مجلة الرسالة/العدد 355/مزامير للنفس العربية!
→ على هامش الأبحاث النفسية والفلسفية | مجلة الرسالة - العدد 355 مزامير للنفس العربية! [[مؤلف:|]] |
في الاجتماع اللغوي ← |
بتاريخ: 22 - 04 - 1940 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
1 - خمائر المهد الأول
نحن الآن في قلب الجزيرة. . . في جاهليتها الأولى، الثرية بمعاني طفولة البشرية التي تملأ الحياة شعراً وتهاويل وأوهاماً. . .
نخوض في بحر من الرمال يغلي بالحرارة، ويبسط على الجلود لفحات من لظى تصيب الأجسام بقشعريرة من بَحَران الحمى التي تصهر الأجسام، وتجعلها جمرات مشبوبة المشاعر، ثائرة العناصر، حديدة المزاج، مكشوفة الرماد عن الطبع الخالص، والفطرة الصريحة. . .
ننقل الخطأ على تراب آبائنا الأولين، ونبحث فيه عن عظامهم التي غابت في التلال والرجام. . .
ونشم فيه دماءهم التي ابتلعتها الرمال المتعطشة أبدا مع ما ابتلعت من دموع الغمام. . .
ونحدق في الأضواء والظلمات إلى صورهم التي طبعت في ألواح الأثير مع ما صبته الشمس والكواكب من الأضواء والظلال. . . ونتسمع إلى أصواتهم التي فنيت في الصمت المطلق. . .
فتطالعنا من وراء الغيب أشباح لها وجوه سمراء، حادة النظرات، دقيقة الأنوف، عريضة الجباه، عليها سيما الكبرياء والاعتداد، وسهوم العزلة والتفرد. . .
يمتصون حرارة الصحراء، وينضحونها دماء حارة، وحرية حمراء. . .
ويصيدون النغم الذائب في الأجواء، ويصوغونه شعراً منثوراً ومنظوماً ببيان يقتحم الآذان، ويلقف العقول. . .
ينشدونه في هياكلهم المبنية بجدران من جبال، وأعمدة من نخيل فارعات كالمَردَة. . .
ويتغنون به في مواسم الحُب والحرب على حواف الآبار، وشواطئ بحار السراب والآل. . .
ويقيمون للبيان أسواقاً يعرضون فيها لعب الجن بأرواحهم وقلوبهم وألسنتهم، ويتركون أنفاسهم خالدة في ألفاظهم ميراثاً محفوظاً لمن يأتي بعدهم. . .
منثورون في صحرائهم محجوبون بها عن عيون الأمم الطامعة كأنهم جن متخفية في عالم بعيد. . .
سيوفهم شائلات كأذناب العقارب يضربون بها دفاعاً عن الحرمات، وعشقاً للحريات، وشراء للشرف والمكرمات. . .
إبلهم تهدر في صمت الصحراء بأصوات كالأمواج المحبوسة والزلازل المكتومة. . .
تسيل بها الأباطح راقصة برقابها البيض والسود ورؤوسها الصغيرة ذات العيون الساهمة. . .
يحدو لها إنسانها بأصوات صادرة من قلوب عميقة تيمها الحب والشوق الأبدي، وجرحها الفراق الدائم في سبيل الرعي والانتجاع وحب الأسفار والفرار من ثأر أو لإدراك ثأر. . .
يظعنون بها قوافل، عنق جمل في ذيل آخر، في خطوط طويلة ترتسم على الآفاق في الأماسي والأسحار والضحوات والأصائل. . . تحسبها أشباحاً ضالة تهيم في خيال شاعر. . .
حتى إذا وصلوا إلى شواطئ الحضارة في الشمال أو الشرق أخذوا حاجاتهم المحدودة من أسواقها، وتسقطوا أخبارها، ثم عادوا بجْر الحقائب بركب موسوق تعربد قلوبهم من الشوق إلى الحبائب اللواتي هن النعيم العزيز الوحيد للقلب العربي الذكي المحروم
والخيام تخفق فيها هبوات الريح على الرُّبا والتلاع، أمامها نيران موقدة تنادي بضوئها عيون الضالين الغرقى في أمواج البيد والظلمات. . .
والنيران راقصة عارية تغازلها عيون الرجال من بعيد. . .
والصبية والجواري يرقصن ويغنين بأصوات فيها أنغام محدودة مكررة. . .
وتحمل النسائم أصواتهن إلى آذان الخيل فترقص في حماسة وخيلاء. . .
ثم يفنى كل هذا في صمت الصحراء!
أمة اندمجت في الطبيعة، غابت فيها بأشخاصها، وعبدت مظاهر القوة فيها، وتسمى أفرادها بأسماء الجماد والنبات والوحش فقالوا: أسد وذئب وكلب وثعلب ونمر ويربوع وحجر وحنظل وجندب ومرة وزهرة وأنف الناقة. . .
ووضعوا قلوبهم على كل شئ فيها يتحسسون نبض الحياة، كما يعلق الفنان المستغرق قيثارته على الأغصان يتسمع بها إيقاع الريح ووسوسة الحصى واصطفاق الأمواج. . .
ثم خلعوا من أوهامهم الشاردة على الحجارة صوراً وتماثيل لمسوها بأيديهم وعبدوها في غيبوبة فكر وثوران قلب وقلة علم
والكهنة والعرافون - وهم الأذكياء منهم - اختلطت في نفوسهم رُؤَى الكون المبهم، وهم محرومون من تعليل العلم وهدى النبوات؛ فصارت الحياة أمامهم رموزاً وألغازاً شردت نومهم وجعلتهم يهيمون في أرض عبقر مع الجن والخفاء والخوف وصرخات الإنسان الضائع الفريد. . .
هؤلاء هم خميرتنا التي انحدرت منها إلينا عناصر ورواسب في الدماء وخصائص في الأعصاب. . .
نزلت في موجات وأنسال وأجيال إلى الهلال الخصيب في العراق ووادي النيل وجنات الشام في أدوار يعرفها التاريخ القديم. . .
هؤلاء هم الذين دائماً تلدهم الجزيرة الولود، ثم تقذفهم على أحضان بناتها و (داياتها): العراق والشام ومصر. ليخففن عنها الحمل ويتعهدن ما تلد. . .
هؤلاء هم الذين كانوا يلقحون دائماً ضعف أوطاننا بالقوة، ومرضها بالصحة، وتعقيدها بالبساطة. . .
هؤلاء هم الذين ولدوا الفراعين من عهد (مينا) في مصر، والآشوريين والبابليين في العراق، والفينيقيين في الشام؛ وهم الذين عمروا العالم القديم. . .
هؤلاء هم الذين ولدوا إبراهيم أبا أنبياء العالم المتحضر، فأخضعوا أشرف ما في الحياة لسلطانهم الروحي المتجدد على أيدي موسى وعيسى ومحمد
هؤلاء هم الذين اكتسحوا في موجتهم الكبرى جميع فروق التي كانت أبناء ما يحيط بهم وطَوْوا الجميع في الدين الواحد واللغة الواحدة والعادات الواحدة
وهؤلاء لا يزالون يعمرون بوادي الجزيرة محتفظين بحياتهم مبعثاً لقوتنا وتخليداً لدمائنا واحتفاظاً بميراثنا وبياناً لعراقتنا في الحرية والمساواة والعزة والفطرة
فواجبنا أن نلقي ببذورنا وغراسنا الناشئة إليهم في دور من أدوار التربية والتكوين لتتصل الطبائع بينابيع القوة. . . فنجعل الحياة معهم فترة من الزمن فرضاً محتوماً على الشباب من جميع أقطار الوطن العربي. . . فإن هذه الحياة الحرة القوية الصريحة الطبيعية سوف تترك خمائرها وآثارها في مقاومة الضعف والخناثة والبعد عن منطق الطبيعة وأسلوب الفطرة
وكما أن حياة البحر جزء من تكوين الإنجليزي فكذلك يجب أن تكون حياة البادية جزءاً من تكوين العربي حيثما كان. فالإنجليز يعتزون بحياة البحر وبالأخلاق المكتسبة منه كالصبر ومواجهة الصعاب والاعتداد بالنفس وحب الرحلة والكشف. . . فيجعلون الخدمة في الأسطول أمنية الأماني أمام الشباب
وكذلك يجب أن يعتز العربي بحياة البادية والخدمة في (أسطول الصحراء)؛ فإنها تترك نفس الآثار والنتائج التي تتركها خدمة البحر في النفس
إن العربي بقوامه الممشوق الذي ليس فيه ترهل وفضول، وبمجموعته العصبية القوية، وبملامحه الحادة ومنطقه السريع المحكم المبين، وبشهامته وكرمه وشجاعته وتقاليد فروسيته، وشاعريته - ثروةٌ عظيمة تغنى الناس بكثير من الأخلاق التي يفتقدونها الآن فلا يجدونها. وقد صارت له صورة رمزية شعرية في أذهان الأمم يحيد بها إطار من هذه الأخلاق
وهو إن كان في باديته معدوداً من الإنسان البُدائي فإن اختياره هذه الحياة وتجميلها بصفات ربما لا يحظى بشرفها غيره من سكان العالم المتحضر، قد جعل الأمم تنظر إليه نظرة خاصة غير النظرة التي تأخذون بها من هم في مستواه الاجتماعي والاقتصادي في البوادي والحواضر
في قلب الجزيرة الآن دولة هي معجزة من معجزات هذه الأمة التي طالما ملأت التاريخ بالمعجزات
دولة هي في سلامها وأمنها حديث صامت من أحاديث القدر يرسله في القرن العشرين درساً لمن ملأوا الدنيا قوة ودساتير وشرائع لكفالة النظام والسلام، ومع ذلك لا يزالون مطاردين من الهدم والفوضى والإجرام
دولة أقامها ووطدها رجل لا يعرف تزويق الكلام ولا مضغ الأحاديث، إنما عرف الطبيعة والفطرة واستمد من أحكام كتابهما وميراث رسولهما. . . فأقام دولة الأحلام التي زعموا أن الذئب رعى فيها الأغنام. . .
دولة مجدت الطبيعة العربية وأبرزتها في إطار من فن البداوة في القرن العشرين، وجلت ميراثها القديم الذي صار من إيغاله في القدم جديداً طارفاً وبدعاً مستحدثاً. . .
وكان لابد من قيامها في نهضة العرب هذه لرد الإيمان إلى قلوبهم وبعث الحنين في نفوسهم إلى مهدهم الأول وعرشهم الأبدي. . . فهي عنوان عريض ودليل جديد على أن أصول حياتهم عريقة واشجة في مناجم الحياة ومنابت الناس. . .
فليحتفظ العرب دائماً بخمائر حياتهم ووراثات مهدهم الأول مجردة من الوثنيات والجهالات. . .
وليسبغوا على الحياة في قلب الجزيرة جواً من فن الفكر وشعر الروح. . .
وليفروا إليه فترة من الزمان ليخلعوا عن أنفسهم آثار الحياة في التعقيد والتكلف والضعف الذي يستلزمه الخوض في الطين والحرير والطرق المعبدة التي ليس فيها شوك وقتاد. . .
إنما الإسلام في الصحرا امتهد ... ليجئ كل مسلم أسد!
(القاهرة)
عبد المنعم خلاف