الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 36/ابن سينا

مجلة الرسالة/العدد 36/ابن سينا

بتاريخ: 12 - 03 - 1934


(انه من أشهر مشاهير العلماء العالميين)

(سارطون)

مقدمة:

ما أقل الذين يعرفون أن ابن سينا اشتغل في الرياضيات والفلك، وأن له فضلا كبيراً في علم الطبيعة وقد يكون لهم بعض العذر إذا علمنا أنه كان فيلسوفاً وطبيباً، وان شهرته في هاتين الناحيتين ومؤلفاته الكثيرة فيهما جعلت الناس لا ترى عبقريته في النواحي الاخرى، وسيقتصر بحثنا في هذا المقال على مآثر ابن سينا في الرياضيات وعلم الطبيعة، وقد نأتي عرضا على بعض آثاره في الفروع الأخرى من المعرفة. وهو أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا ويلقب بالشيخ الرئيس، ويعرف عند الإفرنج باسم ويقول عنه بعض فلاسفة الغرب انه أرسطو الإسلام وابقراطه، وهو أيضاً من العلماء العالميين المشهود لهم بطول الباع في كثير من العلوم والفنون. ولد في خرميشن من ضياع بخارى سنة 371هـ - 980م وتوفي في همدان سنة 428هـ - 1037م. اشتغل ابن سينا في الرياضيات والفلك وعلم الطبيعة وكان له بها ولع خاص، وكذلك في الفلسفة والموسيقى والطب والمنطق، وله في هذه كلها مؤلفات قيمة يعد بعضها من موسوعات العلوم وتشهد له بعبقريته ونبوغه، وقد نقلت هذه المؤلفات إلى اللاتينية وكان لها تأثير عظيم في نهضة أوربا الحديثة.

منشؤه

كان والد الشيخ الرئيس من بلخ، انتقل إلى بخارى في أيام نوح بن منصور سلطان بخارى، واشتغل والياً في إحدى قراها خرميشن، وبعد حين رجع إلى بخارى حيث تولى تهذيب ولده، فاحضر معلما ليدرسه القرآن الكريم والأدب وعلم النحو، وصادف ان جاء إلى بخارى عبد الله الناتلي، ونزل في دار الشيخ الرئيس فاستفاد منه كثيراً، ثم اخذ ابن سينا يقرأ الكتب بنفسه ويطالع الشروح فقرأ كتب هندسة اقليدس، وكتب المجسطي والطبيعيات والمنطق وما وراء الطبيعة، فخرج من ذلك واقفاً على دقائق علم الهندسة بارعاً في الهيئة محكما علم المنطق، مبرزاً في علم الطبيعة وعلوم ما وراء الطبيعة، ولم يكتف بذلك، بل عكف على دراسة الطب وقراءة الكتب المصنفة فيه، ويقول عن (نفسه) في هذا (ثم رغبت في علم الطب وصرت اقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أنني برزت فيه في اقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون على علم الطب؛ وتعهدت المرضى فانفتح علي من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف) واشتهر كثيرا في هذا العلم وطار اسمه في الآفاق حتى دعاه الأمراء لتطبيبهم، ووفق في مداواة الأمير نوح والأمير شمس الدولة، والأمير علاء الدولة ونجح في معالجتهم فسروا منه كثيراً وأنعموا عليه وفتحوا له خزائنهم ودور كتبهم، وفي هذه وجد مجالا كبيراً لتتم دراساته وللتعمق في مختلف فروع المعرفة، ويقال إن ابن سينا لم يكن منقطعاً انقطاعاً تاماً للعلم والتأليف، بل كان في كثير من الأحايين يعين والده في أعمال الدولة

وبعد وفاة والده (وكان إذ ذاك في الثانية والعشرين من عمره) ترك بخارى ورحل إلى جرجان حيث كان يقطن فيها رجل اسمه ابو محمد الشيرازي اشتهر بميله وشغفه بالعلم، فتعرف إليه ابن سينا وقويت بينهما وشائج الصداقة حتى اشترى الشيرازي للشيخ داراً في جواره وأنزله فيها، وفيها ألف الشيخ الرئيس كثيراً من مؤلفاته القيمة: ككتاب القانون الذي هو من أهم المؤلفات الطبية ومن المؤلفات النادرة التي تشمل على أساس علوم الطب، وقد بقى كتاب القانون منهلا عاماً يستقى منه الراغبون في الطب قروناً عديدة. ولم تطل إقامة الشيخ كثيراً في جرجان (لاسباب سياسية) بل اضطر إلى تغير موطنه مراراً، فاتى همذان حيث استوزره الأمير شمس الدولة، ولكن الظروف حالت دون بقائه كثيراً في الوزارة فان الجند طلبوا قتله، ولم يرض بذلك الأمير وأنقذه منهم بعد عناء، وبعد وفاة الأمير شمس الدولة وانتقال الملك إلى ابنه كاتب ابن سينا سرا علاء الدولة أمير أصفهان (لأعراض شمس الدولة عنه) يطلب الانضمام إلى جانبه، واكتشفت هذه المكاتبة وعوقب من أجل ذلك بالسجن، ولكن بعد عدة أشهر قضاها فيه فر إلى اصبهان حيث رحب به الأمير علاء الدولة، وبقى في معيته إلى أن وافته منيته في همذان، وكان قد رجع اليها مع علاء الدولة في احدى غزواته لها.

آثاره

قسم ابن سيناء العلوم في كتاب الشفاء إلى ثلاثة أقسام: العلوم التي ليس لها علاقة بالمادة أو علوم ما وراء الطبيعة، والعلوم التي لها علاقة بالمادة وهي الطبيعيات

والعلوم الوسط وهي التي لها علاقة تارة بعلوم ما وراء الطبيعة وطوراً بالمادة وهي الرياضيات، وفي بعض المواضع نراه قد جعل الرياضيات نوعاً من الفلسفة ونسب إليها بعض أشياء تبحث في غير المادة، وقد اتبع الطريقة اليونانية في بحوثه عن العدد، وقد كان فكر ابن سيناء يمثل المثل الأعلى للفلسفة في القرون الوسطى وله فيها آراء ونظريات لا تزال تدرس في جامعات أوروبا. وهو وإن اعتمد كثيراً على فلسفة أرسطو واستقى كثيراً منها، قد أضاف إليها كثيراً وأخرجها بنطاق أوسع ونظام أتم. وهو من الذين قالوا بإنكار تحول المعادن بعضها إلى بعض مخالفاً بذلك آراء أكثر علماء زمانه، وفي رأيه أن المعادن لا تختلف باختلاف الأصباغ بل تتغير في صورتها فقط، وكل معدن يبقى حافظاً لصفاته الأصلية وقد قال في ذلك (نسلم بإمكان صبغ النحاس بصبغ الفضة، والفضة بصبغ الذهب إلا أن هذه الأمور المحسوسة يشبه ألا تكون هي الفصول (أي الخواص) التي تصير بها هذه الأجساد أنواعا، بل هي أعراض ولوازم والفصول مجهولة: وإذا كان الشيء مجهولاً فكيف يمكن أن يقصد تصد إيجاد أو إخفاء)

واستنبط ابن سينا آلة تشبه آلة الورنية أل وهي آلة تستعمل لقياس طول أصغر من اصغر أقسام المسطرة المقسمة ولقياس الاطوال بدقة كبيرة، ودرس دراسة عميقة بحوث الحركة والإيصال والقوة والفراغ، واللانهاية والحرارة والضوء، وقال بأن سرعة النور محدودة، وعمل عدة تجارب في إيجاد الوزن النوعي لمعادن كثيرة وقال بان شعاع النور يأتي من الجسم المرء إلى العين وفي كتابه الشفاء بحث في الموسيقى وقد أجاد فيه لدرجة كبيرة، وقد فاقت أبحاثه فيها أبحاث الفارابي وشرح طريقة إسقاط التسعات وتوسع فيها، ألف في المعادن ومؤلفه كان النبع الذي استقى منه علماء طبقات الارض في القرن الثالث عشر للميلاد. ويقال ان ابن سينا خرج مرة في صحبة علاء الدولة وقد ذكر له الخلل الحاصل في التقاويم المعمولة بحسب الأرصاد القديمة، فأمر الأمير الشيخ بالاشتغال بالرصد وطلق له من الأموال ما يحتاج إليه وهذا (طبعاً) ساعده على التعمق في علم الهيئة، وفي كشف بعض حقائق هذا الكون وفي إتقان الرصد (ووضع في حال الرصد آلات ما سبق إليها)

مؤلفاته وانتقالها إلى الغرب

على رغم المتاعب التي انتابته والمشاغل الكثيرة التي كانت تشغله وبرغم تعدد انتقاله من محل إلى آخر، تمكن من وضع مؤلفات قيمة عديدة يربو عددها على المائة، وهذه هي التي جعلت سارطون وغيره من علماء الإفرنج يضعونه في مصاف العلماء العالميين ومن كبار حكماء الشرق. ومن أهم مؤلفاته:

كتاب الشفاء وهو في ثمانية عشر مجلداً، وتوجد منه نسخة كاملة في أكسفورد، ويحتوي على فصول في المنطق والطبيعيات وما وراء الطبيعة، ترجم بعضها حنا الأسباني وكنديسالينس إلى اللاتينية، وقد اختصر ابن سينا هذا الكتاب في كتاب سماه (النجدة) ترجمه إلى اللاتينية كآرام باسم

وله أيضاً كتاب القانون في الطب وهو من أشهر مؤلفاته ويتكون من أكثر من مليون كلمة ترجمه جيرارد اوف كريمونا إلى اللاتينية، وبقيت ترجمته هذه المعتمد عليها والمستعملة في الجامعات والكليات حتى منتصف القرن السابع عشر للميلاد، وكتاب المختصر للمجسطي، وكتاب المجموع، وكتاب الحاصل والمحصول ويتكون من عشرين مجلداً، وكتاب الارصاد الكلية، وكتاب النجاة وهو ثلاثة مجلدات، وكتاب القولنج، وكتاب لسان العرب، ورسالة الآلة الرصدية، وهذه الآلة صنعها في أصبهان عند رصده لعلاء الدولة، ورسالة غرض قاطيفورياس، وكتاب الأجرام السماوية، وكتاب الإشارة إلى علم المنطق، وكتاب أقسام الحكمة وكتاب النهاية واللانهاية، وكتاب في أبعاد الجسم غير ذاتيه له، وكتاب مختصر أقليدس، وكتاب الأرثماطيقي والموسيقى. وقد أورد في كل من مؤلفاته في الرياضيات زيادات رأى ان الحاجة اليها داعية. ففي اقليدس أورد شبهاً وفي الارثماطيقي أورد خواص حسنة في الموسيقى أورد مسائل غفل عنها الأولون، وكتاب المجسطي وقد أورد فيه عشرة أشكال من اختلاف النظر، وأورد في آخره أشياء لم يسبق إليها وله رسائل أخرى في الحساب، وله أيضاً فيه وفي الهندسة ابتكارات كثيرة، وكتاب مختصر في ان الزاوية التي من المحيط والمماس لا كمية لها، وكتاب المدخل إلى صناعة الموسيقى وكتاب كيفية الرصد ومطابقته مع العلم الطبيعي وكتاب الحدود، وله خطبة في أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد جوهراً وعرضاً ومقالة في خواص خط الاستواء، ومقالة في هيئة الارض من السماء وكونها في الوسط، وكتاب تدبير الجند والمماليك والعساكر وأرزاقهم وخراج الممالك وفوق ذلك له شعر رقيق وأشهر قصائده قصيدة نظمها في النفس يقول عنها ابن أبى أصيبعة إنها من أجل قصائد ابن سينا وأشرفها، وقد ترجمها فانديك إلى الإنجليزية

نابلس

حافظ قرى طوقان