مجلة الرسالة/العدد 356/رسالة الفن
→ الأدب في الأسبوع | مجلة الرسالة - العدد 356 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 29 - 04 - 1940 |
تأملات في الفن
العب يا ميمون العب!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
- من هذا الذي معك؟ يا أمَّه! قرد؟
- نعم. واحد من أبناء عمك ميمون. أبوك آدم رقاه الله، وأبوه هو أستحسن أن يظل يلعب، فظل يلعب
- لعبت عليه نفسه! وأين لقيت أبن عمك أنت هذا؟ وإياك أن تكون قد دعوته إلى مكث طويل هنا؟
- ليته يقبل. . . إنما هو مرتبط بخمسة أصدقاء أستأذنهم وجاء يحييك ثم يعود إليهم عند الباب
- أبالباب خمسة قرود غير هذا؟ لم لم تقل لي إن أسرتك الكريمة هاجرت إليك فكنا نوسع لهم بيننا نزلاً؟
- ربما لم يكن هؤلاء الزوار جميعاً من الأهل وربما كانوا! أولهم على أي حال أخ من بني آدم، وثانيهم حمار، وثالثهم جدي، ورابعهم كلب، وخامسهم أوزة
- أعز الأهل، أنعم بهم وأكرم. تعال نستقبلهم وهات ابن عمك، فمنذ سنين وانا لم أر أسرة كهذه، وكنت أراها وأنا طفلة وأسر وأضحك؛ ولكن لم أكن أتوقع يوماً أن تنسب إليَّ أو أن أنسب إليها. . . لا أنا ولا أنت
- تعالى! هاهي ذي الأسرة. انظري إلى كل فرد من أفرادها وقولي لي: ما هو؟ لا تقولي هذا قرد وهذا حمار، فإني أعرفك تعلمين أسماءها، وإنما أريد أن أراك هل تعرفينها هي أو أنك تجهلينها كما كنت أجهلها أنا حتى عرفني بها صاحبها هذا الغجري الذي يقودها؟
- وماذا قال لك أكثر من أن الحمار حيوان من ذوات الأربع له أذنان طوبلتان وصوته منكر وهو يستخدم في حمل الأثقال. . .
- هذا كلام يصفون به قشر الحمار للتلامذة، ولكن هذا الغجري يعرف عن الحمار مثلم يعرف عنه حمار مثله
- وأنت يا هنيئاً لك أخذت عنه هذا العلم. . . انهق لي به انهق. . .
- لا بأس. ولكن ألا ترينه واجباً أن نرى الغجري قبل أن نرى القرد والحمار؟
- وهل في الغجري شئ يرى وهو ليس في غيره من الناس؟ رجل مسكين يحتال على الرزق بتلعيب الحيوان
- وكم في الناس القادر على تلعيب الحيوان؟ إن الإنسان ليستعصي عليه أن يلقب نفسه. ومن استطاع ذلك فهو الفنان
- فكل حيوان من هؤلاء فنان، وهذا الغجري بينهم مثل سيسيل دي ميل أستاذ على الممثلين والممثلات. . .
- هذا التشبيه صحيح لولا أنه معكوس. فسيسيل دي ميل هو الذي يحاول أن يكون في عمله كهذا الغجري ولكن أنى له ذلك إلا إذا عاش عيشة الغجري، وكم قلد الغجرَ أفراد من أهل الفن فكان كل منهم كالمسخ ما لم تكن فيه طبيعة الغجر يسترسل بها في الحياة استرسالهم. ولا بد أن تكون قد رأيت واحداً من هؤلاء الذين ينفشون شعرهم ويطلقون لحاهم، ويهدّلون ثيابهم ويعربدون في الأرض سكارى مستذئبين على أنفسهم وعلى الناس قائلين إنَا نحن بوهيميون. هؤلاء هم الذين يقلدون الغجر كما أن من أهل الفن من تضطره الحياة إلى أن (يغجر) نفسه فإما أن يكون غجرياً في فنه وإما أن ينزلق فيكون غجرياً في سلوكه مع الناس فيحتال على رزقه كما يحتال هذا الغجري بتلعيب نفسه، وتلعيب عشرائه، فهو محتال بارع ممن يعرفون كيف ينطبقون على الفريسة ومن أي مدخل سهل ضعيف يتسللون إلى نفسها، وأي لسان من الألسنة المعسولة يعجبها، وأي شكل من الأشكال المنمقة المزوقة يرضيها، وأي مطلب من المطالب تنزع إليه وأي شئ يسرها وأي شيء يغضبها، وأي كلمة تثيرها وأي كلمة تردها إلى هدوئها، وأي إشارة تحفزها، وأي إيماءة تثبط همتها إلى غير ذلك مما تمكن الغجر منه وأتقنه معهم الكهان من الناس، والمتكاهنون.
- فالغجر كهان؟
- هم أبرع الكهان إذا أرادوا، ولكنهم كعمنا ميمون استحسنوا الأمر ما أن يلعبوا وما زالوا يلعبون، ولو أنهم أرادوا أن يفتكوا بهذه الإنسانية لفتكوا بها وسلاحهم ما يعلمون من شئون النفوس وأمورها، ولكنهم يؤثرون على هذا أن يفروا من البشرية إلى مرحهم وغنائهم ورقصهم، فهم لا يلمون بالناس إلا حين تعوزهم حاجة، فعندئذ ينزلون على الناس ليأخذوها، وهم آخذوها إن أباحها الناس لهم أو منعوها، وهم آخذوها إن حللتها الشرائع أو حرمتها، لا يستطيع إنسان أن يردهم، ولا أن يمسكهم بها، ولا أن يستردها منهم. . . غجر أولاد شيطان. .
- وهذا الشيطان عمنا هو أيضاً كعمنا ميمون؟
- لا، بل إنه خالنا أخو أمنا حواء الذي قال لها: رَجُلك خواف، رجلك ضعيف، شحيح إن أطعمك ما أطعمك، فإنه بضن عليك بالتفاحة. . . يا حلاوة التفاحة!
- صحيح، إن في عينيه بريقاً كما تلمع عيون الشياطين. . . أعطهم شيئاً وتعال. . .
- انظري إليهم وهم ذاهبون يحيطون به. . . الحق أنه ما في الأرض من يمثل سيادة الإنسان على بقية الخلق كهذا الغجري والغجر جميعاً، فهم البقية الباقية من الناس الذين كانوا يعاشرون الأرواح ويأتلفون بها قبل أن تهيم البشرية حباً بالحديد والحجر، هؤلاء الغجر لهم أحاديث في كيمياء النفوس أعجب من العجب، ليت علماءنا يستمعون إليهم ويحاولون تحقيق أحاديثهم. . .
- وما كيمياء النفوس هذه أيضاً؟. . .
- هذا بحر فيه ماء وملح يلقى الشمس فيتبخر منه الماء ويبقى الملح، ويصعد الماء إلى السماء بخاراً. فيلقى البرد فيرتد إلى الأرض ماء حلواً ليس فيه ملح، ويجري على الأرض في هضاب ووديان ويسري في النبات والحيوان والإنسان، وفي الأحجار أيضاً يسري، ويتبخر منه عندئذ بعضه ويبقى بعضه، ويعود منه إلى البحر بعضه ويضيع منه في الخلائق بعضه. . . هذا البحر. . .
- معقول. . فكيف يقيس الغجر النفوس بهذا المثل؟
- هم يقولون هذا إنسان. فيه نفس وجد. يلقى الحياة وما يزال يتلقاها حتى تتبخر نفسه ويظل جسده في الأرض، وتصعد روحه إلى السماء فتجد حجاباً فترتد إلى الأرض تبحث عن قوة تمكنها من خرق الحجاب إذا عادت مرة أخرى إلى السماء وهذه القوة في قولهم تواتي النفس بالتطهر والتلطف، والتطهر والتلطف يجيئان في قولهم بالتدريب. فإذا كانت نفس إنسان قضت حياتها الأولى ثائرة ساخطة وتبخرت وهي ثائرة ساخطة فثقل بها السخط وثقلت بها الثورة عن خرق الحجاب عادت إلى الأرض تتعلم الصبر والرضى فإذا أسعدها الحظ صادفت غلافاً حماراً ينحدر إلى الدنيا فحلت فيه، ونزلت به إلى الدنيا تقضي حياة كلها صبر وكلها احتمال وهوان. . . ورضا، وبهذا إذا تبخرت هذه النفس مرة أخرى خفت أكثر من ذي قبل، وربما استطاعت أن تخرق الحجاب وأن تمضي إلى عالم غير هذا العالم، وربما عادت إنساناً أو حيواناً أو شيئاً مما يخلق الله ويعلمه ونحن لا نعلمه. . .
- ولكن هذا القياس فيه فارق. فهم قد حولوا الإنسان إلى غير الإنسان بينما مثلهم الذي يقيسون عليه بحفظ الماء ماء مهما تعددت أشكاله
- فلنصلح لهم نحن هذا المثل فهم لم يتوفروا على كيمياء المادة مثلما توفروا على كيمياء النفس، ولست أخالك تنكرين أن الذي يقولونه عن تحولات النفس يشبه الذي يقوله علماء المادة عن تحولاتها، ولست أخالك تتركين هذا التشابه يمر بك من غير أن تسجليه على الأقل، أما أنا فإني لا اكتفي بتسجيله في ذهني وإنما أربط بعضه إلى بعضه وإن كنت إلى الآن لا أدري مثلما قد يدرون هم أي شئ سأربطه بعد ذلك في هذين السببين وإلى أين سأصل بهد هذا الربط. . .
- إلى. . . (العباسية) من غير شك
- حتى إذا وقفتك معي على أوجه الشبه بين الذي يقوله الغجر وبين الذي يقوله علماء المادة
- إن وقفت معك فأنا أيضاً في حاجة إلى علاج للرأس.
- العلاج على أي حال خير من إهمال المرض. اسمعي.
ألا يقول علماء المادة إن هذه الأرض كلها تتشعع وتريد أن تتلاشى في الفضاء؟ ألا يقولون إن لهذه الأرض غلافاً من الأثير وهو مادة ولكنه أخف من المادة وألطف منها وأشد شوقاً إلى التشعع والذهاب؟ ألم يكتشفوا أخيراً عناصر من المادة لا تزال نادرة جداً وهي أقدر المواد على التشعع والتطاير؟ إن هذه المواد هي أرقى ما في الأرض مادة، وهي أخف العناصر وألطفها، وهي لا تزال نادرة لأنها طلائع الدور الجديد الذي بدأت مادة الأرض تدخل فيه، والأرجح أن الأرض جميعاً ستتحول على مرور الدهور إلى هذه العناصر الخفيفة اللطيفة المتطهرة حتى تصل عندئذ إلى ما تتوق إليه من الخلاص من هذا الوضع وهذا الشكل إلى سياحتها الجديدة في الكون. وإذا كان الماء هو أكثر ما في الأرض اليوم، والراديوم (مثلاً) هو أقل ما فيها، فالماء إذن هو الحلقة الأولى من حلقات الحياة المادية في الأرض والراديوم هو الحلقة الأخيرة بحسب ما نرى. . . أو قولي إن الأثير هو هذه الحلقة الأخيرة. . . ثم قولي إن ما بين الماء والأثير من الخلائق المادية إن هو إلا تشكلات وتطورات وتحولات تنزع بها المادة إلى الانطلاق. وقيسي على ذلك النفوس كما يقيسها الغجر، ولست أطلب منك ولا من نفسي أن نعرف ما يعرفون هم إذا نظروا إلى إنسان ماذا كان قبل أن يكون إنساناً، وماذا سيكون. فهم يدعون أنهم يعلمون هذا بالنظرة، ولست أستطيع أن أنكر عليهم قولهم ما دمت أرى في علماء المادة من ينظر إلى الحجرة فيقول كانت شجرة وستصبح بعد قرون فحمة. فلماذا نقبل كلام علماء المادة هؤلاء ولا نقبل كلام الغجر؟ ألأنهم غجر؟ نحن الذين دعوناهم غجراً، أما هم فيعتبرون أنفسهم أصحاب هذه الدنيا يذرعونها من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال لا يخضعون إلا لقوانين الطبيعة الخالدة، ولا تفسد أنفسهم غيرها من القوانين المصنوعة التي وضعتها العقول بحساب بعد أن نسيت أول قوانين الحساب وهو أنه لا بدء ولا نهاية، وبعد أن نسيت كذلك أن لكل حساب حساباً يعطله حتى بطل عمل الحساب وصار هذا البطلان هو أساس بغير حساب. . .
- على هذا الأساس أستطيع أن أستمع منك إلى كلام الغجر، فلا تحسب أني سأقتنع به، فدون ذلك تشمع عقلي وطيران منطقي وتفكيري، ودعني الآن أسألك على سبيل العبث والفكاهة لا أقل ولا أكثر: أي نفس كانت نفسي قبل هذه الحياة. . . وأي نفس ستكون؟
- أنت؟ لا أدري، ولكني أعرف واحداً كان إوزة وسيكون حماراً
- من هو؟
- مالك أنت وماله؟ وإنما قولي: كيف هو، فأقول لك إنه كلما اطمأن إلى الحياة تمكن منه البله، فهو يلعب في الأرض ويلعب في الماء ويحب كل شئ، ولكنه لا يكاد يعطى من نفسه شيئاً لأحد إلا أن يجد عنده لذة، وهو غر يصدق كل ما يحيط به، ومن سقاه شربة ماء استطاع أن يذبحه؛ وهو إلى جانب هذا رعديد خواف، لأنه يعرف أنه عاجز عن رد الأذى بأذى. . . كالإوزة. . . له هذه لأخلاق والطبائع من نشأته فلعلها كانت طبعه الأول، ومن عرف فيه هذا تمكن منه ولعب عليه ما شاء أن يلعب وقد لعب عليه ناس كثيرون حتى كاد أن يذبح مرة؛ وإني أقول لك إنه سيكون حماراً، لأني أراه إذا أفاق إلى نفسه أخذها بالصبر وبالرضا والاحتمال، فلعله إذا تمكن هذا منه كان أصلح البشر (للحمارية) في حياته المقبلة، ومن يدري فربما اكتفى القدر منه بصبره في هذه الحياة، وطهره في حياته المقبلة من نقائص أخرى غير بادية لي فيه الآن، فكان عندئذ أخف، وألطف، وأظهر مما عرفناه الآن، وكان عندئذ أصلح للبقاء في أثير الأرواح انتظاراً لموكب من نوعه يلحقه فيدفعه في فضاء الله إماماً لمن يتبعه ومأموماً لمن سبقه. . . من يدري؟
- لا أحد، ولا أنت، ولا الغجري. ولكن هذا الكلام يشبه ما يقوله الهنود عن تناسخ الأرواح فهل أصل الغجر هؤلاء من الهند؟
- الموجة البشرية المشرفة على غرب أوربا كلها أصلها من الهند
- ولكنك لم تقل لي ماذا كنت أنت؟
- يقول داروين إن الناس كانوا قردة، ويقول القرآن إن من الناس من ردهم الله قردة. . . وإني أقبل القولين في حق نفسي وإن كنت لا أصدق فيك أنت قول داروين. . .
عزيز احمد فهمي