الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 357/نفسية الطبقات

مجلة الرسالة/العدد 357/نفسية الطبقات

بتاريخ: 06 - 05 - 1940


للدكتور جواد علي

لاحظت خلال إقامتي الطويلة في برلين وهامبرك والمدن الألمانية الأخرى اختلافاً كبيراً بين مقاطعة ومقاطعة، وبين طبقات مدينة واحدة أحياناً في اللغة والأخلاق والمعاملات والمثل العليا وشكل الوجه وتركيب الجسم. وقد زاد انتباهي هذا موضوع البحث العنصري الذي استولى على الجامعة والمدرسة والحانوت والحياة اليومية في ألمانيا الهتلرية. فقلت: ما دام الشعب الألماني شعباً جرمانيّاً واحداً من دم وعنصر واحد، فلم هذا الاختلاف بين المقاطعات؟ ولم هذا البون بين الطبقات في المدينة الواحدة؟ صرت أسجل ملاحظاتي هذه وميزات كل طبقة وأخلاقها في كل المدينة أنزل بها وفي كل بيت احل به. كذلك فعلت أثناء زياراتي للندن وبعض مدن انكلترة وباريس وليون وأشتراتسبرك ومارسيليا وروما، وأكثر مدن إيطاليا وجنيف وبرن ولوزان وبراغ ومارينباد ويسبادن وغيرها من مدن جيكوسلوفاكيا (المرحومة)؛ وكذلك بولندة والنمسا ودول البحر الأبيض المتوسط

توصلت إلى نتيجة، وهي أن قواعد التفكير العامة، وطراز المعاملات متقاربة ومتشابهة بين الطبقات الواحدة في الممالك المختلفة أولاً، وهي أيضاً مع تركيب الجسم وشكل الوجه والملامح ثانياً. فالطبقة الرابعة من سكان المدن مثلاً، وهي التي يطلق عليها في أوربا اسم تستعمل لها لغة خاصة عامية وتضع لها مصطلحات تصطلح عليها وتقضي معظم أوقاتها في المحلات المنخفضة في الأرض (كالسراديب والدهاليز)، وتأوي بكل سرور إلى المحلات المظلمة ذات النور القليل والمحلات المؤثثة بأثاث خشن ابتدائي، يميل الشاب منهم إلى تجميل شعر رأسه وتجعيده، مع أن ملابسه ممزقة رثة لا يهتم بها، يميل كذلك بصورة عامة إلى الألوان (الغامقة) كالأحمر أو الأسود أو الأصفر. وتميل بصورة عامة إلى المخاطر إذ لا تفزع منها، فإذا ركب أحدهم دراجة هوائية (بايسكل) أسرع بها كأنه في سباق. كذلك لا يبالون في جمل الأشياء الثقيلة من خطر صحي، وهم يميلون بصورة عامة إلى رسم الأشكال المختلفة بالزرقة والحمرة على بشرتهم، وإلى موسيقى غير موزونة مرتفعة مضطربة. ولا يبالون بإنفاق كل ما يحصلون عليه في مدة قليلة، ولو أنهم حصلوا عليه بشق الأنفس ومخاطرات عظيمة، فاللص ينفق المال الذي يسرقه بأقل من لمح البصر كما هو معروف وكذلك النشالون وقطاعو الطرق.

كذلك للطبقة الثالثة وهي العمال آداب ومعاملات ومثل خاصة وفن وذوق تنفرد به مع ميل إلى التبذير والكرم. وأجسام هذه الطبقة بصورة عامة أقصر من أبناء الفلاحين أو سكان المدن من الطبقتين طبقة الأعمال العقلية وطبقة الأشغال العملية والتجار ولكنها أكثر إنتاجاً في النسل من طبقتي سكان المدن، وأقل من الفلاحين كما أن شكل رأسها أصغر من الطبقات الثلاث، ويميل إلى الاستدارة. وفي المدن الصناعية تميل إلى لحم الخنزير وإلى اللحوم الباردة لأن النساء لا تترك المعامل لذلك فليس لها الوقت الكافي للطبخ. أما الطبقة الثانية وخصوصاً أصحاب رؤوس الأموال والتجار، فهي تتكلم مثلاً بصورة أسرع من الفلاحين أو العمال، ولا يميلون إلى التفكير العميق المنطقي، وكذلك لها ذوق خاص تجاري في التأثيث وفي الفن والمعيشة بينما الطبقة ذات أجسام طويلة وشكل الرأس كبير بالنسبة إلى الجسم فيها، والعظام فيها دقيقة والعضلات غير مفتولة بالنسبة إلى الفلاحين أو العمال، والوزن أثقل من العمال، والطفل الفقير في المدرسة يرى أصغر بعام تقريباً من طفل الغني الذي في عمره العمر. وهذه الطبقة - وخصوصاً الغنية منها - غير مخصبة في إنتاج النسل، وقد علل ذلك تعليلاً كثيراً لا يدخل في هذا الموضوع. ونرى من إحصائية عن قابلية النسل في السويد أن كثيراً من العائلات العريقة تضمحل وتفنى لانقطاع نسلها

والفرق بارز كذلك جسمياً وعقلياً بين سكان المدن وأبناء الأرض من الفلاحين والزراع فقحف الرأس والملامح الجسمية وشكل العظم، وكذلك طراز التفكير واللغة، تختلف مظاهرها عن مظاهر سكان المدن، وقد دل الإحصاء على أن 41 في المائة من سكان مدينة برلين كانوا لائقين للخدمة العسكرية بينما كان 61 في المائة من سكان الأرض يصلحون في نفس الوقت. فهذه النقاط تجعل المرء يسبح في بحر من التعليل. وتدفع به إلى الاعتقاد بتأثير المهنة والمحيط على الإنسان عقلياً وجسمياً. وزاد في اعتقادي ذلك ما وجدته بصورة عملية من تقارب بين موسيقى الأكراد سكان المنطقة الكردية العراقية ورقصهم واختيار ألوان ملابسهم وبين سكان منطقة بايرن في ألمانيا مثلاً مع ما بين الشعبين من الاختلاف. وهذا ما يدفع الإنسان إلى دراسة عقليات الطبقات المختلفة، والبحث عن القواعد المشتركة التي تتميز كل طبقة بها عن الأخرى عللت الماركسية ذلك بتأثير الإنتاج على الجماعات؛ فالعمل المادي الاقتصادي في نظرها هو العامل الأول في هذا الاختلاف وقد جاءت بأمثلة تحاول إثبات نظريتها هذه وجاءت بفلسفة مبنية على ذلك، وعلى هذا الأساس تحاول إشعال نيران ثورة ليتخلص العمال وهم الأكثرية من نفوذ الأقلية المسيطرة، ليبسطوا تفكيرهم وحضارتهم على الطبقة الصغيرة التي تعتبر رمز الحضارة العالمية في العصر الرأسمالي الحالي. وهي تأتي بأمثلة من حياة الفرنسيين في القرنين السابع والثامن عشر، وكيف كان البلاط ورجاله يعتبرون أثقف طبقة في المملكة يحتذي بهم وتقلد حركاتهم لنفوذ البلاط بينما كان الوضع بالعكس في إنكلترا لنفوذ (الكونتيه واللوردات) فيها. حيث كان كبار المزارعين هم ممثلو إنكلترا في عالم الثقافة والحضارة ويرون من جراء ذلك فكرة الوطنية فكرة ثانوية اصطناعية يمكن التعويض عنها بفكرة الوطنية المهنية والمصلحة المشتركة ويرون في الكاثوليكية العالمية مثلاً نوعاً من الوطنية والاستقلال فلم لا يتفق عمال العالم ويكونون لهم وحدة واحدة على أساس دكتاتورية العمال وتقارب المصلحة والفكر، يدعمون رأيهم ذلك بما يبديه الاشتراكيون على اختلاف حكوماتهم من تعاون تام واتفاق في الطريقة والعمل والفكر وتقاربهم كلهم في الفكر وهذه تعارض النازية تماماً، تلك النظرية التي تدعى بالعنصرية وتفوق الجنس الآري على الأجناس الأخرى وتعارض كذلك حوادث التاريخ أيضاً. وقد قلنا إن هذه الطبقات تكيف لها لهجة خاصة تتكلم بها، وهذا يعني أن عقلية تلك الطبقة قد تغيرت عن عقلية الطبقة الثانية، والذي يلاحظ بصورة عامة أن اللصوص والسراق لغة خاصة واصطلاحات تتكلم بها، وكذلك يفعل النشالون ولهم طريقة خاصة في إخراج الأصوات، وسكان نابولي في إيطاليا أو صيادو الأسماك في انكلترة وألمانيا وغيرها من البلاد يخرجون الكلمات بصورة تختلف عن المزارعين أو التجار فهي بصورة عامة طويلة عريضة بينما نجد لغة التجار سريعة وقصيرة. هذه أشياء لوحظت وشوهدت بالتجربة، ونطق الإنكليزي الذي ينزل فكه إلى تحت يختلف عن نطق الفرنسي الذي يمد فتحه فمه إلى الجانبين وذلك يعني أن اللغة تتغير أيضاً مما لا مجال لبيان سببه في هذا الموضوع. ولكن في ذلك رداً بصورة عامة على من يقول إن اللغة تساوي العنصرية تماماً. نعم هي تمثل جزءاً من روحية الشخص ولكن ليست روحيته تماماً إذ لو كان ذلك لكان زنوج أمريكا الذين ينطقون اللغة الإنكليزية إنكليزاً بالعقل والتفكير ولأصبح مولدو أمريكا الجنوبية أسباناً بالنفس والخلق تماماً. وقد أجريت تجارب على أطفال أخذوا حين الولادة من أمهاتهم من زنوج ويابانيين لقنوا الألمانية فقط ونشئوا في محيط ألماني بحت فصاروا يتكلمون الألمانية وكأنهم ألمان أباً عن جد. وقد أول ذلك الذين يقولون بهذه الفكرة بأن في البشرية قابلية للنطق مطلقاً وفي كل طفل في نفس الوقت ميل إلى الشذوذ عن نطق الأجداد قليلاً لا يشعر به يتعاظم بمرور السنين فيصبح لهجة خاصة، وأن ذلك يطرأ ولو كان العنصر سليماً نقياً من كل امتزاج. وهم يدعون أن أوربا لو كانت مأهولة من جنس واحد، وكانت معزولة عن كل عامل خارجي من زمن الأهرام حتى الآن لظهر عليها اختلاف اللهجات رغماً من ذلك على أننا نلاحظ أن يهود ألمانيا يتكلمون مع ذلك بلهجة محسوسة، وكذلك في البلاد الأخرى، وتميزها عن كيفية إخراج الكلمات لدى المواطنين، ولكنهم يجيبون عن ذلك بأن اليهود يعيشون بصورة عامة في محيط واحد متكتلين

وحاول زعيم العنصرية في ألمانيا أن يبرهن على أن الجرمان لم يبتعدوا عن اللغة الجرمانية الأصلية، أنها هي هي لم تتغير. ولكن اختلاف اللهجات الألمانية، وكذلك أشكال لجسم والعداوة الموجودة بين المقاطعات، مثلاً بين سكان بروسيا بسكان بايرن، والاختلاف الكبير بين عادات سكان هامبرك وبرلين، يدل على أن بحث العنصرية لا يستطيع التغلب على المشاكل التي بحثنا عنها، ويجد حلاً معقولاً لذلك علمياً.

والبشرية تتقدم، وبتقدمها تظهر أشكال وقحوف رؤوس جديدة وهي غير متشابهة، منها المنتج ومنها الخامل لعوامل مختلفة، وللملامح وتركيب الجسم والمحيط والأكل والمهنة أثر فعّال في تكييف الفرد، وكل أمة في الحقيقة عبارة عن بضع أمم مختلفة في المصالح، ولو أنها متحدة في الدين أو اللغة مثلاً، ولكل منها وجهة نظر خاصة، وهدف يصطدم مع هدف غيرها، وهذا مصدر الحزبية والنزاع، وسقوط الدول في نظري، والأمة التي تستطيع تقريب وجهات النظر بين هذه الطبقات تتمتع بوحدة، والتي تترك هذه الطبقات تزيد في قوة كيانها، تعرض نفسها إلى تمزق لا يلبث أن يظهر بصورة كتل مستقلة ذات تفكير مستقل ومظهر غريب خصوصاً في المحيط الشرقي الذي لا تربط بين أجزائه طرق مواصلات جيدة ولا صلات تفكيرية قوية. لازالت حاجة الأقاليم في المملكة الواحدة بعضها إلى بعض غير شديدة. فكرة الحاجة إلى المجتمع والتعاون لم تتغلب على روح (أنا) فيه كما هو شأن كل أمة في ابتداء تكونها.

جواد علي

خريج جامعة هامبرك بألمانيا