغيرة إذا استحيت إلى الحنق إذا اضطرم. . . في الحمرة هذا، وقد يكون فيها غيرة. . . فهل هذا يكفي الآن ابتداء أسايرك به. . .
- بداية لا بأس بها. . . فماذا ترى في هذه الصفرة. . .؟
- يا سبحان الله لا أدري لماذا أكره الصفرة. . . لست أرى فيها إلا الموت
- وهل تكره الموت؟ إنه علينا حق
- على العين والرأس نؤديه طائعين ومكرهين مادامت أمك حواء قد اشتهت الكارثة التفاحة. . .
- ليست حواء أمي أنا وحدي فهي أمك أنت أيضاً. . . أما تحب أنت التفاح
- لا أحبه ولا أكرهه، أو أنا أحبه وأكرهه. . .
- لعلك تحب حمرته وتكره صفرته، ما دمت تخاف من الموت. . . ولكن ألست ترى في الصفرة أيضاً لون الذهب. . . أو لون بعض الشعر. . .
- أما الذهب فمشغلة يلاعب العابثون عقول النساء بها وهن يحببنه وهم يحبونه من أجلهن. . . وأما ذلك الشعر الأصفر فلا أكتمك أني أحس فيه بشيء من البرودة لا تنزع نفسي إليه كثيراً. . . وهو عندي كالعيون الزرق والعيون الخضر ربما لاح لي فيها صفاء وبراءة ولكني لا أغفل فيها عن لين ونزف وتكبير وهذه لا تشجع المتعطش إلى الوفاء الراغب في التحكم. . .
- لو أنك تستطيع أن تحفظ على هذى العيون صفاءها وبراءتها، ون تحفظها من نزفها وكبريائها لذقت من وفائها ما يرضيك ولبسطت عليها ما شئت من حكم وسلطة. . . ولكنك كسلان ومثلك جدير به أن يعيش في مصحة يسقيه أطباؤه الحب، ويحقنونه بالراحة والسعادة. . .
- الله يسمع منك!
- فأنت معذور حين سخرت من صورة التفاحة
- بل كنت بسيطاً لم أر فيها إلا أنها طعام
- ولي عليك الآن أن تشكرني فقد علمتك أن ترى فيها أكثر من ذلك
- بل إني أرى هذا الذي علمتني إياه شيئاً تستحقين عليه اللعنة لا الشكر. فأنت قد فتكت بعقلي، وأنا أشعر أني سأصبح بعد هذا الذي تعلمته منك إنساناً موسوماً كلما رأيت شيئاً حاولت أن أعرف له معنى من وراء معناه البارز، وهذا أمر سيهديني من غير شك إلى حقائق هي غائبة عني اليوم، ولكنه في الوقت نفسه سيبعثني إلى أوهام وخيالات قد أحسبها حقائق إذ يركن عندها عقلي بينما هي ليست في الحق إلا عوارض. . . فما نجاتي من هذا وأنا لا أحب إلا أن أرسو عند حق أطمئن إليه؟ وقد كنت مرتاحاً يوم كنت راضياً عما كان يواجهني من أبسط الحقائق. . .
- إنما كنت راضياً عن البلاهة
- وكنت أجد فيها كل المتعة. ألست ترين الزنجي الذي إذا رأى التفاحة على الشجرة قطفها ونهشها أسعد حالاً من ذلك المتحضر المترف الذي يراها فيستغرق في النظر إليها هذا الاستغراق الذي تريدينه، ثم يقوم آخر الأمر فيرسمها. . . لماذا يرسمها؟. . . هل هو إذا أتقنها مهما أتقنها استطاع أن يجعلها تفاحة؟. . . والله ليست هذه إلا خيبة!
- بل هو الفن. . .
- فن الضعف. . . وهو كذلك الضعف الذي يأخذ نفس الشاعر حين يلقي محبوبه فيتركه أمامه ويغمض عينيه ليتصوره، أو يقضي معه الساعات ثم يغادره لكي يحلم به، فإذا وافاه في المنام لم يكن بينهما إلا كلام تافه لا يغني ولا يقنع به عاشق من غير الشعراء. . .
- وكل العشاق من غير الشعراء إن نعموا بالحب فنعيمهم به زائل إلى جانب أنه نعيم نازل؛ أما الشعراء فنعيمهم بالحب خالد إلى جانب أنه نعيم سام
- هذا هو الكلام الذي تقوله كل حواء للضعيف المتخاذل من عشاقها تواسيه فتعترف له بأنه صاحب فن، وتسخر منه عند نفسها لا لنقص فيه إلا أنه صاحب فن. . . أو تريدين أنت أن تنكري هذا؟ هل ترضى المرأة عن الرجل الذي إذا أحبها قال فيها كلاماً أو صورها أو تغنى بها، أو لا يكون رضاها إلا عن الرجل الذي إذا احبها مد إليها يده وجرها. . .
- ليست النساء سواء. . .
- بل إنهن سواء. . .
- إذا زعمت أنهن سواء فعليك أيضاً أن تقول إن الرجال سواء. . . ولكنك قلت إنهم ليسوا كذلك وإن منهم من يأكل التفاحة ومنهم من يصورها. . . فكذلك النساء.
- فيهن من تأكل، وفيهن من ترسم؟
- ألم أرسم أنا؟ وهل في رسمي عيب إلا أني أهديته إليك؟ يا ضيعتي معك!. . كنت أحسب الرسم سيبهرك فتقول فيه كلمة طيبة. . . ولكنها توبة من اليوم
- الذنب ذنبك لأنك اخترت لهديتك موضوعاً لا يؤديه الرسم أداء كاملاً. . . فللتفاحة طعم، ولها رائحة، ولها نعومة حسناء؟ وهذا كله يقعد الرسم عن تصويره
- ومن قال لك إني كنت أريد أن أصور شيئاً من هذا. . . إنه لم يكن يدور بخلدي إلا ما توحيه الألوان
- فلماذا لم ترسمي دائرة حمراء ودائرة صفراء ودوائر أخرى فيها أمزجة من اللونين؟
- وهذا ما صنعت، وكل ما في الأمر أني اختصرت الرسم في دائرة واحدة. . .
- وهذا هو الذي بعثني على أن أنكر تفاحتك. فلو أني أحسست بها تفاحة حقه لكنت أعجبت بها، ولكنت قضمتها أيضاً، ولكنها كانت عندما ألقيت عليها النظرة الأولى زوراً وباطلاً، كالقصة الملفقة المتنافرة الحوادث التي يريد ساردها أن يبرئ نفسه من تهمة فلا يؤدي سرده إياها إلا إلى تعزيز الشك في نفس سامعه. . . والآن اسمحي لي أن أسألك سؤالاً. . . هل يقصد كل أولئك الرسامين الذين يرسمون الموز، والطماطم والبطيخ والشمام وسائر الفواكه والخضر إلى معان بعيدة كهذا المعنى البعيد الذي قصدت إليه حين رسمت التفاحة؟
- أظن ذلك
- فما معنى البطيخة؟ وما معنى الخيارة؟
- انتظر حتى أفكر. . .
- يخيل إلي أنك ستفكرين طويلاً جداً ولن تهتدي إلى معنى لكل ثمرة. . .
- ولكن التفاحة ليست ثمرة عادية. إن لها قصة قديمة مع الإنسان. . .
- قد تكون هذه القصة هي المبرر الوحيد لاهتمام الرسام بها. أما غير ذلك فلا أظن شيئاً يبرر رسم الثمرات إلا الجوع، فالله خلقها للأكل لا للزينة ولا للتفلسف. . .
- وهل هناك ما يمنع من أن تكون موضعاً للتفلسف ومطلباً للزينة إلى جانب ما هي بغية البطن؟
- لست أرى ما يمنع ذلك، ولكني لا أرى أيضاً ما يدعو إليه
- ألم يرسم الفراعنة القمح؟ لماذا رسموه؟. . . هل كانوا جياعاً وما أكثر القمح في مصر؟
- رسموه تقديساً!
- وأنا أرسم التفاحة تقديساً أيضاً. . .
- أعوذ بالله. . . قد يكون للإنسان عذر إذا قدس القمح فهو غذاؤه الأول. . . ولكن هذه التفاحة التي كان الجحيم فيها وكان العذاب. . . هل تقدسينها؟. . .
- فيها النار وفيها العذاب هذا حق؟ ولكن فيها أيضاً ما ذكرته أنت أولاً. . . فيها الدنيا، ونحن في الدنيا ولا طاقة لنا أن نقفز فيها إلى السماء. . .
- غيرك من الرسامين يستطيع أن يقفز بالتفاحة إلى السماء
- ولكن السماء لم تعد تثمر التفاح. . .
- من قال لك ذلك؟ إن من السماء صفرة التفاحة وحمرتها، ومن السماء فجورها وتقواها
- فكيف كنت تريدني أن أرسمها. . .
- إني أعرف وجهاً هو التفاحة؛ ولو أني رسام لصورته لك ولدفعتك إلى الأيمان به من نظرة واحدة. . .
- وجه من؟
- وجهك أنت. . . ألست ترينه في المرآة. . . ولكن كيف ترينه وأنت لم تنظري إليه يوماً بنفس مفتوحة وإن كنت تنظرين إليه دائماً بالعين المفتوحة. . .
- ماذا تقصد. . .؟
- أصحيح أنك تريدين أن تعرف ماذا أقصد، أو أنك تريدين أن نطيل هذا الحديث لأنه عنك، وعن وجهك، وأنت قليلاً ما تظفرين مني بحديث كهذا. . .
- لا وحياتك. . . فأنت تعرف أنني غبية إلى حد كبير وأني بطيئة الفهم، كما تعرف أنك خائن الحديث لا يسلم كلامك من الظلمة حتى عندما تصدق وعندما تصارح
- سامحك الله! فليس أبشع من هذا إزهاق لاستقامة نيتي وسلامتها. . . الذي أريد أن أقوله يا (مدموازيل ديليش) أنك كلما نظرت إلى وجهك في المرآة بحثت فيه عن علائم الصحة وعلامات الجمال التي تعارف الناس عليها، فأنت تفتشينه تفتيشاً دقيقاً، فإذا أرضاك خرجت به بعد تزيين بسيط، وإلا فأنت تزيدين حتى يكون مكياجاً وتنكراً تطالعين به الناس وفق ما يهوى عيناك. . .
- وهل كنت تريدني أن أرى وجهي بغير عيني. . .
- نعم. كنت أريد أن تريه بعيني أنا، فما كانت تمتد إليه يدك بدهان ولا بمسحوق
- ولكنه عندئذ قد ينم عما أحب أن أخفيه
- بل إن ذلك كان سيحميه دائماً منك، فيلزمك أن تبعدي عنه ما تحبين اليوم أن تخفيه أحياناً. . . كفى عن هذه الخفايا تستغني عن الأحمر والأبيض. . . أزهدي في الرموز تصلىِ في الحق وفي الفن إلى الأصدق والأجمل. . . أقلعي عن التكلمَّ تصلى في الحياة إني ابعد ما ترومين بأسرع مما تظنين. . .
- وماذا أيضاً. . .؟
- خذي صورة التفاحة هذه، فأنا أرفضها شاكراً. . . وأطلب صورة التفاحة الأخرى. . .
- التفاحة لا تستطيع أن تمزج الألوان ولا أن تقبض على الريشة. . .
- ذلك خير وأحب. . . فعلى التفاحة أن تبقى تفاحة. . . ولنطمئن كل الاطمئنان فإبليس حاميها وآدم لا يزال يسيل عليها لعابه
عزيز أحمد فهمي