مجلة الرسالة/العدد 356/رسالة العلم
→ رسالة الفن | مجلة الرسالة - العدد 356 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 29 - 04 - 1940 |
أفق جديد
الكهرباء والضوء يلتقيان
للدكتور محمد محمود غالي
أزمة الأثير - فراداي والكهرباء - نبوءة ماكسويل - أعمال
هرتز - (برانسلي) يخترع اللاسلكي ويموت محتمياً من
اختراعه
لو أننا أعدنا اليوم مطالعة الصفحات المجيدة التي خطها وويجانز ووقفنا عند هذا القدر دون متابعة التطورات العلمية، لأيقنا أن البناء الذي شيَّداه لا يمكن أن يعتوره خلل، ولو أننا جلنا في الوقت ذاته في الهيكل الرياضي الذي شيده (نيوتن) العظيم، واشترك في إقامته (أيلر) ولاجرانج لأدركنا في غير عناء لماذا طبق فُرنِل الميكانيكا النيوتونية في تفسير الظواهر الضوئية الدقيقة، التي اعتبر أنها ذبذبات حادثة في وسط مرن افترضه افتراضاً، ولكن تجربة (ميكلسون) تقف عقبة في طريق التقدم في هذا السبيل، وتتطلب من الباحثين تفسيراً يختلف والميكانيكا النيوتونية.
إن أرضاً تجري حول الشمس بسرعة كبيرة تحمل مصباحاً والمصباح يرسل في طريق سير الأرض شعاعاً ضوئياً كما يرسل في طريق عمودي على الطريق الذي تسير فيه الأرض شعاعاً له طبيعة الأول وسرعته، وهذان الشعاعان يعودان في اللحظة ذاتها إلى النقطة التي خرجا منها، في وقت لم تكف الأرض فيه عن الجري في مستقرها الأبدي حول الشمس، لأمر لا يسيغه عقل ولا يقبله منطق، إذ كيف لا يحدث رغم رحلة الأرض المستمرة وسرعتها الملحوظة، أي فارق في الوقت لمسافرين لهما في الواقع ظروف مختلفة؟ كان لابد من طرق أبواب جديدة في التفكير للإجابة على ذلك. ولقد كان للنظريات الكهربائية شأن في هذا الميدان الأثيري ولندع الآن هذه الأزمة جانباً، لننعم النظر في أمر جديد. ذلك أن الضوء الذي يتموَّج على النحو الذي ذكرناه هو جزء من الكهرباء، وإدماج الجزء في الكل يحتم علينا أن نعرف شيئاً عن خواص الكهرباء، وسيري القارئ أنه بمعرفتنا هذه الخواص، ينتفي السبب في افتراض وجود هذا الوسط الأثيري، ولعل هذا التفكير الجديد يكون خطوة لازمة قبل أن نعرض عن الميكانيكا النيوتونية، ونستعين بميكانيكة جديدة لا نيوتونية، تفهم بواسطتها الكون على شكل أكثر وضوحاً من الشكل الذي نعرفه له.
عند ما يَهم عامل لإصلاح خلل في الشبكة الكهربائية في منازلنا قد لا يفوتنا أن ننبِّهه ليتخذ الحيطة لنفسه، ذلك أننا نعلم أنه يكفي أن يلمس العامل خطأ طرف أحد الأسلاك المكهربة لكي يفقد حياته، ويصبح بين طرفة عين وانتباهتها في عداد الأموات، ولو أن العامل الذي يلمس السلك الكهربائي كان ممسكاً بيده الأخرى واحداً أو أكثر من زملائه؛ فإن جميع المتصلين به يفقدون حياتهم في اللحظة ذاتها، وقد حدث أن قُضيَّ على ثلاثة أشخاص العام الماضي في حي بولاق بالقاهرة بلمس أحدهم سلكاً كهربائياً. بيد أننا نشعر بالطمأنينة لو اقترب العامل من السلك دون أن يمسه، إذ أننا واثقون بأنه في هذه الحالة لن يُصاب بأذى، كما أننا واثقون بأنه لا يشعر عندئذ ولا يشعر من بجواره بوجود الكهرباء بمجرد الاقتراب من الأسلاك الحاملة لها، ولهذا بالطبع أثره في اعتقادنا أن الكهرباء سارية في الأسلاك لا تتعداها إلى خارجها
ومع ذلك وبالرغم من مقدرة الجسم الإنساني على الإحساس بالكهرباء بلُمسها فإنه لم تكن أجسامنا يوماً ما أجهزة لائقة للتعرف على المحيط المتأثر بها، وكما أن العين ليست الوسيلة الوحيدة لمعرفة الظواهر الضوئية، كذلك اللمس ليس الوسيلة الأولى والأخيرة لمعرفة الظواهر الكهربائية، فلقد كانت هاتان الحاستان في حاجة لوسائل أخرى يتسنى لنا بها استجلاء هذه الظواهر في صورة أدق من تلك التي نعرفها لها، ولقد تقدمت الوسائط الطبيعية في معرفة الظواهر المختلفة حتى باتت حواسنا الخمس وحدها في المرتبة الأخيرة لمعرفة حقائق الكون إنما نروم من هذه الأسطر أن نلفت نظر القارئ إلى عبقرية (فراداي) الذي أدرك أن الكهرباء غير مستكنة في الأسلاك فحسب، وإنما في الفضاء المحيط بها أيضاً، فقد لاحظ أنه يمكن لكرة متصلة بمنبع كهربائي ذي ضغط عال أن تجذب كرة صغيرة معزولة موضوعة بالقرب منها، واستخلص من هذا أن الكهرباء كائنة في الفراغ المحيط بالكرة. ولقد لاحظ (فراداي) أنه بتقريبه إبرة ممغطسة من دائرة كهربائية تدور الإبرة حول محور دورانها
ما أسعد العالم بهذه المشاهدة الأخيرة لفراداي، وإذا كانت مركبات الكهرباء تجوب المدن الآن بسرعتها المعهودة، وإذا كان المصعد يعمل في عماراتنا بلا ملل طول اليوم صعوداً وهبوطاً؛ فما هذا أو ذاك إلا تطبيق مباشر لمشاهدات فراداي التي قصها لقرينته في يوم من أعياد الميلاد، ومات فراداي ولم يستمتع بركوب الترام ولم يشاهد المصعد، وهكذا نظر الباحثون من عهده إلى الكهرباء لا كمادة في الأسلاك فحسب، بل كمجال حولها أيضاً
أما اليوم فشدَّ ما تتابعت الطفرات العلمية، ولم يعد القارئ بحاجة ليستحضر إبرة ممغطسة ليرى آثار الكهرباء عن بعد، بل إنه يشاهد ذلك في تجاربه اليومية. ومن منا لم يشعر وهو يجوب بسيارة عرض المدينة بالتأثيرات المختلفة التي تحدثها أسلاك الترام على (الراديو) الذي أصبح في السيارات الخاصة في مصر والعامة في أوربا من دواعي الرفاهية؟
وقد يتساءل القارئ مالنا واللجوء إلى هذا الموضوع الذي يُعد من أبدع ما وصل أليه الإنسان في التقدم ولم ننته بعد من حل الأزمة العلمية الكبيرة التي ذكرناها له وشغلنا ذهنه بها في مقالات متواصلة؟ وهو بهذا التساؤل لا يرى صلة بين الظواهر الكهربائية وما ذكرناه من عدم استساغة الفكرة الأثيرية بعد تجربة (مبكلسون)، ولكننا لم نذكر مشاهدة (فراداي) عبثاً، فلم يكن انتباهه التجريبي ليمر دون أن يفيد منه البشر فقد تناول (مكسويل) الإنجليزي مشاهداته، ووضع نظريات هامة أصبحت بعده أساس الدراسة لأهم الظواهر الكهربائية، ولم يكتف (مكسويل) بتفسير الظواهر التي شاهدها الإنسان حتى عهده بل كان واثقاً من طريقه الرياضي وثوقاً جعله يتنبأ بظواهر أخرى لم تكن قد اكتشفت بعد ولم يكن قد دل عليها في زمانه العلم التجريبي، ذلك أنه استنتج من معادلاته الأساسية مجموعة أخرى من المعادلات أثبت بها أن الكهرباء تنتشر في الفراغ بحالة موجبة، وبهذا تنبأ بوجود الموجات الكهربائية، ولم يكن في عهده سبيل لإحداث هذه الأمواج والتثبت من صفاتها على هذا الشكل الموجي، ولكن (مكسويل) اعتبر أنها موجودة، واعتبر أن الموجات الضوئية ليست إلا أمواجاً كهربائية
من هذا يدرك القارئ لماذا نذكر الكهرباء مع الضوء الموجي وقبل أن نفسر كيف ساعدت هذه الخطوة الجريئة من (مكسويل) العلماء على التخلص من الأثير الذي افترضوه افتراضاً نذكر أولاً النتائج التجريبية العظمى التي خلص بها العالم من تفكير مكسويل الرائع ومن أداته الرياضية البديعة.
ولقد كان لهرتز الألماني الفضل الأول في الحصول على موجات كهربائية غير متصلة بموصل كهربائي، وتخترق الفضاء، واستطاع أن يعاملها كما نعامل الأشعة الضوئية فيعكسها مثلاً كما نعكس هذه الأشعة، واتجه كثير من الباحثين إلى دراسة هذه الناحية للأمواج الهرتزية، أو لم تتجه (ماري سكلودوفسكا) ذاتها المعروفة باسم مدام (كيري) شطر الأمواج الهرتزية قبل انشغالها بالنشاط الإشعاعي، وكشفها للراديوم؟. إننا نعرف أنها حاولت أن تتخذ لها مكاناً في معامل الأبحاث الطبيعية في السربون التي كان يديرها في ذلك العهد (ليمان المعروف بكشفه لفوتوغرافية الألوان، ولم يكن المكان ليتسع للأجهزة التي أرادت أن تستخدمها في بحثها، فاتجهت الطالبة البولونية شطر العالم (بكارل) في الوقت الذي كشف فيه أشعة الأيرانيوم، ولا نسرد الوقائع التي يعملها كل من تابع مقالاتنا، وما كان من أمر هذه الفتاة بعد ذلك فيما أوتيت من حظ في بحثها الموفق، فقد خرجت على العالم بالراديوم سنة 1897، وقبل ذلك العهد اتجه (برانلي) الفرنسي سنة 1891 عن غير قصد نحو الأمواج الكهربائية بدراسة طبيعة الكهرباء، ففاز بالكشف عن اللاسلكي؛ وكرت السنون وتقدم (برانلي) و (كيري) لعضوية المجمع العلمي الفرنسي، وفاز (برانلي) وخُذِلت (كيري). أو كان فيما قدمه (برانلي) للعالم ما جعل نصف هؤلاء الذين يسمونهم الخالدين يعرضون عن أعظم امرأة عرفها التاريخ؟ هذا ما سيدركه القارئ في هذه السطور
ليس المجال هنا لنشرح للقارئ جهاز (الراديو)، وسنعمد إلى ذلك عندما تنتهي من قصة العلم الشائقة ومن سرد التطورات التي حدثت في معارفنا عن الكون؛ ولكنا نوجز هنا من الخطوات التجريبية ما له علاقة بحديثنا، وهي خطوات كانت إلى حد كبير أساساً للانتشار الموجي الكهربائي
درس (برانلي) الضوء البنفسجي المنبعث من الشرارات الحادثة من (زجاجات ليد) وتوصل من هذه الدراسة إلى ما يسمونه اليوم التفريغ الموجي للمكثف الكهربائي فتوصل في الواقع إلى عمل مرسل للاسلكي، ولقد وضع (برانلي) في حجرة مجاورة للحجرة التي كانت بها زجاجات (ليد) (جالفانوميترا) ذا مرآة، وكان يستخدمه في دراسة المقاومة الكهربائية للوحة زجاجية مغطاة براسب من البلاتين وهي دراسة لا ترتبط في شئ ما بدراسة الشرارات الحادثة في الحجرة المجاورة وقد حدث في ساعة كان (برانلي) قريباً من (الجلفانومتر) بينما كان أحد مساعديه يشتغل على زجاجة (ليد) في الحجرة المجاورة. أن رأى (برانلي) رأي العين حركة فجائية سريعة في (الجلفانومتر) لفتت نظره ليدرس السبب في تغير التيار في هذه اللحظة التي لم يعمد فيها إلى تغييره، وبالأحرى أراد أن يعرف لماذا تغيرت المقاومة الكهربائية لهذه القطعة من الزجاج المغطاة بالبلاتين دون أن يسبب هو هذا التغيير. هذا البلاتين توزع بشكل معين وتجمعت جسيماته بشكل خاص كما تتجمع أو تنتظم البرادة الحديدية عند هزها، وقد فهم (برانلي) أن ثمة علاقة بين هذا الحادث وحادث التفريغ الكهربائي في الحجرة المجاورة. وبهذا توصل إلى اختراع أول نوع من المستقبل اللاسلكي يسمونه جهاز التماسك وبذلك يكون قد اخترع هذا العالم المرسلَ والمستقبِل، واستطاع بهما أن يرسل ويستقبل لمسافة تزيد عن 20 متراً وخلال الجدران الإشارات المنبعثة من دائرة كهربائية باعثة، وقد نشر (برانلي) كشفه فعُرف في أنحاء أوربا، وتطلب الباحثون الحصول على نتائج أهم من التي وصل إليها
ولقد كان الفضل في سنة 1899 - وبعد عشرة أعوام من تجارب برانلي الأولى - لماركوني الإيطالي في أن يبعث بإشارات تلغرافية لاسلكية تعبُر بحر المانش، فبعث بأول رسالة إلى (برانلي) نفسه، مشيراً بذلك إلى فضله الأول في الكشف عن اللاسلكي
وشاء الزمن للرجل الذي كشف جهاز التماسك أن يظل حياً حتى اليوم الذي رأى فيه رأي العين (التلفزيون))؛ وهذا يجعلنا نلمس السرعة الخارقة التي تقدمت فيها الكهرباء الموجية في الأربعين سنة الأخيرة
من كان يدري - عند ما عرف (أراجو) و (أمبير) و (أيرستد) آثار التيار الكهربائي لمسافة قريبة، وعندما تنبأ (ماكسويل) عن آثاره لمسافات بعيدة - أن سيصل الإنسان في فن الراديو للحد الذي وصل إليه اليوم؟
من كان يدري أن سيصل (ماركوني) و (فربيه و (فلمنج) إلى اختراع الصمام (اللمبة الإلكترونية) العجيبة فأتموا بها الأعمال الأولى والعظيمة للاسلكي أما (برانلي) فقد عاش فقيراً يلقي دروساً لطلبة (البكالوريا) وفي الأيام الأخيرة أنشأ المعهد الكاثوليكي معملاً له، وهو معمل مُغطى في أجزائه بطبقة من النحاس، فهو بذلك معزول تماماً عن الذبذبات الكهربائية الموجودة في أنحاء المدينة، تلك الذبذبات التي كانت تؤثر على أجهزته الدقيقة، فقد كان يمقت في سنيه الأخيرة الإذاعات اللاسلكية المستمرة التي تمنعه عن مواصلة أبحاثه، وحبس نفسه في ذلك القفص النحاسي لينجو من آثار كشفه الأول إلى أن وافتنا الأنباء بوفاته في الشهر الحالي عن 96 عاماً.
وأستميح القارئ عذراً في سرد جزء أصبح في الواقع بعد وفاة (برانلي) من أبواب التاريخ، فقد ذهب (برانلي) للتاريخ يحكم على أعماله، ولكن العمل الذي قدمه يستحق منا أكثر من هذه السطور
وسأحدث القارئ في المقال القادم عن سبر العلماء لمراحل الإشعاع المختلفة من الراديو إلى الأشعة النافذة مشيراً إلى عمل (لويه) وسيرى القارئ من كل ذلك أن الضوء والكهرباء أمواج كونية واحدة، بحيث لو أننا فقدنا البصر لأمكننا أن نعرف الموجودات، وسنطلعه على شيء يدور بخلدنا، ولمناسبة ما نخوض فيه الآن، عن احتمال قد يكون لصفات الأحياء التي لا زالت فرضية والتي قد تكون موجودة في الكواكب الأخرى. هذه تأملات تبدأ تأملات، ولكنها تصبح برنامجاً للقارئ نحدثه عنه قبل أن نحدثه عن الضوء كمادة في الوجود، وقبل أن نشرح له نوع التفكير الجديد للعالمين الكبيرين لورانتز وأينشتاين.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون
ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم
المهندسخانة